5/8/2006

الكاتب بسام القاضي

في سياق الحرب الدائرة رحاها على الأرض اللبنانية، والتدمير الإسرائيلي الممنهج للجنوب اللبناني، تدور معركة إعلامية أخرى يشكل نقل صور الدمار أولاً بأول واحدة من أهم تجلياتها على الفضائيات العربية.

وبضمن هذا النقل على مدار الساعة، تبث القنوات الفضائية العربية، ولحقت بها بعض الصحف المطبوعة، صور القتلى كما تلتقطها الكاميرا: جثثاً محروقة أو مشوهة، أشلاء هنا وهناك، متطوعون يحاولون إخراج جثة طفلة من تحت الأنقاض بشدها من قدمها.. بل إن تلك الفضائيات تتسابق على بث أكثر الصور دموية كدليل على همجية التدمير الإسرائيلي، دون أن تفكر بما يمكن أن يكون لهذه الصور من أثر على المشاهدين، على الأقل على فئة واسعة منهم هم المراهقون والأطفال! لن ندخل هنا في سجال نظري حول علاقة الصورة مع الخبر، ومدى المصداقية التي تمنحه إياها، والذي يتضمن مدرستين شهيرتين. إحداهما تقول أن صورة الحدث يجب أن تبث مع الحدث بغض النظر عن أي اعتبار آخر.

والثانية تقول أن هناك اعتبارات أخرى تمنع بث بعض الصور بغض النظر عن دلالتها في المصداقية! ولا في سجال سياسي حول أهمية نقل صور نتائج التدمير الإسرائيلي كما هو، وأثر ذلك على فضح هذه الجرائم! وإن كان للامتناع عن نشر مستوى من الصور يدل هذه الدلالة أو تلك أم لا، لكننا سندخل في قضية أخرى لا يبدو أن وسائل الإعلام تلك تأخذها بالحسبان! بل لعلها ليست قضية بقدر ما هي معركة أخرى تخاض هذه المرة على (جثث) نفسيات أطفالنا! أطفال الدول العربية جميعاً. هؤلاء الأطفال الذين لا تنقصهم أصلاً صدمات نفسية جديدة! وخاصة الأطفال المهجرون والناجون من قنابل الموت! فأولئك رؤوا بأم عينهم ما جرى! ولعلهم لايحتاجون لتثبيت ما رؤوه عبر تأكيده، على مدار اليوم، أمام عيونهم!

الجميع يعرف أن الأطفال العرب في فصل الصيف يقضون فترات طويلة أمام شاشة التلفاز. فالمدارس قد أغلقت أبوابها. والغالبية الساحقة منهم لا تجد مكانا مناسباً للترفيه واللعب سوى الشارع. ونظراً للحرارة الشديدة في عز الصيف فإنهم يمضون القسط الأوفر من النهار في البيت! البيت الذي يضم الأب والأم والأخوة الكبار، والذين هم متسمرون أمام الشاشة يقلبون بين هذه الفضائية وتلك في متابعة متوترة ومشحونة حتى الحد الأقصى، ويحرمون أبناءهم وأخوتهم الصغار من مشاهدة قنواتهم! كما أن الأطفال يتابعون بأنفسهم هذه الفضائيات نظراً لشعورهم المباشر بأن شيئاً استثنائياً يحدث في بيوتهم! والنتيجة أنهم يتسمرون أمام الشاشات ليتابعوا الأخبار المصورة للحرب. أي يجلسون ليشاهدوا هذه الجثث المشوهة، والأطراف الممزقة، وكيف يخرجونهم من تحت الأنقاض أجزاء، أو جراً، أو… ما الذي تفعله هذه الصور؟!

إنها ببساطة تؤثر بطريقة عاطفية شعورية ولاشعورية على المشاهدين، كباراً وصغاراً. وإذا كان الكبار يملكون، وإن نسبياً، قرارهم في أن لا يتابعوا هذه الصور، ويمتلكون وسائل دفاعهم النفسية في مواجهة الصدمات أو حرفها أو تفريغها، فإن الأطفال مجبرون على متابعة تلك الأخبار بسبب (التشويق) الذي يلمسونه من الصورة، ومن ردود أفعال أهاليهم عليها! كما أن نفسياتهم الغضة وغير الواعية لم تمتلك بعد آليات دفاعها الخاصة التي تستطيع تجنب آثار تلك الصور أو حرفها! وأية ملاحظة سريعة للتعابير المنطوقة وتلك المعبر عنها بالوجه واليدين، وبالدمع والبكاء أحياناً، إضافة إلى الغضب والتوتر و.. التي يبديها الكبار كرد فعل على مايشاهدونه، أية ملاحظة سريعة لذلك تبدي بوضوح مدى الأثر الذي يتركه بث هذه الصور على الأطفال! ولا يختلف الأمر مع الجرائد التي سارعت (للحاق) بهذه الموجة. فبدأت تنشر على صدر صفحاتها الأولى مناظراً تخرج عن نطاق أي منطق! وكلنا يعرف أن من يشتري الجريدة يضعها في البيت في مكان على مرأى من الجميع عموماً. مما يعني أنها أيضا في متناول الأطفال!

إن هذا التفاعل بين الطفل والصورة، المتحركة على الشاشة أو الثابتة في الصحيفة، مع الإشارة إلى التأثير المضاعف للأولى، لا يمكن وصفه بصفات إنسانية، ولا يمكن تبريره بأي تبرير سياسي! والواقع أنه، من وجهة نظر مختلفة، قد يلعب دوراً تعجز الطائرات أحياناً عن لعبه. إنه تشويه هذه النفسيات الغضة التي لا تستطيع أن تميز الأمر بدقة. ولا تعرف، تقريباً، سوى أن هؤلاء كبار وصغار أموات ومشوهون! وتلك الأطراف التي تعرض عارية أو مسحوبة من تحت الأنقاض تشبه أطرافه هو! ومن الطبيعي، في ظل النفسية الخاصة بالطفل، وهشاشتها، أنه لا سبيل له لتمرير هذه المناظر دون آثار سلبية جمة! وإذا ما فاتت الطفل لقطة ما من هذه الصور التي نحتج على بثها، فإن تفاعل الأهل المشروع وعالي المستوى كفيل بأن يوصلها له بأكثر الأشكال إيلاماً وفجاجة!

بل إن الأنكى أن بعض هذه القنوات تستخدم الأطفال ذاتهم دون أي رادع في (سباقها) الإعلامي، مهما تنوعت التسميات التي تطلق عليه! وهذه القنوات عمدت إلى إجراء مقابلات مع أطفال مهجرين أو نجو من الموت بأعجوبة بينما سقط أمام أعينهم، أو قربهم، أخوتهم أو أقرباءهم أو أصدقاءهم الذين كانوا يلعبون معهم قبل لحظات فقط! وفي هذه المقابلات لم تتوانى هذه الفضائيات عن التذكير وإعادة التذكير بما جرى عبر أسئلة (تبحث عن حقيقة ما جرى)!

من المعروف أن الطفل يتأثر بالصورة أكثر مما يتأثر بأي خطاب آخر. فالصورة هي تجسيد العالم بالنسبة له. ومحاكمته العقلية وردود أفعاله الشعورية واللاشعورية ترتبط مباشرة بتداعيات الصورة في ذهنه. فكيف يمكن أن يكون هذا الأثر حين يتعلق الأمر بصور أشلاء لأناس وأطفال يعرف مباشرة، أو غير مباشرة أنهم أناس يخصونه؟ وأية تداعيات ستتركها هذه الصورة الدموية في نفسيته؟

هل هذا معقول؟! هل يمكننا تبرير هذا السلوك؟! ومن تخدم الآثار الضارة النفسية المترتبة على جميع الأطفال المتابعين للشاشات والصحف، قسراً، في الدول العربية؟! وأية حقيقة نسعى وراء فضحها عبر اختيار أكثر الصور هولاً لبثها؟! هل يعتقد المسؤولون عن تلك الفضائيات أننا على درجة من الغباء حداً لا نستطيع فيه تخيل الموت ما لم نر الأطراف الممزقة، أو أيدي أبطال الإسعاف يسحبون جثة رجلاً من قدميه من تحت الدمار؟! وهل يقدرون حقاً نتائج هذه (الأمانة) الصحفية؟! هل فكروا بعدد الأطفال الذين يتابعون شاشاتهم، وأي أثر ستتركه صورهم على نفسياتهم راهناً ومستقبلاً؟! لعله من المفيد التذكير هنا أن هناك مواثيق شرف إعلامية في العديد من بلدان العالم تمنع من نشر الصور (المتطرفة) للموت بغض النظر عن الظرف المتعلق بها، سياسياً كان أم لا!

ومن المعروف أن المحطات الأوربية مثلاً، لم تنشر صور جثث مشوهة قتلتها التفجيرات في مدريد! كما أن أحداً لم يرد الجثث المحروقة أو المشظاة الناجمة عن تفجيرات الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة الأمريكية! بل إن روسيا الاتحادية التي بثت صور الأطفال الضحايا في عملية اقتحام مدرسة بيسلان، عادت واعتذرت لعائلات الضحايا وأقرت ميثاق شرف يمنع بث صوراً متطرفة عن القتلى أيا كان الاعتبار السياسي! لعلنا الآن بحاجة ماسة للوقوف لحظات أمام ما نفعله! إننا لا ننقل الحقائق حين نبث هذه الصور! فالحقائق تمر عبر العقل السليم، وليس عبر العقل الذي شوهته الدماء! والحقائق، أياً كانت، لا يمكن أن تكون (خيّرة) حين تعمل على تشويه نفسيات أطفالنا!

لذلك نوجه هذا النداء: نرجوكم، لا تشاركوا قنابل التدمير والقتل بتشويه من نجى من الموت! إن الصورة المعتدلة كافية! وإن احترام الإنسان، ميتاً كان أم حياً، وبغض النظر عن الاعتبارات السياسية، هو جزء أساس من الرسالة الإعلامية مهما كانت!