27/3/2009

تقترن الذكرى الثالثة والخمسون لـ”إعلان الاستقلال” هذه السنة بالذكرى الخمسين لـ”إعلان الدستور”، وهما حدثان انتظر منهما الشعب التونسي الكثير بعد التضحيات الجسيمة التي تكبّدها في النضال من أجل طرد المستعمر واستعادة سيادته ومسك مصيره بيده. ولكنّ آماله خابت. فقد ظل طوال أكثر من نصف قرن يعاني من الحكم الفردي المطلق الذي اتخذ شكل الرئاسة مدى الحياة ومما اقترن به من قمع للحريات الفردية والعامة وانتهاك لسيادة الشعب وتوظيف للقضاء، في غياب الفصل بين السلطات، لضرب الخصوم السياسيين واستبدال سيادة القانون بسيادة التعليمات. كل ذلك خدمة للحزب الواحد ولمصالح الفئات المستفيدة من نفوذه.

ورغم الوعود التي أغدقها الحكم الحالي في7 نوفمبر 1987 على الشعب التونسي وعلى نخبه فإن الأوضاع لم تتغير إن لم تزدد سوء بحكم اشتداد الاستبداد السياسي وتغوّل الأجهزة الأمنية واشتداد قبضتها على المجتمع وتفاقم تبعية الجهاز القضائي واتساع دائرة القمع الذي لم تفلت منه أية عائلة فكرية وسياسية وتفشي ظاهرة الفساد الاقتصادي والمالي وتعمّق الفوارق الاجتماعية والجهوية وتزايد التبعية للدول والشركات الأجنبية التي كان لها نصيب الأسد في الخوصصة التي طالت معظم القطاعات الاقتصادية.

إن الأوضاع التي تعيشها بلادنا اليوم، أشهرا قبل موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة لهي ذات دلالة. فعلى عكس ما كان ينتظره الرأي العام من انفراج في الحياة السياسية حتى يكون لتلك الانتخابات حد أدنى من المصداقية فإن تشديد الانغلاق هو سيد الموقف. فلا يكاد يمر يوم دون تسجيل تضييق جديد على حرية التعبير والإعلام والتنظـّم والاجتماع والتنقل داخل البلاد وخارجها أو اعتداء على ناشطة أو ناشط في هذا المجال أو ذاك أو اختطاف أو احتجاز دون موجب قانوني أو اعتقال أو محاكمة جائرة أو حملة تشويهية على هذه المناضلة أو ذاك المناضل في صحف تمولها السلطة، تنكيل بالآلاف من المساجين السياسيين المسرحين المحرومين من كافة حقوقهم المدنية والسياسية.

ولا يطول هذا القمع الأحزاب والجمعيات والهيئات غير المعترف بها فحسب، بل يطول أيضا الأحزاب والجمعيات والهيئات القانونية ومناضلاتها ومناضليها وصحافتها، ناهيك أن القاعدة التي أصبح معمولا بها هي المنع والترخيص هو الاستثناء. فالمقرات تحاصر والأنشطة تـُمنع وحريّة التنقل لإلقاء محاضرة أو أداء زيارة تـُنتهك، وحتـّى المقاهي والمطاعم تغلق في وجه الناشطات والنشطاء ويعاقـَـبُ أصحابها إن خالفوا التعليمات، والصحف تحتجز بطرق مقنـّعة والصّحافيون يعتدى عليهم وتفتكّ منهم أدوات عملهم والقضايا تفتعل ضدهم وضد مديري الصحف ورؤساء تحريرها، كما تفتعل ضد نشطاء الحركة الطلابية فإن لم تكن المحاكمات الجائرة والسجن من نصيبهم فمجالس التأديب والطرد من الجامعة.

إن اشتداد الانغلاق السّياسي يتزامن مع حالة من الاحتقان الاجتماعي بسبب تفاقم البطالة والفقر والتهميش وارتفاع غلاء الأسعار وتردي الخدمات الاجتماعية والثقافية في الوقت الذي يزداد فيه الثراء غير المشروع لبعض الفئات المتنفـّذة على حساب مصالح البلاد. وقد أدت هذه الحالة، المرشحة للتفاقم بسبب انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية، إلى انفجار اجتماعي بمنطقة الحوض المنجمي خلال العام المنقضي، كشف فشل الخيارات الاقتصادية لنظام الحكم. وعوض أن يفتح هذا الأخير حوارا مع الأهالي لفهم مشاكلهم وحلـّها فإنه واجههم بالقمع والاعتقالات والمحاكمات الجائرة والسجون والحصار، بهدف لجم أصواتهم وتحذير غيرهم من أهالي المناطق والأحياء الفقيرة والمحرومة من مغبة التحرّك للدفاع عن حقوقهم والتشويش على “المهرجان الانتخابي” الذي يخطط للقيام به.

إن نظام الحكم يريد مرة أخرى، بعد 53 عاما من “إعلان الاستقلال” و50 عاما من “إعلان الدستور” دوس السيادة الشعبية والإمعان في تكريس الرئاسة مدى الحياة والحكم الفردي المطلق بعد أن استصدر مرة أخرى قانونا استثنائيا يعيّن في الواقع منافسي الرئيس الحالي إذ هو يستثني أيّ ترشّح خارج الشروط الاعتباطية التي فرضها، وحافظ على نفس المنظومة الانتخابية التي لم تنتج خلال الخمسة عقود الماضية سوى احتكار الحزب الحاكم للمؤسسات التمثيلية.

لذلك فهو يمعن في ممارسة القمع السياسي والاجتماعي اليوم حتى تكون الانتخابات القادمة كسابقاتها، صورية، وغير ديمقراطية، وهو ما يفنّد ما يتردد في الخطب الرسمية، وآخرها خطاب 20 مارس 2009 حول “تعددية” الانتخابات القادمة و”شفافيتها” و”حريتها”.

إن هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات، التي اجتمعت مكوناتها حول الدفاع عن الحريات الأساسية وسيادة الشعب واستقلالية القضاء ومقاومة الفساد، تتوجه بهذه المناسبة بنداء إلى كل القوى المدنية والسياسية الفاعلة في المجتمع إلى التصدي سويًّا للتدهور الخطير الذي تشهده الأوضاع السياسية والاجتماعية ببلادنا. وهي إذ تؤكد أن لا انتخابات حرة وشفافة وذات مصداقية دون مناخ سياسي حر وقانون انتخابي ديمقراطي، فهي تدعو هذه القوى إلى ترك خلافاتها جانبا وتكتيل جهودها من أجل الحدّ الأدنى الذي فيه مصلحة لها وللشعب وللبلاد وذلك بقطع النظر عن الموقف العملي لكل طرف منها من الانتخابات سواء كان مشاركة أو مقاطعة. وهذا الحد الأدنى يتمثل في النضال من أجل:

  • إطلاق سراح كافة المساجين السياسيين وسن قانون العفو التشريعي العام.
  • ضمان حرية التعبير والإعلام
  • ضمان حرية التنظم ورفع كافة القيود عن النشاط الحزبي والجمعياتي
  • ضمان استقلالية القضاء وحياد الإدارة
  • مراجعة الدستور لوضع حدّ للرئاسة مدى الحياة وضمان حرية الترشح
  • مراجعة القانون الانتخابي لضمان الشروط الملائمة لانتخابات تشريعية تنبثق عنها مؤسسات ممثلة لإرادة الشعب.

إن هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات تمد يدها للحوار مع كل القوى المعنية بتحقيق هذه المطالب وبالتغيير الديمقراطي لوضع حدِّ للاستبداد وخلق الظروف الملائمة التي يستعيد فيها الشعب سيادته.

هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات