24/9/2007
أكدت دراسة حديثة أصدرها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان أن ثورة المعلومات والدخول في عصر الأقمار الصناعية والفضائيات ودعاوى إعادة هيكلة وتطوير قطاع الإعلام السمعي والمرئي التي عرفتها بعض البلدان العربية في السنوات الأخيرة، لم يترتب عليها إحداث قطيعة مع إرث الهيمنة والاحتكار المفروضين من قبل الحكومات العربية على الإعلام السمعي والمرئي على وجه الخصوص؛ ومن ثم تتضاءل إلى حد كبير فرص الانتقال إلى إعلام تعددي حر ومستقل كما تعرفه المجتمعات الديمقراطية.
وشددت الدراسة على أن تحرير قطاع البث السمعي والمرئي لن يتأتى بمعزل عن تحرير مختلف الوسائط الإعلامية وإطلاق حريات التعبير، ومراجعة مختلف القيود التي تفرضها الحكومات العربية على حرية تداول المعلومات والآراء والأفكار، وعلى حق الإعلاميين في النفاذ إلى المعلومات وبثها.
الدراسة التي صدرت في أكثر من 400 صفحة تحت عنوان ” الإعلام في العالم العربي بين التحرير وإعادة إنتاج الهيمنة” استهدفت بالدرجة الأولى إلقاء الضوء على وضعية البث الإعلامي السمعي والمرئي في كل من مصر والأردن والمغرب، وتحليل التوجهات والأفكار، التي اتخذتها أو أعلنت عنها هذه البلدان تحت دعاوى تحرير قطاع البث وإعادة هيكلته، ومعرفة إلى أي مدى تتماشى هذه التوجهات مع المعايير والقواعد التي عرفتها المجتمعات الديمقراطية، لضمان حرية البث الإعلامي؟!. وقد أكدت مستخلصات الدراسة أن الهوة ما تزال واسعة للغاية بين ما عرفته هذه البلدان من تطورات محدودة وبين ضمانات حرية الإعلام في البلدان الديمقراطية، ولفتت النظر إلى وجود قواسم مشتركة تحاصر حرية الإعلام، يستوي في ذلك المغرب التي دخلت منذ منتصف التسعينيات مسارا للانتقال الديمقراطي، ارتفع معه سقف التوقعات حول فرص تحرير الإعلام، مثلما يصدق أيضا على الأردن الذي يجري تسويقه باعتباره نظاما يتقرب من معايير الحكم الرشيد، التي تقتضي إطلاق الحريات الإعلامية وتدعيم قواعد الشفافية والمحاسبية. ولا يختلف الأمر في مصر التي شهدت في السنوات الأخيرة أكبر ضجيج حول مطالب الإصلاح الديمقراطي، وحراكا لم تألفه من قبل أسهم -ولو بصفة مؤقتة- في انتزاع هامش أوسع لحرية التعبير، وإن بقيت المنظومة التشريعية المعادية للحريات كفيلة بقمع هذه الحرية عند اللزوم، وهو ما شهده العام الأخير على وجه الخصوص، وتبدت بعض مظاهره الصارخة التي رصدتها الدراسة في المحاكمة العسكرية لبرلماني معارض بسبب آرائه المعلنة عبر بعض الفضائيات، وإدانة مراسلة قناة الجزيرة بسبب إعدادها فيلم وثائقي عن التعذيب، وسجن مدون لمدة أربع سنوات بدعوى ازدراء الأديان وإهانة رئيس الجمهورية، فضلا عما تشهده الأيام الأخيرة من هجوم وتحريض صارخ على الصحافة المستقلة وعقوبات بالسجن، استهدفت أربعة من رؤساء تحرير الصحف المستقلة والحزبية.
وأكدت الدراسة أن أهم القواسم المشتركة التي تعوق حرية الإعلام في عالمنا العربي، وفي البلدان الثلاثة على وجه الخصوص تتمثل في:
- اتساع نطاق التجريم بصورة تفوق بشكل هائل القيود المقبولة في المجتمعات الديمقراطية على حرية الإعلام وحرية التعبير، فضلا عن نزوع المشرع إلى المعاقبة على هذه الجرائم بالعقوبات السالبة للحرية، ولاحظت الدراسة في هذا الإطار أن المغرب قد قلص من نطاق تطبيق هذه العقوبات، وإن لم يفض ذلك إلى قطيعة نهائية معها، وفي حين لم يشهد الأردن تطورا ذا شأن في مجال الحد من تلك العقوبة، فإن الوعود الرسمية المعلنة في مصر بشأن إلغاء عقوبة الحبس انتهى بها الأمر إلى تعديلات مبتسرة للغاية تبقي على تلك العقوبة في الغالب الأعم من النصوص التي تجرم حرية الرأي والتعبير وتداول المعلومات.
- اتساع دائرة القيود الصارمة على حق الإعلاميين في الحصول على المعلومات، بحيث بات الاستثناء هو إباحة نشر المعلومات.
- تنامي الضغوط المجتمعية المناوئة لحرية الإعلام بفعل سمات الثقافة السياسية السائدة ذات الطابع المحافظ وبفعل تصاعد نفوذ وتأثير تيارات الإسلام السياسي التي غالت في توظيف الدين والتقاليد الاجتماعية في إثارة حملات مناوئة لحرية الإعلام. ولاحظت الدراسة أن صعود تيارات الإسلام السياسي يدفع الحكومات بدورها إلى مسايرة خطاب هذه التيارات، بل وربما المزايدة عليه بما يقود إلى تصعيد الضغوط على الحريات الإعلامية.
وأكدت الدراسة أن الخطوات التي شهدها الأردن والمغرب على مدى السنوات الخمس الأخيرة فيما يتعلق بإعادة هيكلة قطاع الإعلام المرئي والمسموع، وكذلك الأفكار التي طرحتها الحكومة المصرية، والتي لم تترجم بعد إلى تشريع نافذ تنطلق في مجملها من ذات الفلسفة التي كرست هيمنة الحكومات العربية على هذا القطاع منذ الاستقلال وعلى مدى عدة عقود. وأشارت الدراسة في هذا الصدد إلى أن إنشاء مجالس أو هيئات لتنظيم هذا القطاع، كما هو حادث في المغرب والأردن، وكما تبشر به الحكومة المصرية عبر ما أعلنه وزير الإعلام من نوايا لإنشاء الجهاز القومي لتنظيم البث السمعي والمرئي، لا يرقى بأي حال إلى ما عرفته المجتمعات الديمقراطية التي أناطت مهمة تنظيم هذا القطاع إلى هيئات تتمتع باستقلال مالي وإداري عن الحكومة وعن أي حزب. بيد أن واقع الحال في المغرب والأردن يشير إلى أن هذه الهيئات تخضع إلى سيطرة السلطة التنفيذية على تشكيلها، وعلى تسيير أمورها بشكل كبير.
وفي مصر فإن النوايا المعلنة تخضع الجهاز المزمع إنشائه لإشراف وزير الإعلام الذي من المنتظر أن يتولى بنفسه رئاسة مجلس إدارة هذا الجهاز، وفي إطار هذه التوجهات المعلنة، فإن مجلس إدارة الجهاز سوف يغلب على تشكيله واختيار أعضائه الارتباط الوثيق بالسلطة التنفيذية.
وعلى الرغم من أن الدراسة تشير إلى دخول البلدان الثلاثة مجال البث الخاص إلى أنها تلاحظ أن ذلك لم يقترن بإعادة النظر في النهج الحكومي المتمثل في الاستئثار بمجال البث العام واحتكاره وتوجيه محتوى برامجه. ولفتت الدراسة النظر إلى أنه حتى في ظل الأفكار التي طرحتها الحكومة المصرية حول تحرير مرفق البث العام المملوك للدولة، فإن التصريحات الرسمية لوزير الإعلام أكدت أن محطات البث المختصة بالخدمة الإخبارية ستبقى حقوق الملكية فيها حكرا على الدولة، وهو ما يعني استمرار احتكار الدولة لعملية البث السياسي وتوجيهه في الإطار الذي يخدم أغراضها.
وطالبت الدراسة في توصياتها بإعادة تنظيم قطاع البث السمعي والمرئي بما يلي:
- وضع حد نهائي لسيطرة الحكومات واحتكارها لمجال البث العام بما يضمن تحول هذا القطاع إلى مؤسسات خدمة عامة للجمهور وتتميز بالاستقلالية على مستوى الإدارة والتمويل والبرامج.
- إخضاع إدارة وتنظيم قطاع البث السمعي والبصري إلى مجالس وهيئات تنظيمية تتمتع بالاستقلالية المالية والإدارية التي تجعلها بمنأى عن ضغوط السلطة السياسية، وينبغي أن تمنح هذه الهيئات صلاحيات تقريرية وتنفيذية.
- تفوض الهيئات التنظيمية لقطاع البث بسلطة منح ترخيص البث وفقا لقواعد ومعايير واضحة ومنضبطة يحددها القانون، وأن يجري تطبيق هذه القواعد في إطار من الشفافية والعلنية لضمان عدم التحيز.
- ينبغي أن يحظر بموجب القانون أي شكل من أشكال الرقابة المسبقة على محتوى البث ومضمونه، وتتولى الهيئات التنظيمية مهمة متابعة ومراقبة ما يبث لضمان الالتزام بالشروط الموضوعة بالقانون، أو التي يتضمنها ترخيص البث، وعلى وجه الخصوص لضمان التزام وسائل البث باحترام التعددية الفكرية والسياسية والثقافية، والقيود المقبولة على حرية التعبير وفقا للقانون الدولي.
شارك في إعداد الدراسة الباحث المغربي عبد الكريم العبدلاوي، والباحث والمحامي الأردني محمد قطيشات، وعصام الدين محمد حسن الباحث بمركز القاهرة، والذي أشرف أيضا على تحرير الدراسة بصورتها النهائية.
وقد تضمنت الدراسة ملحقا وثائقيا يتضمن القوانين ذات الصلة بقطاع البث السمعي والمرئي في بلدان الدراسة، علاوة على عدد من الوثائق ذات الصلة بالمعايير والقواعد المعمول بها في المجتمعات الديمقراطية، لضمان حرية البث. ويأمل مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان أن يسهم نشر هذه الدراسة في إثارة أوسع نقاش حول فرص ومعايير ضمانات الانتقال إلى إعلام تعددي حر مستقل في مصر وفي العالم العربي عموما.