11/6/2007
حين تحولت البيوت الطينية في القري إلي غابات من الأسمنت في قلب الخضرة تبدلت قلوب الناس في ريف مصر , لم تعد هناك تلك السماحة في الوجوه … ولم يعد لدي الفلاح تلك القدرة علي الاحتمال والصبر فمنذ السبعينيات ومع بداية هجرة العمالة المصرية إلي دول الخليج والتي تواكبت مع دخول الكهرباء في الريف ظهر نمط جديد من الاستهلاك لا يقيم وزنا للعلاقات الإنسانية ولا للتآخي أو التراحم أو سهرات السمر علي ” المصاطب ” تحت ضوء القمر , وحين دخل التليفزيون والغسالة والثلاجة والبوتاجاز وأجهزة التسجيل والمراوح بيوت الفلاحين خرج منها في المقابل الفطرة الصافية الرقراقة والإحساس بالآخرين وإنكار الذات , ثم جاءت سياسات الحكومة التي تبنت تحرير الأرض الزراعية خاصة والإنتاج الزراعي عامة مع منع الدعم عن المزارعين لتدق المسمار الأخير في نعش ذلك الفلاح الذي كنا نعرفه , فقد سيطرت القيم المادية علي القيم الإنسانية وكانت النتيجة الحتمية أن تزداد حدة العنف في الريف المصري وأن يصبح الفلاح في حالة صراع مع الأخر بعد أن كان في حالة تعاون وتآخي تصل إلي حد إنكار الذات , وكان لزاما أن يسقط المزيد من الضحايا في ذلك السباق المحموم , وأن تستباح المحرمات منها حرمة دم ذوى القربى أو ما يمتون إليهم بصلة الرحم …. والمأساة أن معظم أسباب تلك الحوادث كانت لأسباب تافهة مثل أولوية الدور في الري أو الحدود بين الأرض الزراعية , غير أننا في المقابل رصدنا في الأشهر الأخيرة استخدام الفلاحين للمظاهرات كسلاح جديد علي المجتمع الريفي في مواجهة المظالم , وما بين استخدام العنف واستخدام المظاهرات كأحد أشكال التعبير السلمي يكمن التناقض , وهو الأمر الذي يجب أن نلتفت إليه ونبحث عن جذوره وبواعثه , ولقد شهد شهر مايو خمسة حوادث عنف بين الفلاحين سقط من جرائها خمسة قتلي وثلاثة مصابون , كما شهد أيضا قيام الفلاحين بمظاهرة واحدة …!
ففي الفيوم تظاهر مئات الفلاحين أمام مصنع السكر احتجاجا علي رفض إدارة الشركة استلام محصول البنجر الذي تم التعاقد عليه قبل زراعته , وقد سعت إدارة الشركة لهذا الإجراء في محاولة منها لتخفيض سعر توريد البنجر من خلال الضغط علي المزارعين ورفض استلام المحصول , والمعروف أن الفلاح لا يقوم بجمع وتحميل المحصول إلا بالإتفاق مع المهندس المختص والذي يمنح الفلاحين ” كارثه دخول ” لهذا الغرض , وقد أكد الفلاحون المتظاهرون أنهم لن يستسلموا للضغوط التي تمارس عليهم وأنهم لم يقبلوا إلا باستلام الشركة للمحصول بالسعر المتفق عليه …!
وفي محافظة البحيرة شهدت قرية منشية أمين إسماعيل بكوم حمادة جريمة قتل بشعة , فقد قام المزارع أحمد صالح السيد الإبياري بقتل شقيقه هاني بسكين المطبخ لرفضه الخروج من المنزل للعمل بالأرض الزراعية , فقد انهال عليه بالطعنات حتى أرداه قتيلا في الحال ..!
وفي محافظة الإسماعيلية شهدت قرية أبو عطوة جريمة أخري لا تقل بشاعة حين قام محمود ” 21 سنة ” بقتل عمه عبد الوهاب ” 55 سنة ” لخلاف علي ميراث في الأرض الزراعية ,ففي يوم الحادث فوجئ المتهم بوالدته تخبره بأن عمه قام بتوجيه السباب والشتائم لها أمام الجيران , فما كان منه إلا أن أخذ سكينا أخفاه بين طيات ملابسه وتوجه إلي منزل عمه القريب منه واقتحمه وسدد لعمه طعنات نافذة بالرقبة والصدر وتركه غارقا في دمائه , فشلت محاولات إنقاذ العم , وتم القبض علي المتهم ….!
الأخ يقتل أخاه والابن يقتل العم ,حادثتان تؤكدان ما توصلنا إليه , أن الريف المصري بما حدث به من تغيرات أصبح في قلب الخطر …!
وفي محافظة أسيوط شهدت قرية مير بمركز القوصية مقتل اثنين من المزارعين : ونرجو الالتفاف إلي أسباب ذلك الحادث ” فقد حدث خلاف بين أحد أبناء عائلة الجمل ويدعي محمد محمد إبراهيم وبين علام محمد من عائلة بدوي بسبب مرور ابن شقيق الأخير بزراعات عائلة الجمل , تطور الخلاف إلي مشاجرة قام علي إثرها الطرفان بإطلاق الأعيرة النارية مما أدي إلي مقتل اثنين من المزارعين…
إلي هذا الحد وصل العنف في الريف المصري , فبمجرد أن مر مزارع بزراعات عائلة أخري كان ذلك سببا لقيام معركة بالأسلحة النارية ….فماذا يكون الحال لو سب أحد أ شتم آخر … هل تقوم حرب أهلية …!
وفي محافظة المنيا شهدت قرية ” الكايشة ” مركز سمالوط معركة أخري أسفرت عن مقتل المزارع عبد الماجد عطا محمد إثر إصابته بعدة طلقات في أنحاء متفرقة من جسده . كما أصيب ابنه مصطفي بطلق ناري بالقدم اليسري وزوجته أميمة علي بركات بطلق ناري باليد اليمني كما أصيب المزارع أبو الحسن إبراهيم برصاصة بالقدم , وقد تبين من التحريات أن وراء تلك الحادثة كلا من جمال عكاشة ويسري عكاشة ومصطفي محمد وهاني وجيه وأحمد محمد وجميعهم من عائلة العكايشة لوجود خصومات بين الأسرتين بسبب الخلاف علي الحدود بين الأرض الزراعية , تم القبض علي المتهمين وتواصل النيابة التحقيق …!
الحادثة الوحيدة التي لم تشهد سقوط ضحايا وقعت في قرية بهناي مركز الباجور بمحافظة المنوفية , فقد وقعت مشاجرة بين عادل كمال عبد الملك ووحيد نبيل وإبراهيم شبانة استخدم فيها العصا والشوم بسبب النزاع علي أولوية ري الأرض الزراعية , وتم تحرير المحضر رقم 3484 إداري ” الباجور ” …!
كل الشواهد تؤكد أن سياسة الإفقار التي تتبعها الحكومات المتعاقبة تجاه الفلاحين أدت إلي تفاقم العنف في الريف المصري … وهو الأمر الذي يجب أن نلتفت إليه بشدة …قبل فوات الأوان …!