27 ـ 29 آذار / مارس 2004
اعتبارا من الثاني عشر من شهر آذار / مارس الجاري (*)، وردا على الممارسات القمعية التي لجأت إليها أجهزة الأمن السورية أثناء تشييع عدد من الضحايا الذين سقطوا برصاص الشرطة في الملعب الرياضي بالقامشلي ، شهدت منطقة ” غرب كردستان ” (شمال شرق سورية ) هبة شعبية عفوية شارك فيها عشرات الألوف من أبناء الشعب الكردي ، سرعان ما امتدت إلى مناطق أخرى في سورية يقطنها هؤلاء المواطنون جزئيا أو كليا. وتشير التقارير المتوفرة حتى الآن ، بما في ذلك العديد من أشرطة الفيديو المهربة ، إلى أن أصابع بعض أجهزة الأمن السورية لم تكن بعيدة عن افتعال أحداث الملعب الرياضي التي كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت النار في السهل الكردي السوري كله ، وصولا إلى بعض ضواحي دمشق ومدينتها الجامعية . وبغض النظر عن أعمال التخريب المؤسفة والمدانة التي طالت العديد من المنشآت العامة ، وهي أمر ” طبيعي ” في الحالات التي تفتقد فيها الجموع الشعبية للقيادة التي تنظم عمليات احتجاجها ، وتصبح أفعالها عملا ” غريزيا ” منفلتا من أي ضابط وخاضعا لديناميكيته الذاتية التي تحوله إلى كرة ثلج تكتسب المزيد من التضخم والانفلات بفعل دورانها الذاتي ، فإن هذه الهبة سيقدر لها أن تضع القضية الكردية في بعدها السوري والإقليمي والقومي (الكردي) على مدار آخر وسكة أخرى ، وستكون نتائجها القريبة والبعيدة ، سلبيا أو إيجابيا ، مرهونة إلى حد كبير بسلوك النظام الأوليغارشي الحاكم إزاء هذه القضية وطريقة تعاطيه معها . كما أن القوى السياسية العربية السورية المعارضة ، بأجنحتها كافة ، العلماني منها والإسلامي ، لن تكون بمنأى عن المسؤولية ـ ولو الجزئية ـ في تحديد هذه النتائج .
ليس من مهمة هذه الوثيقة التعرض لتاريخ المعاناة والاضطهاد اللذين حاقا بالشعب الكردي على أيدي حكومات الدول التي تتوزع أرضه ، فقد أصبح هناك كميات هائلة من المعلومات الموثقة التي يتفق الجميع على إطارها العام ، وإن كان هناك اختلاف بشأن بعض تفاصيلها وجزئياتها . لكن ما ينبغي التوقف عنده ، ويتمتع بأهمية استثنائية ، هو الثوابت الحقوقية والتاريخية لهذه القضية ومتحولاتها السياسية والجغرافية . وهي ثوابت غالبا ما قفز ويقفز عنها المثقفون والكتاب والسياسيون القوميون العرب ، وحتى منظمات حقوق الإنسان العربية (!!)، باستثناء حالات معدودة على الأصابع ، كحالة ” حزب العمل الشيوعي في سورية ” أواخر السبيعينيات وأوائل الثمانينيات الماضية .
أولا ـ الثوابت الحقوقية والتاريخية :
ليس ثمة اتفاق ، حتى بين أوساط الباحثين والعلماء الأكراد أنفسهم ، بشأن الأصول الإثنية للشعب الكردي . إلا أن ثمة اتفاقا عاما لدى مختلف المناهج البحثية الأكاديمية المتخصصة بعلوم أصول الإنسان Anthropogenesis على أن الشعب الكردي عرق موغل في القدم ، وله خصائصه المميزة له ، مثله في ذلك مثل بقية الشعوب الأخرى . كما أن علوم اللسانيات والأنثروبولوجيا قالت كلمتها العلمية الحاسمة بشأن تطور لغته وثقافته الخاصة . ولا يغير من هذه الحقيقة شيئا أن التطورات الاجتماعية التي شهدتها منطقة الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، وآسيا الغربية والوسطى عموما ، منذ فتوحات الإسكندر المقدوني على الأقل ، لم تعد تسمح بالحديث عن ” أعراق صافية ” أو ” دماء نقية ” في منطقتنا ، ولا عن ” ثقافة نسيج وحدها ” لدى هذا الشعب أو ذاك من شعوب هذه المنطقة . هذا وإن يكن كل شعب من هذه الشعوب قد احتفظ لنفسه ببعض خصائصه الثقافية التي ينفرد بها عن بقية الشعوب الأخرى ، رغم ” التوحيد الإسلامي ” القسري لها ، ومن قبله عمليات ” التوحيد ” الهلينية والرومانية والمسيحية .
انطلاقا من ذلك ، وتأسيسا عليه ، فإن الشعب الكردي هو أمة كاملة المعايير ، تاريخا وثقافة ولغة ، ويترتب له من الحقوق السياسية ، ناهيك عن بقية الحقوق الأخرى ، ما يترتب لجميع الشعوب والأمم الأخرى ، بما في ذلك حق تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة استنادا إلى ميثاق الأمم المتحدة والمادة الأولى من ” العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ” الصادر في العام 1966 والنافذ المفعول اعتبارا من 3 كانون الثاني / يناير 1976 ، حيث تنص هذه المادة على أن ” لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهى بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي “. وتعترف القوانين والمواثيق الدولية بأن إنفاذ مبدأ حق تقرير المصير بالنسبة لأي شعب يمكن أن يتخذ أحد شكلين : ” حق تقرير المصير الداخلي ” ضمن حدود الدولة التي تضم هذه الأقلية ـ الشعب دون المساس بحدود الدولة ، و ” حق تقرير المصير الخارجي ” الذي يعني إمكانية تغيير الحدود الإقليمية القائمة . ونحن نعتقد أن الاعتراف بهذه الثوابت الحقوقية والتاريخية والتسليم بها ، شرطان أساسيان لا يمكن التجاوز عنهما في أي عملية سياسية من شأنها إيجاد حل للقضية الكردية ، سواء في بعدها السوري أو أبعادها الأخرى . وهذا ما يقودنا إلى :
ثانيا ـ المتحولات السياسية والجغرافية :
من العسير جدا ، إن لم يكن من المستحيل ، الاتفاق على حدود جغرافية ثابتة للأمة الكردية .وذلك بفعل حركات الهجرة الطوعية أو القسرية التي عرفها الشعب الكردي كما غيره ، وتداخله ـ اسقرارا وإعمارا ـ مع الشعوب والأمم الأخرى في المنطقة . وينطبق هذا الوضع على تلك الأمم والشعوب كافة . لكن ، وإذا كانت هذه الأمم والشعوب قد خرجت من مولد صراعات القوى الكبرى على مناطق النفوذ بكعكة جغرافية معترف بها دوليا ، بالنظر لأن أطراف هذه الصراعات هي التي أملت وفرضت الاتفاقيات ( سايكس ـ يكو ، لوزان .. إلخ )التي تكرس الحدود الراهنة بقوة الأمر الواقع De Facto ، ومن ثم بقوة القانون الدولي De Jureالذي كتبته هذه الأطراف نفسها، فإن الأمة الكردية كانت الضحية الوحيدة التي خرجت من هذا المولد حتى دون حبة سمسم يمكن رشها على كعكة من هذا القبيل ! وأدى هذا ـ من جملة ما أدى إليه ـ إلى إضفاء بعد آخر أكثر تعقيدا على ” المتحول التاريخي للجغرافيا الكردية ” ، هو ” المتحول السياسي ” الذي حوله بدوره إلى ” ثابت جغرافي ” سيبقى كذلك إلى أن تزول الشروط الإقليمية والدولية التي أوجدته .
وحتى تزول تلك الشروط الاستثنائية التي فرضت الوضع القائم بحق القوة وليس بقوة الحق ، نرى أن فروع الأمة الكردية في كل من سورية وتركيا والعراق وإيران …إلخ ، يمكن أن تجد حلا ولو مؤقتا لقضيتها من خلال إنفاذ مبدأ ” حق تقرير المصير الداخلي ” في إطار الدول القائمة ، أي الحكم الذاتي الذي ينطوي على حق الشروع بممارسة جميع ” الحقوق الفرعية ” : الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ” ، مع بقاء ” الحق الرئيسي ” (حق ممارسة السيادة السياسية الكاملة ) في أيدي الدولة / الدول التي توزع الشعب الكردي عليها نتيجة للظروف الاستثنائية المشار إليها . لكن ، حتى الشروع بإنفاذ مبدأ ” حق تقرير المصير الداخلي ” يحتاج إلى جملة شروط وعوامل ليست متوفرة الآن ( باستثناء ما يخص الوضع العراقي ) . وهذا ما سنأتي عليه في الحال .
الدروس المستفادة من الهبة الشعبية الكردية في سورية
توقف المراقبون والمحللون كثيرا عن الدروس العديدة المستفادة من وقائع الهبة الشعبة الكردية في سورية ، التي لم يقدر لها أن تتحول إلى انتفاضة شعبية سلمية أو عصيان مدني بفعل أسباب ذاتية وموضوعيةلا مجال لبحثها هنا . وهي على العموم تخص الشعب الكردي في سورية بمقدار ما تخص المعارضة العربية السورية والنظام الأوليغارشي الحاكم و المعادلات السياسية الإقليمية والدولية . إلا أن الدرس الأكثر أهمية ، من وجهة نظرنا ، لم يتم التطرق إليه من قريب أو بعيد . ونعني بذلك الكيفية التي تناولت بها المعارضة العربية السورية ، والشارع العربي السوري ، تلك الهبة على وجه الخصوص ، والقضية الكردية في أبعادها المختلفة على وجه العموم . فباستثناء بعض ردود الأفعال الفردية التي تحلت بالجرأة والشجاعة ، وبعض ردود الأفعال الحزبية الإيجابية ، وهي غالبا ما كانت وليدة دوافع تكتيكية ـ لا مبدئية ـ تتصل بالرغبة في التوظيف السياسي الانتهازي للحدث الكردي كهراوة في وجه السلطة على خلفية الركود والعقم اللذين يعيشهما النضال الديمقراطي في سورية، عبرت ردود الفعل الأخرى عن أزمة ثقافية وأخلاقية ، قبل أن تكون سياسية ، للمجتمع العربي السوري و نخبه الثقافية . وهي بجميع المعايير ” فضيحة أخلاقية وثقافية ” يندى لها الجبين . وإلا كيف نفهم أن جميع ردود الفعل المسجلة ، بما فيها تلك الصادرة عن منظمات لحقوق الإنسان وأحزاب ديمقراطية ، خلت تماما ـ حسب نتائج عملية السبر والمسح التي أجريناها ـ من أي إشارة إلى حق الشعب الكردي في تقرير مصيره ، حتى في حدود ” الشكل الداخلي ” لهذا الحق ، ناهيك عن عدم اعتراف هؤلاء أصلا بوجود شيء اسمه ” أمة كردية ” ، وبتوجيه اتهامات الخيانة والعمالة للشعب الكردي برمته ، والتنكر حتى لبعض ” حقوقه الفرعية ” كالحق في التعلم بلغته الأم . وذلك في الوقت الذي كانت فيه جميع هذه القوى والنخب مصابة بحالة إسهال في البيانات والتصريحات وردود الفعل إزاء ما يحدث في العراق وفلسطين ، بل وحتى ـ في بعض الحالات ـ دعما ومؤازرة للإرهابيين ومجرمي السيارات المفخخة في العراق ، بوصفهم ” مقاومة ” ضد الاحتلال . والغريب في الأمر أن “المرجعية الحقوقية ” الدولية التي ادعوا ويدعون الصدور عنها ، هي نفسها ” المرجعية الحقوقية ” التي توجب عليهم الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الكردي ، ناهيك عن بدهية كونه أمة لها من الحقوق السياسية كسائر الأمم الأخرى ، كيلا نتحدث عن بدهيات حقوقها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية . وبإمكاننا الاعتقاد ـ دون الخشية من مقاربة السوداوية ـ أن بعض هذه القوى لن يتوانى في حال وصوله إلى السلطة عن ارتكاب مجازر على خلفية عنصرية بحق الشعب الكردي ، ومجازر ثأرية على خلفية طائفية بحق بعض الأقليات الدينية . وما ينشره بعض المواقع الإلكترونية لبعض هذه القوى ، لا يسمح ـ للأسف ـ بأن يتوقع المرء منها غير ذلك في حالة استيلائها على السلطة ، سواء جاء هذا الاستيلاء مقوننا عبر صناديق الاقتراع ، أو عبر طرق أخرى . ومن حق المرء أن يتساءل ، والحال كذلك : كيف يمكن لك أن تكون مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ، وتنكر في الآن ذاته على الشعب الكردي الحصول على مثل هذا الحق ؟!
إننا نعتقد أن أي حل للقضية الكردية في بعدها السوري ، كخطوة مؤقتة على طريق حل القضية الكردية في بعدها الإقليمي وحصول الأمة الكردية بكليتها على حقها في إقامة دولتها المستقلة المتفق على حدودها الجغرافية بالطرق السلمية ، وإيجاد حلول لقضايا بقية الأقليات العرقية والدينية ،لا يمكن أن يتم إلا في إطار دولة علمانية ديمقراطية يتم فيها الفصل التام والكامل بين الدين والدولة ، وإعطاء جميع الأقليات القومية حقها في تقرير وإدارة مصائر حياتها اليومية ، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية ، وإلغاء الطابع العربي الرسمي للدولة (طالما أنها متعددة القوميات والإثنيات) . ويجب أن لا ينظر إلى هذا الأمر بوصفه انتقاصا من قيمة العروبة أوحطا من شأنها ، ولكن مساواة لبقية الأقليات بها ، و تكريسا للحالة الحقوقية Status لأعضاء مشتركاتها Communities باعتبارهم مواطنين متساوين في الحقوق كافة دون أي استثناء لحق سياسي أو ثقافي أو غيرهما من بقية الحقوق الأخرى . ونرى أن ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتوابعها، هي ” المرجعية الحقوقية ” الوحيدة التي يمكن أن يصدر عنها أي دستور في الجهورية السورية القادمة . وما عدا ذلك لن يكون إلا مجرد إعادة إنتاج لقيم الدولة التوتاليتارية التي تنطوي بالضرورة ـ كأي دولة توتاليتارية أو فاشية أو ديكتاتورية ـ على قيم طائفية وعنصرية !