15/5/2005

في نقاشات عديدة مع محامين وقضاة وقضاة مسؤولين في وزارة العدل ومسؤولين في وزارات أخرى، بدا واضحاً أن أغلبية هؤلاء، يحملون قناعاتهم الخاصة بهذا القانون أو ذاك، وبهذه المادة أو تلك، وبهذا التحفظ أو ذاك. وهذا أمر طبيعي، بل واجب. فإضافة إلى حق كل إنسان أن يكون قناعته الخاصة بهذا الأمر أو ذاك، يحتاج القضاء بمختلف نواحيه إلى الكثير من الجهد الشخصي لكل قاض ومحام في تكوين قناعاته الخاصة.

فهذه السلطة بالغة الأهمية، وأساس الديمقراطية، وترجمة العقد الاجتماعي في مختلف بلدان العالم، يقوم قسط وافر من عملها على قدرة هؤلاء المسؤولين (قضاة ومحامين) على المحاكمة العقلية التي تستند إلى النصوص دون أن تكون أسيرتها. فنصوص القانون، كما هو معروف، تولد ميتة. إذ غالبا ما تشرّع بناء على واقع قائم. وبينما تجمد النصوص في صيغها، يتحرك الواقع دائما دون توقف.

والمشرّع، الذي هو شخص أو مجموعة أشخاص، أهو هيئة تضم أشخاصاً، هو أكثر من يحتاج إلى كلي الأمرين: القناعة الشخصية، والقدرة الفائقة على المحاكمة العقلية السليمة والمنفتحة. إذ إن عمل المشرع يترجم مباشرة في حياة الناس. وهو لذلك، إذا استطاع أن يسبق قناعات الناس، فهو لا يستطيع أن يسبقها بكثير. فهو مضطر حكماً للقياس وفق السقف المتاح في الواقع. أي واقع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة في الواقع.

ولأن القانون والمشرع هما على هذا الحال، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال إضفاء القدسية علي أي منهما. ولا يمكن لمشرع أيا كان، في أي بلد أو ظرف تاريخي، وكذلك لا يمكن لقانون أن يتجنب النقص والقصور. هذه سمة لا تنتقص من قدر القانون ولا من قدر المشرع. فكلاهما منوط به مهمة لا يمكن إنجازها على أكمل وجه. ولذلك لا يمكن لهما أن تجنبا النقد. بل كليهما، كما المشتغل على القواميس اللغوية، لا يطمح إلى المديح، بل أقصى أمنياته أن ينجو من النقد.

ولولا أن الأمر كذلك لكانت قوانين الغاب التي حكمت التجمعات البشرية آلافا من السنين، هي التي تحكمنا الآن! إلا أن السجن، الذي يجد الآن أعداداً مهمة من الناس تعدوه عقاباً لا أخلاقياً، كان لحظة إقراره تقدما بشرياً هائلاً في العدالة. إذ كان القتل أو التشويه أو النفي هي العقوبات المعتمدة قبل أن “يكتشف” الإنسان هذا الأسلوب “الثوري العظيم”. وكذلك الأمر فيما يخص قانون حمورابي الشهير: العين بالعين والسن بالسن. فبينما كان إنجازا أخلاقيا في زمنه، ولزمن طويل لاحق، صار الآن قانوناً ينتمي إلى شريعة الغاب بعد أن تطورت مجتمعاتنا البشرية وتطورت نظمنا الأخلاقية ومنظوماتنا القانونية.

وإذا كان هذا في الإطار العام، فكيف في تفاصيل القوانين؟ إن الأمر أكثر حدة بكثير في التفاصيل. إذ تسعى التفاصيل في القوانين إلى مسح وحصر ما لا يحصر. أي تضمين كل أوجه الحياة بكل احتمالاتها في نصوصه!

إذاً، لا يمكن إطلاق صفة القداسة على القانون ولا على المشرع، بحال من الأحوال. فكلاهما ناقص بطبيعة عمله، لا بشخصه. وكلاهما يتنطح إلى القيام بمهمة أقصاها أن يحاول أكبر قدر ممكن من العدالة والمساواة. لا العدالة المطلقة ولا المساواة المطلقة. وكلاهما يستمد احترامه وتقديره من مقدار نجاحه في تحقيق التوافق والملائمة بين واقع الحال القائم وبين اتجاه التطور الذي يُتلمّس.

والقانون-المجتمع هو ارتباط لا ينفصم. إذ لا يمكن أن يتوقف المجتمع عن التطور. وبالتالي لا يمكن أن يتوقف القانون عن التطور. فإذا نجح في قيادة حركة المجتمع، سهّل تلك الحركة ونظمها. وإذا فشل في التطور، أعاق حركة المجتمع وقيدها. وعليه فإن تطور كل منهما مرتبط على نحو وثيق بتطور الآخر.

وعليه، وعلى عكس ما يرى بعض ممن يريدون أن يعيدونا إلى قمقم القداسة، لا يمكن أن يكون مشرّعٌ سن قانوناً قبل خمسين سنة، في بلد كسورية اختلف كل شيء فيه عن ذلك الزمن، لا يمكن له أن يكون مناسباً أو مطابقاً لا لحاجاتنا الحالية ولا لمنظومتنا الأخلاقية المتطورة نسبياً. وحين نبدي ملاحظة على مشرّع، أو نعترض على قانون، فإن ذلك لا يتضمن بحال من الأحوال أي شكل من أشكال التحقير أو الذم لا للمشرّع ولا للقانون. بل يستهدف تحديداً توصيف الحال وفق ما صرنا عليه.

كل هذه المقدمة الطويلة لأجل بعض القوانين والمواد التي يطالب الكثيرون بإعادة النظر فيها. ويعبّرون عن أرائهم صراحة عادّين هذا البلد بلدهم كما هو بلد الجميع. ولا يحق لأحد فيه أن يفرض وجهة نظره على الآخر. خاصة في قضية تمس حياتهم مباشرة. ومن هذه القوانين المادة /548/ من قانون العقوبات العام السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم /148/ تاريخ 22/6/1949. والمنشور نصها في أعلى الصفحة الرئيسية. وهي المادة التي تعطي الرجل الذي يقتل زوجته أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته إذا فاجأها في جرم الزنا المشهود حق الاستفادة من العذر المحل الذي يجعله بمثابة البريء! كما يسمح له بالاستفادة من العذر المخفف الذي لا يبقي من عقوبة القتل العادية إلا ما لا يذكر ولا يردَع لكل من فاجأ أحد أولئك في”حالة مريبة مع آخر”!

ويعرف الجميع أن هذه المادة ليست مركونة على الرف في سورية. بل هي ممارسة ويجري تطبيقها. وقبل وقت ليس بالطويل، في دعوى صادرة عن محكمة الجنايات الأولى بدمشق، بتاريخ 11/2003، أي قبل أقل من عامين، ينص الحكم الصادر على:

“تقرر بالاتفاق وفق مطالبة النيابة العامة:
1- تجريم المتهم (..) والدته (..) بجناية القتل بدافع الشرف.
2- وضعه لأجل ذلك بسجن الاعتقال المؤبد.
وللأسباب المخففة التقديرية المستمدة من ظروف وملابسات القضية، تخفيض العقوبة إلى ثلاث سنوات.
ولشمول ثلث العقوبة بقانون العفو رقم (..) تصبح العقوبة مدة سنتين فقط.
3- حساب مدة توقيف المتهم من أصل محكوميته…”!

يظهر هذا الأمر، خاصة إذا أضفناه إلى ما هو معروف من أن القتل بدافع الشرف لم يتوقف بعد في سورية، بضعة حقائق مهمة:

1- يعترف هذا القرار، وبالاتفاق، على تسمية هذه الجناية ب”دافع الشرف”! وهي ليس إلا مطابقة فعلية لما جرى التعارف عليه في الأدبيات الاجتماعية والقانونية الحديثة في الوطن العربي تحت تسمية “جريمة الشرف”. إلا أنه هنا لا يسميها جريمة. بل يعيد دافعها إلى “الشرف”. وهو ما لا يغير من طبيعة الجريمة شيئاً. ولا من اندراجها التام تحت المسمى المتعارف عليه.

2- في الدعوى المذكورة لا يمت الجاني بصلة قربى من تلك التي تنص عليها المادة 548 عقوبات التي تحصر حق الاستفادة من العذر المحل والعذر والعذر المخفف لخط محدد من القرابة. إذ إن الجاني، بالاشتراك مع آخرين، ليس واحداً ممن تعدهم المادة. وهذا يعني أن تطبيق المادة أساساً لا يجري بتقييد، بل بتوسع يسمح لغير المنصوص عليها بالاستفادة منها.

3- نظراً إلى السنة التي اتخذ فيها هذا القرار (2003) فإن تطبيقها يدل دلالة قاطعة على أن اتجاه القضاء في هذه الفترة لم يأخذ بالحسبان التطورات المجتمعية التي طرأت على بنية مجتمعنا خلال أكثر من اثنين وخمسين عاماً من صدور قانون العقوبات المتضمن المادة 548. وربما كان هناك قرارات أخرى مطابقة في زمن لاحق لا نعرف عنها.

ومما يلفت الانتباه أن جريمة الثأر، التي هي أكثر التصاقاً ب”قيمنا وعاداتنا وإرثنا”، بل ويمكن الجزم أنها كانت أكثر تواجداً من حيث العدد، زمن إعداد القانون، مما هي عليه جرائم القتل بدافع الشرف نظراً لتركيبة المجتمع في تلك المرحلة التاريخية وما سبقها. إلا أن المشرّع لم يذكر بقريب أو بعيد جريمة الثأر على أنها جريمة تستفيد من العذر المحل أو العذر المخفف. وهي، بالتالي، جريمة كأي جريمة قتل أخرى. هذا يعني أن المبرر القائم على أنها عادة “متأصلة” في مجتمعنا هو مبرر لم يجر اعتماده كقاعدة في التشريع. إذ استخدم هنا، وأهمل هناك. وهو بالضبط ما يُقصد ب “ازدواجية المعايير” لدى المشرع. وهو مفهوم يقصِد التوصيف، كما أسلفنا، لا التحقير ولا الذم ولا الانتقاص من قدر المشرع كما يحاول البعض أن يقسره سعياً وراء إجهاض النقاش الذي بدأ حول هذه القضية الهامة. فالمشرع هنا لم يعتمد القاعدة ذاتها في مسألتين متشابهتين إلى حد بعيد: فكلا الجريمتان تنتميان إلى فئة العادات المتوارثة. وكلاهما تتناقض من حيث الجوهر ومن حيث الممارسة مع مبادئ الشريعة الإسلامية. وكلاهما تتناقض مع روح العدالة. وكلاهما تستند إلى “عصبة القرابة”. وكلاهما تعتمد، بدرجات مختلفة، على “فورة الدم”، أو الحالة النفسية المترتبة على ذلك. والأهم أن الجريمتين تنتميان إلى “الموروث الثقافي والاجتماعي” المستمد من واقع لم يبق منه شيء. وينيخ هذا الموروث، بصيغته هذه، على كاهل تقدم المجتمع وتطوره في ظل ظروف وشروط بالغة التعقيد.

والحجة أن الجرائم المرتكبة بدافع الشرف تخضع للظرف النفسي اللحظي، بينما هي غالباً ما تُخطَط مسبقاً في جرائم الثأر هي حجة نافلة. إذ نادرا ما تم قتل فتاة أو امرأة لحظة “الجرم”. بل نادرا ما تم قتل امرأة من قبل زوجها، أو فتاة من قبل أبيها. بل غالباً ما يدفع قاصر لارتكاب هذه الجريمة. وكثيرا ما تقتل “المتهمة” بعد زمن يطول أو يقصر عن الحادثة التي يدّعون أنها قامت بها. وأكثر من ذلك أن كثيرا من الجرائم هذه، على مستوى الوطن العربي كله، كانت ضحاياه بريئات من جهة أن الفحص الطبي اللاحق أثبت عذريتهن، أو أنهن تعرضن لضغوط وقسر فيما فعلنه.

إلا أن ذلك لم يؤخذ بالحسبان حين وضع المشرع تلك المادة. وهذا، مع ذلك، أمر طبيعي. إذ لم يكن المستوى الاجتماعي برمته، خاصة من حيث طرائق الحياة والمنظومة الأخلاقية المرتبطة بها، يسمح بتحقيق العدالة في هذا الأمر. وهذا تأكيد إضافي على أن من يحاولون قسر مفهوم “ازدواج المعايير” لدى المشرع على أنه يتضمن شتيمة أو تحقير، لهم أسباب أخرى ليس من بينها الدفاع عن المشرع واحترامه. ودليل آخر على أن القانون والمشرّع الذي يشرعه، لا يمكن أن يكونا سوى أبناء ظرف تاريخي محدد، بأفق يجب أن يكون أكثر تقدماً عن المجتمع، لكن بقليل فقط. إذ لا يمكنهم أن يسبقوا الواقع الاجتماعي والأخلاقي بمسافة كبيرة.

هكذا نرى أنه لا المشرع ولا القانون يحتملان صفة القداسة. وإلا لما تمكنا سابقاً وراهنا من التقدم قيد أنملة. وحين يُنتقَدُ القانون، أو يُطالب بإعادة النظر فيه، أو ينتقد المشرّع بعمله لا بشخصه، أو توصّف منهجية عمله في ظرف محدد، فإن ذلك كله ليس إلا تلبية لواقع سبق بمراحل واسعة وعميقة قوانين تنتمي إلى واقع مختلف كلياً. وربما تجب الإشارة هنا إشارة تقدير واحترام بالغين لقضاة ومحامين يحملون آراء مخالفة كلية لما هو وارد في هذه المقالة، إلا أنهم ضربوا مثلاً آخر في سعة أفقهم وأصالتهم عبر انفتاحهم المطلق على الحوار، ومقارعتهم الحجة بالحجة، واثقين ومؤيدين أن الحوار وحده القادر على إيصالنا إلى أفضل السبل. وربما جدير بالذكر أن القاضي موفق اليغشي، المستشار في محكمة النقض، وعضو إدارة التشريع بوزارة العدل، كان واحداً من هؤلاء الذي يضربون المثل بالإنصات إلى الرأي الآخر، مقتنعين أن الجميع إنما يسعى إلى صالح هذا المجتمع، مهما اختلفت الآراء.

في ختام هذا المناقشة السريعة، لابد من الإشارة إلى أمر هام كنت قد قرأت ملاحظة عنه في إحدى الصحف المحلية. إذ يسارع كاتب المقال إلى التساؤل عن أحقية محامية محددة في تناول هذا الأمر أو ذاك! مستغربا أن “تجرؤ” على التطاول على ما ليس لها. ونقول إن نقاش %