6 يونيو 2004
أمسك الأستاذ حسن عبد العظيم أوراق محكمة أمن الدولة بين يديه، أحضر ورقة بيضاء وقلماً انسكبت فوقها صوراً في قالب مسرحي قديم بإخراج حديث يعتمد الأقنعة ضمن مونولوج داخلي:
أيتها الذاكرة الممضة أما آن لك أن تهدأي قليلاً وتستريحي….
_وكيف لي النوم يا صحبي واليوم يذكرني بالأمس، والأمس عقود ، أنسيت تاريخ 1963؟ تاريخ لا ينس، علق فوق الحائط مرسوم_ محكمة الأمن القومي _ ومعها علقت المشانق، عفواً المشانق ليست ثورية بالقدر الكافي وربما هي رجعية أما الرصاص فصوته مدو يوقظ النيام من الشعب!!!.
_وكيف لي أن أنساها وأنا من وقف أمام المحكمة الاستثنائية تلك إما متَهماً أو مدافعاً، المحكمة التي شكلت بناء على الأوامر العرفية الصادرة عن قيادة الثورة آنذاك وأعضائها هم أعضاء المجلس العرفي الذي عقد في سجن المزه برئاسة الضابط صلاح الضلي وعضوية محمود حمرا ومحمد رباح الطويل، المجلس الذي أصدر الأوامر بإعدام ثلاثين من العسكريين والمدنيين من حركة الناصريين وكاد أن يتخذ حكماً بالإعدام بحق نعمت فوق العادة لولا وقوف محمد رباح الطويل ضد الحكم كي لا يقال أنه أول من أعدم امرأة سياسية في سوريا ومن طرائف تلك المحكمة التي ذكرها المرحوم أكرم الحوراني في الجزء الرابع من مذكراته أن السيدة المذكورة استجوبت مدة ثلث ساعة من قبل المحكمة وكان استجوابها أطول استجواب من الثلاثين متهماً الذين اعدموا بأحكام المحكمة العرفية المذكورة أعلاه حيث لم يتجاوز استجواب المتهمين الخمسة دقائق .
فتح الأستاذ حسن عبد العظيم الأوراق المسجلة حول استجواب أكثم نعيسه، رفع رأسه عنها ورحل بذاكرته ثانية إلى نهار صيفي حار من نهارات تموز حين وقف الأستاذ حسن عبد العظيم الذي كان من أبرز وأوائل الوجوه الناصرية اللائى مثلت أمام محكمة الأمن القومي والتي شكلت برئاسة صلاح الضلي وعضوية محمود حمرا ومحمد رباح الطويل والتهمة الموجهة له مناهضة أهداف الثورة ومطالبته بتسليم الميليشيات والأسلحة التي جاءت من لبنان !!!.
شرد الأستاذ حسن وهو يقرأ أسماء المحامين في قضية أكثم، رفع رأسه عن الأوراق _ عندما مثلت أمام محكمة الأمن القومي لأول مرة وقف إلى جانبي 18 محامي ..وكان قد سبقني في الوقوف أمامها كل من عوض أبو الحسن من فلسطينيي سوري وكان موظفاً في حلب حكمته المحكمة ثلاث سنوات، وأول عسكري حكمته أسعد اللحام ، حدث ذلك في العشرة أيام الأوائل من تموز 1963 أي قبل حركة 18 تموز وكانت المرة الأولى التي أحاكم بها ثم وسعت المحكمة دائرة المتهمين لتشمل فئات مختلفة من المجتمع فقد حاكمت محمد علي زرقا من المثقفين القوميين عدا عن العسكريين والمدنيين من التيار الناصري والبعثي المنتقدين لسياسات “الثورة”.
والتهمة الموجهة إلي آنذاك مناهضة أهداف الثورة، أدار الأستاذ حسن عبد العظيم رأسه:
_ يا للتهمة المعادة والمكررة مع أكثم نعيسه وغيره رغم أن أهداف الثورة تغيرت !!! ويا للأسباب الوجيهة لاعتقالي …!!! كنت قد صدرت بياناً انتقدت فيه الابتعاد عن أهداف الثورة… وكانت ردة فعل السلطة آنذاك اعتقالي ومحاولة استنفار ذاكرتي خلال الاستجواب الذي استمر يومين 6_7 تموز …وفي نهاية الاستجواب طلبوا مني التنصل من البيان الانتقادي للسلطة ولتوجهاتها نحو وحدة الهلال الخصيب في وجه التيار التقدمي ذلك الوقت .
وجاء رد الأستاذ حسن عبد العظيم بصوته القوي مفاجئاً للمحكمة: _ أنا أتهمكم بالانحراف والابتعاد عن أهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية وليس أنا من يناهض أهداف الثورة، وأضاف:
_لن أخاف السجن ولن أخاف الموت في سبيل ما أؤمن به وأعتقده ولا أطلب الرحمة.
والغريب أن المحكمة حكمت الأستاذ حسن عبد العظيم بالبراءة وذلك رداً على موقفه اتجاه البعثتين ودفاعه عنهم في قضية محمد إبراهيم العلي _ كان سيعدم فترة الانفصال_
وسؤال خفي يقفز : ألم تتعرض للتعذيب في ذلك الحين
_ بالطبع ومازلت أذكر لحظات تعذيب منصور الحموي 1963الضابط في الأمن السياسي وكان من جماعة أكرم الحوراني وهذا ما فعله الضباط الذين خلفوه في الموقع وزادوا عليه فالتعذيب الذي استمر أياماً في اعتقالي الأول تطور ليستمر أربعة أشهر في اعتقالي الثاني_ لم أمثل هذه المرة أمام محكمة الأمن القومي الذي تغير اسمها في نفس العام وأصبح المحكمة العسكرية الاستثنائية وذلك عام 1964 لكن السجن والتعذيب لم يثنياني عن العمل السياسي المؤمن به والذي عرضني للاعتقال مرة ثالثة عام 1968_ 1969 وانتهى التوقيف بمثولي أمام المحكمة الاستثنائية لأشهد تغير اسمها من المحكمة العسكرية الاستثنائية إلى محكمة أمن الدولة و تغير موقعها من المسرح العسكري حيث كان يقدم محمود جبر مسرحياته الكوميدية إلى أن حولته “قيادة الثورة” إلى مقر لمحكمة الأمن القومي …المحكمة العسكرية، المكان الذي تحول لاحقاً إلى نادي الضباط الجديد بعد عقد من انتقال المحكمة إلى شارع 29 أيار، المقر الحالي لمحكمة أمن الدولة .
يقلب الأستاذ حسن عبد العظيم الناطق الرسمي باسم التجمع الوطني الديمقراطي في سوريا الأوراق، تخرج صورة من الذاكرة، صورته وهو يترافع عن نفسه في قفص محكمة أمن الدولة إبان اعتقاله الرابع _ عام 1975_ يتأمل تفاصيل المكان الذي لم يفسح المجال له من قبل لتأمله ، يرقب المحكمة التي تشكلت لأول مرة برئاسة صلاح الضلي وعضوية محمود الحمرا ثم أضيف إلى عضويتها خالد أرسلان ومحمد رباح الطويل وسليم حاطوم ذلك الأخير الذي وقع بين فكيها وتحت رحمتها وكان أحد أهم ضحاياها عام 1967 حيث حكمت عليه بالإعدام وأعدم بالرصاص الذي أعدم فيه خصومه ومنتقديه من قبل ..تبدل القاضي _ الضابط_ صلاح الضلي وأصبح الأستاذ عادل مينه القاضي الذي سيحاكمه ويحكمه بتهمة جنائية، وهي تسريب أسرار الدولة، أحس الأستاذ حسن عبد العظيم بنظرات تحوم حوله إنها نظرات الدكتور عارف دليله وكمال اللبواني وحبيب عيسى ، أحاطت به أصواتهم مرددة _ هي التهم التي وجهت إلينا!!!.
ابتسم الأستاذ حسن عبد العظيم لهم وهو يقول:
_المحكمة تغير اسمها ومكانها خلال عقود من الزمن ولكن لم يتغير دورها وإلا لما استمرت وهي محكمة استثنائية غير دستورية والفرق أن عادل مينه عام 1975 رفض أن يحكم بإيعازات من الأجهزة الأمنية كما هو الحال معكم بل حكمني بالبراءة.لهذا فتحوا غرفة أخرى داخل المبنى تتلقى الأحكام من الأجهزة الأمنية والتي أصبحت الغرفة الرئيسية في المحكمة وكانت القضية الأبرز التي حكمت الغرفة الثانية فيها قضية المنظمة الشيوعية العربية حيث أصدر القاضي فائز النوري حكماً بالإعدام بحق خمسة من أعضاء المنظمة والباقين حكمتهم بالمؤبد_ عماد شيحا أحد المحكومين مازال في السجن حتى الآن. وهذه المرة الأخيرة التي أمثل فيها أمام محكمة أمن الدولة كمتّهم ..لأنني عندما اعتقلت للمرة الخامسة بسبب موقفي من حرب الخليج الثانية، أطلق سراحي قبل أن تقرر السلطة تحويل أضابير المعتقلين من الحركة الوطنية السورية إلى محكمة أمن الدولة.
وهنا بدأ المشوار الثاني للأستاذ حسن الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي مع محكمة أمن الدولة، مشوار الدفاع عن المعتقلين السياسيين من أعضاء حزب العمل الشيوعي،والحزب الشيوعي السوري _الكتب السياسي والناصريين والقائمة تطول وتطول لتصل إلى الدفاع عن المناضل رياض الترك وعارف دليله وغيرهم من معتقلي ربيع دمشق وو…إلى أكثم نعيسه.
حسيبة عبد الرحمن