17/4/2005
بعث مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بمذكرة إلى السيد رئيس الجمهورية بوصفه رأس السلطة التنفيذية يدعوه فيها إلى إجراء تحقيق عاجل في جرائم حقوق الإنسان الخطيرة التي تضمنها التقرير السنوي الأول للمجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي صدر منذ أيام، كما وجه مذكرة مماثلة إلى رئيس مجلس الشعب لإجراء تحقيق مواز باعتبار أن البرلمان هو الرقيب على أداء السلطة التنفيذية، وذلك بمقتضى المواد 73 و87 و131 و137 و155 و159 من الدستور المصري، التي تتعلق بسلطات ومسئوليات رئيس الجمهورية ومجلس الشعب في هذا المجال.
ومن أبرز هذه الجرائم:
أولا: استخدام مصر كسلخانة تحول إليها المخابرات الأمريكية الإرهابيين المشتبه فيهم المختطفين من دول أخرى، لانتزاع الاعترافات منهم تحت التعذيب، قبل إيداعهم في جوانتنامو أو إعادتهم إلى النقطة التي اختطفوا منها (ص264، 265 من التقرير).
ثانيا: شيوع أساليب التعذيب -المفضي إلى الموت (ص144، 150، 252، 253، 254)- بأقسى الوسائل، بما في ذلك الصعق بالكهرباء والتعليق والضرب والتحرش الجنسي والتهديد بالاعتداء الجنسي (ص147، 148، 152، 258، 262، 263)، واعتقال أسر بكاملها بما في ذلك النساء والأطفال والتنكيل بهم، واتخاذهم كرهائن (ص138). وقد رصد التقرير المواقع التي جرى فيها التعذيب في مقار تابعة للأمن بطول وعرض البلاد، مما يؤكد مدى شيوعه، وأنه ليس ممارسات فردية. حتى أن التقرير استخدم تعبير “التعذيب العشوائي” ص124.
ثالثا: “الانتهاك الصارخ للشرعية القانونية” -وفقا لنص التقرير- وذلك بالاعتقال المتواصل لسنوات متعددة تتجاوز أحيانا عشر سنوات، دون سند من قانون الطوارئ، وبتحايل من وزارة الداخلية على القانون (ص136، 137، 239، 259).
رابعا: استخدام وزارة الداخلية مراكز احتجاز غير قانونية بالمخالفة للقانون، ولا تخضع لرقابة النيابة أو القضاء، مثل مقار مباحث أمن الدولة، فضلا عن تعرض المحتجزين فيها للتعذيب (ص135، 145، 150، 333).
خامسا: تحول الاختفاء القسري إلى ظاهرة تتوسع يوما بعد يوم (ص273، 274).
سادسا: تردي قدرة النيابة على حماية الضحايا من التعذيب أو تكراره ص153، أو تواطؤها ص263، أو تهاونها ص266، 330.
سابعا: فرض الوصاية الحكومية على الانتخابات العمالية والطلابية، وحرمان جيل كامل من المهنيين من ممارسة حقهم الانتخابي النقابي لمدة تصل إلى 11 عاما، بسبب تجميد الانتخابات في 11 نقابة مهنية (ص283).
ثامنا: هيمنة أجهزة الأمن على قرار وزارة الشئون الاجتماعية فيما يتعلق بإشهار الجمعيات الأهلية، دون سند من القانون (ص172، 173).
تاسعا: تعطيل عدد من الوزارات والمؤسسات الحكومية إعمال المادة 72 من الدستور، التي تلزم باحترام وتنفيذ أحكام القضاء، ومن هذه الوزارات والمؤسسات وزارة الداخلية ووزارة القوى العاملة، وإدارات بعض الجامعات (ص136، 169، 171، 260، 261، 263).
وقد حثت مذكرة مركز القاهرة رئيس الجمهورية على إصدار تعليمات مشددة للوزارات والأجهزة الحكومية، وخاصة وزارات الداخلية والعدل والنائب العام على التعاون مع المجلس القومي لحقوق الإنسان، والرد على مراسلاته وشكاوى المواطنين المحولة إليه، حيث يدين التقرير في ص234 “عدم تفاعل وزارة الداخلية والعدل والنائب العام مع مخاطبات المجلس بشأن انتهاكات حقوق الإنسان”، و”تجاهل نوعية معينة من مخاطبات المجلس وعدم الرد عليها نهائيا”.
كما يلاحظ التقرير تخلي وزارة العدل والنائب العام عن بعض الصلاحيات المكفولة لهم بحكم الدستور والقانون، وذلك لصالح وزارة الداخلية وعلى حساب حقوق المواطنين، حسبما تكشف من التقرير بشأن حالات الاختفاء القسري والتعذيب والاعتقال (ص239، 241، 242). انفصام في الشخصية:
إن المساهمة الهامة لهذا التقرير لا تقلل من شأن عدد من الأخطاء الجسيمة التي وقع فيها، وعلى رأسها:
1- إعادة تبني دفاع الحكومة غير المقنع عن نفسها أمام لجان الأمم المتحدة، فيما يتعلق باتساق الدستور والتشريع المصري مع حقوق الإنسان، خاصة وأن هذا الدفاع بطبيعته يتناقض نصا وروحا مع الجرائم والاتهامات الخطيرة التي تضمنتها الأقسام الأخرى من التقرير، فضلا عن أنه لا يستقيم مع مطالبة المجلس بتعديل جملة من التشريعات لأنها لا تتسق مع مبادئ حقوق الإنسان، بل يقوّض أسس هذه المطالبات، طالما أن تقرير المجلس ذاته يشير إلى أن التشريع المصري يتسق مع مبادئ حقوق الإنسان(!).
إن التقرير يعاني من انفصام لا حل له -لأنه كامن في تركيبة المجلس ذاته- فهو يقول للقارئ في فصله الثاني أن الدستور والتشريع المصري يكفل حماية حقوق الإنسان بصورة رائعة، بينما تصرخ الفصول الأخرى من التقرير بأن حقوق الإنسان لا تتمتع بحد أدنى من الحماية(!) إن حقوق المؤلف في ذلك الفصل من التقرير يجب أن تمنح للحكومة! 2-إن مظاهر انفصام الشخصية لا تنحصر بهذا الفصل وحده، بل تتكرر في أكثر من موضع في هذا التقرير، منها مقدمته التي تشكر الحكومة على تعاونها مع المجلس، بينما يشكو الفصل الخاص بالشكاوى عدة مرات من عدم تعاون الحكومة مع المجلس
! إن هذا الانفصام في شخصية التقرير، هو انعكاس لعجز إدارة المجلس عن بناء هوية محددة للمجلس ذاته، فلا هو مجلس تابع للحكومة تماما ومدافع عنها، ولا هو قادر على انتزاع شخصية مستقلة عنها، ولا هو في موقع وسطي (أي قادر على حماية استقلاله، ولا يرفع صوته في كل مناسبة، بل يختار بعناية المناسبات التي يتحدث فيها، وبصوت منخفض).
لذا فقد صار المجلس كرة تتقاذفها الحكومة والرأي العام، وتحوّل وجهه إلى مسخ مشوه يصعب التعرف على ملامحه.
نفس الأمر ينطبق على التقرير.
3- نظرا لتبني التقرير لوجهة النظر الحكومية فيما يتعلق بالدستور، فقد أغفل أي إشارة إلى أبرز مصادر الخلل الرئيسية فيه، وهو الطغيان الهائل للسلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وانعدام وجود آليات مؤسساتية جادة للمحاسبة، مما مكّن ليس فقط من حدوث جرائم حقوق الإنسان التي يعرض لها التقرير، بل وأيضا العجز عن وضع حد لها أو المحاسبة عليها لعدة عقود مضت.
4- جاء تناول التقرير لعدد من القضايا الهامة مبتسرا للغاية، ومن أبرز هذه القضايا:
وضعية وضمانات استقلال القضاء في الممارسة، حرية إنشاء ونشاط مؤسسات المجتمع المدني، وبخاصة المنظمات غير الحكومية والنقابات والإعلام، فضلا عن الأحزاب السياسية. وكذلك ما يتعلق بالمسألة القبطية، والدور الرقابي الذي تمارسه المؤسسة الدينية، على حرية الفكر والإبداع الأدبي والفني، ودور مناهج التعليم الأزهري في بث أفكار منافية لحقوق الإنسان وروح الإسلام ذاته.
5- تناقض ما ذكره التقرير عن إشادة وفد المجلس بتحسن أحوال السجون التي زارها، مع ما ذكره التقرير في عدة مواضع أخرى عن الوضعية الفعلية البائسة للسجون، وعدم توافر مقومات الحياة الآدمية فيها! (وفقا لشكاوى المواطنين التي تلقاها، وتقارير منظمات حقوق الإنسان التي استند إليها التقرير).
6- ارتكبت إدارة المجلس خطأً مهنياً جسيما، حين لم تمنح للحكومة أي مهلة للرد على هذا التقرير قبل نشره -وفقا للأعراف والتقاليد المهنية المرعية للمنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان والمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان- بل بادرت بتوزيعه على الإعلام والأطراف الأخرى المحلية والدولية في نفس الوقت، مما حوّل التقرير إلى قضية رأي عام، قبل أن تتاح فرصة أخيرة لحوار جاد محتمل مع الحكومة، التي صار عليها أن ترد على المجلس والرأي العام في نفس الوقت.
7- وأخيرا، جاءت التوصيات التي انتهى إليها التقرير ومقدمته ضعيفة، ولا تتناسب مع جسامة وخطورة الجرائم التي تضمنها.
ورغم أن هذا التقرير لم يضف معلومات جديدة عما تتضمنه تقارير المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية من انتهاكات حقوق الإنسان في مصر خلال أكثر من 15 عاما، إلا أن التقرير يكتسب أهمية سياسية استثنائية، لأنه صادر عن هيئة أنشأتها الدولة واختارت أعضاءها، ما لم تلجأ الحكومة إلى نفس الذريعة التي ترد بها على تقارير وانتقادات المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان، والقائلة بأن تقاريرها تعكس رغبات الممولين الأجانب(!)
حيث إن مقدمة تقرير المجلس القومي تقول بأنه جرى تمويله من الصندوق الإنمائي للأمم المتحدة، المعروف بأنه يجمع بعض موارده من سفارات الدول الأجنبية، التي تمول أيضا برنامج الحكومة المصرية لدعم القدرات في مجال حقوق الإنسان، والمجلس القومي للمرأة.
ولا شك أن لجنة حقوق الإنسان في مجلس الشعب -التي تفرغت منذ إنشائها للهجوم على منظمات حقوق الإنسان(!)- ربما تجد لها وظيفة أخرى من خلال هذا التقرير!
أخيرا، فإن مركز القاهرة يلاحظ أن رسوخ التقييم السلبي للمجلس -عن حق- لدى أوساط الرأي العام قد انعكس على فتور استقباله للتقرير، والتركيز على جوانبه السلبية*، وإغفال جوانبه الإيجابية -وهى الأهم- والتي هى ثمرة الموقف النقدي البناء الذي اتخذته عدد من فعاليات الرأي العام، وعلى رأسها منظمات حقوق الإنسان وبعض الصحف الحزبية والمستقلة، وعدد متزايد من أعضاء المجلس القومي ذاته.
ولذا فإن مركز القاهرة يحث كافة فعاليات الرأي العام من أحزاب ونقابات ومنظمات غير حكومية وإعلام إلى القيام بمناقشة معمقة لهذا التقرير، باعتباره واحداً من أهم وأخطر الوثائق السياسية الخاصة بهذه المرحلة الهامة من حياة المصريين، وحث الحكومة على تقديم تفسير وافٍ للشعب المصري، للاتهامات والجرائم الخطيرة الواردة في هذا التقرير، وتقديم اعتذار مقنع عنها، وإحالة مرتكبيها للتحقيق، ووضع ضمانات مؤسساتية لعدم استمرار حدوثها.
إن المجلس القومي لحقوق الإنسان ليس دارا لنشر الكتب والتقارير لمجرد تثقيف القراء، بل هو مؤسسة أنشأتها الدولة كآلية وطنية لحماية حقوق الإنسان، فإما أن ترد الحكومة على التقرير، أو أن يقوم حزبها -من خلال مجلس الشورى- الذي يتمتع فيه بالأغلبية الساحقة بحل المجلس القومي الذي أنشأه، إذا كانت اتهامات التقرير لا أساس لها.