17/9/2005

لم يكن عقد السنوات الذي سبق العدوان على العراق ، واحتلاله ، ممتداً بصورة طبيعية ، إذ لم يعد الزمن العربي منذ أكثر من عقوده الثلاثة السابقة ، أي منذ غياب عبد الناصر ، زمناً للنهضة ، والتقدم ، والمستقبل ، بعد أن توقفت الأحداث عن صياغة التطور في صورته الحقيقية ، وتجمع أصحاب الشأن ممن حرصوا على إقصاء التوحد والتضامن العربي من السياسة ، على عتبات الإدارة الأمريكية التي تعاقب محافظيها بين القدماء والجدد الذين اتخذوا من الصهيونية قبلتهم الأولى والأخيرة .

لم يكن ذلك العقد الأخير الذي ساهم فيه حكام الأمة والمتحكمين بمصيرها ، في حصار الشعب العراقي ، إلا العقد الذي شكل المقدمة الموضوعية للعدوان وانفتاحه على احتمالات متعددة تنذر بأفاعيل الكارثة القومية ، بعد أن حلت مقدماتها على شعب البوابة الشرقية للوطن العربي

وما يكابده من معاناة مضاعفة تفوق التصور ، لولا أن معاناة الشعب الفلسطيني لا تقل عنها سوءاً ، وسط الحيرة من مستقبل يلفه الغموض ، وتتهدد آفاقه مخاطر تفاقم الظاهرة الصهيونية في العالم ، وتمكنها من مركز القرار السياسي الأمريكي .

وإذا كان النصر العسكري الأمريكي على العراق ، لم يكتمل سياسياً ، ولم يستطع أن يقمع الشعب في مبادرته للمقاومة الوطنية الباسلة

فإن المستنقع الذي تغوص فيه الإدارة الأمريكية ، لا يعني ولو للحظة ، أن الحلم الامبراطوري الأمريكي قد انتزع من الرؤوس ، أو أن الفشل قد أصاب المتصهينين بالإحباط

إذ ما زالت الأقطار العربية ، وفي المقدمة منها سوريا ، على خريطة المطامع والمطامح تحت شعار ” مكافحة الإرهاب ” لأن الأكثر انسجاماً مع العقل الأمريكي والصهيوني الذي يتسم بالعدوانية والسادية ، أن يجعل من التوجه نحو المزيد من تنفيذ الإجراءات العدوانية سبيلاً للهروب إلى الأمام ، من نتائج الوضع المأزوم ، وسط التصاعد المقاوم للشعب العراقي ، واكتمال دائرة الفوضى التي جرى تعميمها أمريكياً في أعقاب الاحتلال .

ولسنا في سوريا ، كما في أي قطر عربي آخر ، في انتظار الضغوط الخارجية للحديث عن احتياجات الداخل الوطني ، وعن ضرورة التغيير الديمقراطي ، وإعادة هيكلة الحياة السياسية في البلاد ، فذلك كله وغيره من الأسس الرئيسة التي بني عليها الخطاب السياسي للحركة الوطنية الديمقراطية

كما لا يمكن إغفال أو تجاهل هذه الضغوط والتهديدات بعد أن وصلت العنجهية الأمريكية إلى سقف العالم ، وتكشف الزيف الإعلامي عن حقيقة ” الديمقراطية الأمريكية ” الموعودة التي لا رصيد لها في واقع العلاقات الأمريكية الخارجية

وفي الممارسة اليومية في الأمن والسياسة ، والعنف والاضطهاد ، والتدمير المنظم لأبسط مقومات الحياة في القطر العراقي الشقيق .

لكن محور درس العدوان أيضاً ، يكمن في سياسة النظام الفاشي السابق ، وإصراره على المحافظة على طبيعته الشمولية ، ورفضه المبادرة لبناء مقومات الصمود الوطني عبر عقد كامل من الحصار والتهديد بالعدوان ، وكان خيار الاستمرار في ممارسة القمع والاستبداد خياراً لما أصاب العراق من خسائر فادحة ، وما يصيبه من مكابدة المعاناة اليومية .

ومن الممكن في اللحظة الراهنة ، أن يعاد انتاج السيناريو الأمريكي ، بوسائل وأساليب مختلفة ، اعتماداً على الوضعية الداخلية القائمة في بلادنا ، وعلى إصرار من بيدهم الأمر ، على الالتفاف على أي مطلب للتغيير ، أو المطالبة بإحداث تغييرات في الدائرة السياسية عبر الانتقال بصورة حاسمة ونهائية لحل المسألة الديمقراطية ، وإعادة انتاج الوحدة الوطنية التي يبنى بها ومن خلالها مقومات الصمود الوطني ، الذي يضع الإدارة الأمريكية أو العدو الصهيوني في موقع الخيار الأصعب حين يتم التفكير بعدوان آخر .

إلا أن منطق الحرية والديمقراطية ، لا يستقيم استناداً للذرائع التي تحيل الأمور للعامل الخارجي ، ففي طبيعة العلاقات الداخلية ، ما يشير إلى ضرورة التغيير كخيار ومنهج في الإصلاح السياسي ، دون إيقافه عند حدود الأولويات المزعومة ، اقتصادياً أو إدارياً بعد أن تكشفت المقاصد الحقيقية في الالتفاف على محور التحديث الرئيس في السياسة .

-2-
من هذه المعايير وغيرها ، وبعد عودة النظام لتشديد قبضته الأمنية ، تحت شعار الذرائع القديمة ، التي لم يعد لها رصيد في دائرة الإدراك السياسي والاجتماعي المعاصر ، فإن الدعوة لعقد مؤتمر وطني عام وشامل ، يضم مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية والمهنية في سوريا ، بات أمراً تفرضه ضرورات المرحلة الحرجة ، كما تتطلبه احتياجات المجتمع في راهنيتها الملحة ، سياسياً واجتماعياً لتحديد اتجاه الخيارات الوطنية في المرحلة القادمة ، على اختلاف احتمالاتها المتعددة .

ونستبق القول ، في المحاور التي يمكن لها أن تؤسس لأعمال مؤتمر وطني كهذا ، لنشير إلى عدد من الثوابت الراسخة في فكر الحركة الوطنية الديمقراطية في سوريا ، وفي ممارستها العملية ، ومن أبرزها :

· أن الغرب الرأسمالي وفي المقدمة الولايات المتحدة الأمريكية المتحالفة عضوياً مع الكيان الصهيوني ، لا يمكن أن يسهم بصورة جدية ، في دعم أو مساندة أي جانب من جوانب النهوض الوطني والقومي العربي ، أو العمل على بناء الأسس الاجتماعية والسياسية للدولة المدنية الديمقراطية في هذه المنطقة من العالم

ذلك أن المصالح الامبريالية والأمريكية والصهيونية ، تتعارض في منطلقها ومستقرها مع إعادة انتاج قوة الوحدة العربية ، وتماسك قواها وفاعلياتها القومية على امتداد الوطن العربي

لذلك فإن الدعاوة الزائفة لتأسيس أمريكي لمجتمع الديمقراطية والحرية في العراق افتقدت تماماً لرصيدها الموضوعي ، وما يحدث بصورة يومية في أرض الواقع ، يشير لوجه القمع الوحشي للإدارة الأمريكية .وتدميرها للمدن العراقية واحدة تلو الأخرى من الفلوجة إلى تلعفر والتي ليست نهاية مطاف إرهاب الدولة الأمريكي

· وترتبط المسألة الثانية بحقيقة الموقف لأصحاب شعار ” التحديث والتطوير ” ( والذي لم يعودوا ليتحدثوا عنه بعد انعقاد مؤتمر حزبهم العتيد بعد ان فقد بريقه الإعلامي الزائف ) من احتياجات المجتمع وتوحد قواه ، ووحدته الوطنية ، وتقدمه الاقتصادي والثقافي والاجتماعي المدني

إذ لا يمكن القبول من حيث المبدأ ، بانتظار الضغوط الخارجية للسير بالإصلاح خطوات تتحدد أبعادها الإعلامية ، بما يتناسب وحجم هذه الضغوط التي يفترض أساساً عدم الاستجابة لها ، وإنما العمل على محور التحديث بدءاً من الدائرة السياسية ليشمل مختلف الدوائر المرتبطة بها ، في الاقتصاد والثقافة والإدارة والاجتماع ، بغض النظر عن موقف القوى الخارجية ، واتجاهاتها المتعارضة أصلاً مع التوجهات النهضوية العربية الجادة والفاعلة .

· وفي مقولة الصمود الوطني أمام القوى الخارجية المعادية ،وعبر البحث في أبعادها ومضامينها ،ثالثاً ،يتضح قصور النظام وتقصيره عن الوفاء بالاحتياجات الوطنية ،في منطقة تتقاطع فيها المصالح الامبريالية العالمية ،وتتجسد مطامعها وأشكال صراعها وتوافقاتها حول مواردها وثرواتها .

ودرس التاريخ في زمن عبد الناصر والناصرية ، حين كان حجم التحديات الخارجية ، أكبر بما لا يقاس من حجمها في الداخل الوطني ، وحتى في المحيط العربي بدءاً من أنظمة الردة و الرجعة ؛ و ليس انتهاءً بتلك الهياكل السياسية المزاودة ، لذلك فإن المنطق الوطني /القومي هو الذي يؤسس للمبادىء و الأهداف ،ولبرنامج واضح للعمل في مختلف الميادين لإعادة تجديد النهضة ،و النهوض الوطني،والمساهمة الفاعلة في العمل بدلالة مشروع الأمة ،وأهدافها المرحلية والاستراتيجية .

فبالإضافة لاهتراء البنية العسكرية ،وشيوع الفساد والإفساد ،تفتقد الوحدة الوطنية لأبسط مبادئها ومقوماتها الموضوعية ،وما تزال المحاولات قائمة لتضييق الخناق على القوى الوطنية ،ومحاصرة كافة أشكال الحراك الثقافي والاجتماعي ،واستمرار الهيمنة على مختلف المؤسسات القائمة ،وإدماجها في البنية الوظيفية للنظام الشمولي الذي ما تزال طبيعته البنيوية تشكل الأساس للعلاقة بين السلطة والمجتمع .

وليس هناك من جهود سياسية واضحة ، تستهدف إعادة إنتاج تضامن عربي ، أو تنسيق يؤول إلى تحقيق وقفة قومية جادة ،في مواجهة التحديات الخارجية الماثلة إمامنا.

ـ3ـ
في ظل هكذا أوضاع داخلية متردية ، فإنّ التهديدات الخارجية التي تنبئ في حال تفاقمها بمخاطر كارثية على مستقبل الأمة والوطن ، يختلف الموقف منها بين الأنظمة وحيزاتها السياسية التوتاليتارية التي تتشبث بمصالحها ومواقعها السلطوية ،وبين القوى الوطنية والقومية وفاعليات الأمة الاجتماعية والثقافية التي ترى فيها تهديداً للوجود الإنساني للأمة العربية .

ومن هذا المنطلق ،الذي يؤسس لشعور عميق بالمسؤولية الوطنية ،تجدر الإشارة إلى إمكانية استشفاف عدد من رؤوس الموضوعات للمؤتمر الوطني الذي نؤكد على راهنيته وأهميته في هذه الظروف الخاصة :

1_ لعلّ أبرز المسائل التي تؤول بطبيعتها إلى إجراء مصالحة وطنية شاملة ،تتمثل في ضرورة التوقف – في صورة المراجعة النقدية – لعقود السنوات الماضية التي مرت بها بلادنا ،بحيث تستهدف الوقفة إعادة تصويب وتجديد العلاقات السياسية الداخلية برمّتها ،من موقع الشعور بالمسؤولية أمام المجتمع ،وحق المساءلة الذي ينطبق على السلطة الممسكة بمركز القرار السياسي وبخناق المجتمع ،كما على كافة القوى السياسية في مواقعها المتعددة .

ودون الوعي بأهمية النقد ومراجعة الأخطاء والخطايا التي اقترفت ،والبحث في كيفية إصلاح الأوضاع الداخلية ،وإيقاف أفاعيل الفساد عن الانتشار والاستمرار ،يبقى الحديث عن (التطوير والتحديث )مجرّد تصدير إعلامي لشعارات لا رصيد لها في الواقع العياني.

2- في تقديرنا ،ليس هناك من سبيل لبناء وحدة وطنية ديمقراطية ،تؤدي إلى إعادة انتاج الصمود الوطني في مضامينه و أبعاده إلاّ من خلال التوصل إلى التوافق على عقد اجتماعي ،يضمن العودة إلى تأصيل الإنتماء الوطني وإعادة الاعتبار للسياسة ،وإجراء التعديلات الدستورية والقانونية التي تضمن سيادة المجتمع والفصل بين السلطات ،وتحقيق التوازن بينها ،وتفعيل التحالفات

السياسية الجديدة القائمة على الاحترام الكامل لسيادة القانون المنبثق من هذا العقد بصورة واضحة ، إضافة لحقوق

المواطنة وماتتضمنه من إطلاق الحريات الأساسية للمواطنين ،وتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص بينهم ، وإقصاء مفهوم التمايز السياسي الزائف ،تهذا الحزب أو ذاك ،لهذه الفئة الاجتماعية أو تلك ،في كافة مجالات العمل المختلفة ،وتحرير مؤسسات المجتمع المدني من طغيان الهيمنة الشمولية التي تعرقل نموها وتحولها إلى مؤسسات حقيقية كمؤسسة الدولة المدنية الحديثة .

3- ولابد لهذا العقد الاجتماعي المدني الديمقراطي من تأكيده على القطع الكامل مع التوجهات الامبريالية العدوانية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة والعالم ،ورفض منطق الإرهاب الدولي الذي تمارسه الإدارة الأمريكية المتصهينة وإدانة سياستها القائمة على التدخل السافر والصفيق في الشؤون الداخلية للدول في العالم ،ومصادرتها حق الشعوب في تقرير مصيرها وفقاً لمبادئ الشرعية الدولية في السيادة والاستقلال الوطني.

4- إعادة طرح المسألة الوطنية في بعدها القومي عبر البحث في كيفية تحقيق الأمن العربي بأبعاده المتعددة ،من خلال تفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك ،وتحديث البنية الاقتصادية والعلمية والعسكرية ،وتطوير أفاعيل التواصل بين مؤسسات المجتمع المدني في مستواها القومي ،ووضع الأنظمة أمام مسؤولياتها عبر إعادة تصويب مواقفها من القضايا الوطنية والقومية ،والتحديات الخارجية ،وذلك بعد أن تخلت عن هذه المسؤوليات ،لاهثة خلف استرضاء الإدارة الأمريكية .

5-رفض كافة شروط وإملاءات القوى الخارجية المعادية فيما يخص القضايا القومية للأمة العربية ،وفي مقدمتها الصراع العربي الصهيوني ،حيث تحاول الولايات المتحدة إحداث تغييرات جيوسياسية عبر العمل لإقامة نظام شرق أوسطي مرتبط أساساً بالمشروع التوراتي النقيض للمشروع النهضوي العربي الذي يتعرض في أيامنا لمحاولة تدمير مقوماته وأبعاده المستقبلية .

ويبدو ،في المحصلة ،أن هناك مجموعة من القضايا الرئيسة التي تخص حاضر الأمة العربية ومستقبلها ،أضحت بحاجة لإعادة تأسيس الموقف الحاسم والواضح منها في الداخل الوطني كما في مركز القرار السياسي العربي ،من خلال وقفة موضوعية جادة تستهدف إعادة تصويب الانحرافات التي راكمتها العقود السابقة بعد غياب عبد الناصر وخاصة التحولات الجيوسياسية بعد احتلال العراق ،وتفاقم ظاهرة العدوان الوحشي الصهيوني على شعبنا الفلسطيني ،وتشبث الحكام العرب بمواقعهم الشمولية القطرية .

– انتهى –
غالب عامر -عضو مجلس ادارة المنظمة العربية لحقوق الانسان في سورية