18/1/2007

المحامي حسين أبو حسين
أم الفحم

نشرت وسائل الاعلام (يوم الاثنين 15/1/2007) نبأً مفاده أن المحكمة العسكرية اكتفت بفرض السجن مع وقف التنفيذ بالاضافة الى التوبيخ على اثنين من ضباط جيش الاحتلال الذين تم تقديمها للمحكمة العسكرية.

ومن الطبيعي ان وسائل الاعلام الاسرائيليه مرّت على النبأ مرَّ الكرام مذكرة ان احد كبار المسؤولين في النيابة العسكرية قد صرّح أنَّ “مجرد اجراء المحاكمه هو شهاده للجيش, وعلى الرغم من ان الحديث هو ليس عن ادانه بمخالفه خطيره تتطلّب عقوبات شديده, يكفي انها جرت بحسب القانون وبالشكل الاكثر اخلاقيه”.

عن أي قانون وعن أي اخلاقيه نتحدث! فيما يلي سرد لبعض الوقائع المتعلقه بهذه القضية:

بتاريخ 21.06.02, حوالي الساعة 11:30 صباحاً, في أوج حملة “السور الواقي” أعلن الجيش لسكان جنين ان بامكانهم الخروج من منازلهم للتزوّد بحاجاتهم البيتيه لبضع ساعات.

يوسف أبو عزيز, من سكان حي البساتين في جنين, سمح لأولاده الثلاثة؛ جميل (13 عام) وأحمد (5 أعوام) واخيهم طارق(11عام) للخروج الى الدكان القريب لشراء بعض الحلوى, علّها تساعد في ازالة بعض طعم المرارة المتبقي في افواههم جراء منع التجول المفروض على المدينة منذ اسابيع. فما كان من الاطفال إلاّ ركوب دراجاتهم والذهاب الى الدكان القريب والتزود بالشوكولاته وبعض البوظه والحلويات.

عند عودتهم, ولحسن حظهم, وربما لسوء حظهم, قام مصوّر هاوٍ بتصوير مسرح الجريمة من على احدى البيوت بكاميرا فيديو.. حيث يظهر الأولاد الثلاثة وهم على دّراجاتهم وسيارة بيضاء تمر من بينهم.

امراة تصرخ بكلمات غير واضحه… ربما كانت تحذرهم من دبابة كانت خلفهم, وها هي الدبابة تظهر من طرف الشارع…
يسرع الاولاد هاربين, وفجأة يسمع صوت انفجار كبير ومن بعده دخان كثيف… المصّور يتوقف عن التصوير, وبعدها يظهر مشهد الاشلاء المتناثرة لأطفال ودراجات هوائيه مكسره… وشكولاطة مع مخلفات البوظه…
أُسدل الستار مخلّفاً وراءه جميل وأحمد وذكريات مؤلمة, لكل من حضر, ولكل من سمع.

لاحقاً تقوم الـ BBC بعرض الشريط المسجل عبر شاشاتها ومن ثم قامت العائلة بتقديم شكوى قضائيه لرئيس الحكومة وللمستشار القضائي وللمدعي العسكري العام طالبة فتح ملف تحقيق في حيثيات الحادث.

على خلفية الاعلام الذي حظيت به القضيه, قام المدعي العسكري بتاريخ 22.07.02 باعلام وكيل العائله أنه تقرر فتح ملف تحقيق من قبل الشرطة العسكريه المحققه.
وبالفعل, قام أهل المرحومين بتقديم افاداتهم وتسليم شريط الفيديو وبينات أخرى للمحققين يتضح من خلالها ان قذائف الدبابة قد أودت بحياة اناس آخرين وهم- سجود احمد تركي (6 اعوام) والمرحوم هلال مصطفى محمود شتا (53 عاما). في 10.08.03 تم تقديم لائحة اتهام ضد قائد كتيبة الدبابات التي تسببت بالحادث, الملازم “ل”, وذلك للمحكمة العسكرية في لواء الشمال, ولاحقاً لذلك في 18.03.04 تم تقديم لائحة اتهام اخرى ضد قائد الكتيبة العسكرية الذي اعطى الأمر باطلاق النار لفرض منع التجوال المقدم “ش”, وقد تم توحيد الملفين لسماعهما أمام محكمة عسكرية خاصة في تل-أبيب.

أما قائد اللواء موشيه تمير فقد اكتفت السلطات بتقديمه لمحكمة تأديبية, وافادت صحيفة هآرتس لاحقاً أن قائد سلاح البحريه المتقاعد العميد يديديا ياعاري قد برّأه من التهم المنسوبة اليه.
من الجدير ذكره انه طوال الفتره الواقعه بين تقديم لوائح الاتهام وحتى مرحلة سماع الشهود قام محامي عائلة أبو عزيز بالاتصال مع النيابة العسكرية مبدياً كامل الاستعداد لاحضار الشهود والبينات بهدف اثبات الاتهامات ضد المتهمين.

لاحقاً, علم موكل العائلة أن هنالك صفقه عتيدة بين النيابة والمتهمين, وقدم طلبات متكررة للحصول على مواد التحقيق لفحصها وابداء الرأي بالنسبة للصفقة, ولكن النيابة العسكرية ردّت الطلبات بإدعاء الحفاظ على “السرية الأمنية”.

لقد قامت النيابة العسكرية باستدعاء بعض الشهود لتاريخ 11.07.06 وبحجة عدم وصول الدعوات اليهم, قامت بتأجيل الجلسة ليوم 25.07.06 وطلبت من الارتباط المدني استصدار التصاريح للشهود الفلسطينيين, الا انها عادت وأعلمت الارتباط يوم 23.07.06 بالغاء الطلب جراء اندلاع الحرب, ونوهت انها ستقوم لاحقاً بدعوة الشهود.

أعلمت النيابة العسكرية يوم 07.01.07 وكيل العائلة أنها, ونظراً للصعوبات في اثبات مسؤولية المتهمين عن مقتل الشهداء وجرح المصابين, انها توصلت الى صفقة مع المتهمين وان المحكمة العسكرية الخاصه قد صادقت على هذه الصفقة.وذلك بعد اجراءات توفيقيه قام بها رئيس المحكمة العسكرية.

وبناءً على هذه الصفقه فقد تم تغيير التهم المنسوبه للمتهمين, وتم فرض عقوبة تأديبيّة وسجن مع وقف التنفيذ على على المقدم “ش”, قائد كتيبة الدبابات.
أما بالنسبة للملازم “ل” فقد تم تخفيض رتبته العسكرية وفرض عليه سجن مع وقف التنفيذ. في نفس السياق, حظرت المحكمة نشر أية معلمة عن هوية المهتمين.

تلك هي حيثيات شهادة الاخلاقيات وتلك هي “المخالفات غير الخطيرة” التي تحدث عنها المتحدث الرسمي للنيابة العسكرية.

نعم, اربعة قتلى وخمسة جرحى مع عاهات مستديمة, أصبحت بمثابة مخالفات غير خطيرة تستحق مجرد توبيخ وسجن مع وقف التنفيذ, بادعاء عدم كفاية الادلة وعدم القدرة على احضار الشهود الفلسطينيين للمحكمة. الدوله هي المسؤولة الاولى عن تصرف جنودها وهي المسؤولة في نهاية المطاف عن جرائمهم وافعالهم وما كان اصلاً ممكناً تقديم لوائح الاتهام الا بفضل وجود شريط مسجل يوثق بالصوت والصورة مسرح الجريمة.

مع ذلك, اقتنعت النيابه العسكرية بوجوب تقديم لائحة اتهام ولكنها وبعد مرور قرابة خمسة أعوام تستنكف عن الاستمرار في مجريات “العدالة” لتعقد صفقة رابحة لها ضاربة بعرض الحائط حقوق من مات وحقوق من جُرح…

نعم, هذه هي عدالتكم, هذه هي ديموقراطيتكم واخلاقكم العالية… انتم انتم الذين تقتلون ببشاعة, ومن ثم تحاولون اقناع الدنيا بعدالة مجرياتكم القانونية…
أنتم تحققون وتجمعون الادلة؛
أنتم تقدمون لائحة الاتهام وتمنعون أهالي الضحايا من الاطلاع على البينات؛
أنتم تدعون الشهود… وانتم تمنعونهم من الوصول بحجج امنية… مفادها انهم منتمون لمجموعة لها مصلحة في الانتقام…
أنتم تحددون الجلسات لسماع الشهود… وتلغونها عند الحاجة…
تختارون المحكمة وتعينون القضاة… ومن ثم يصبح القاضي وسيطاً لاجراء الصفقة,
تحددون الحكم والصفقة…
ومن ثم تحظرون نشر تفاصيل القائمين على الجريمة!
تخوفاً من ملاحقتهم أمام محافل ومحاكم دولية…

أمّا الفلسطينيون, فما لهم الا أن يتساءلوا للمره الالف… هل كانت جريمة ميلوسوفيتش هي الاكثر بشاعة, أم هي جرائمكم “الاخلاقية” التي تحدث غالباً بالخفاء.

أشك ان كان بيكاسو قد رأى منظراً مذهلاً أكثر بشاعة من منظر مقتل جميل وأحمد أبو عزيز في حي البساتين في جنين أبان شهر حزيران 2002 , قبل أن يشرع في رسم جداريته المشهورة – الجيرنيكا.

هناك في اسبانيا كانت حرب اهلية لا تعرف الرحمة أما هنا فهي حرب الأقوياء على الضعفاء. حرب الجنرالات المختبئين في داخل الدبابات المحصنة فولاذياً على أطفال جل جريمتهم انهم ارادوا شراء الحلوى بعد أن خدعهم الجيش برفع منع التجول.

اني في حيرة من أمري لاعتقادي, أن علماء القانون منذ حمورابي وحتى واضعي وثيقة جرائم الحرب المنصوص عليها في اتفاقية روما الاخيرة ما كانوا يعتبرون حيثيات هذه السريرة الجريحة أقل من الكبائر كما وردت في النص القرآني, أما هنا.. فازهاق الأرواح والاعتداء على الحرمات صارت مجرد مخالفات بسيطة لا تستعدي عقوبة جديّة.

وأخيراً لا بد من طرح سؤال للتفكير ما هي مسؤولية القائمين على اقامة العدل في اضفاء “الشرعية العدلية” على المتورطين في مسرح الجريمة بدءاً بالمدعي العام وانتهاءً بقضاة المحكمة العسكرية.