23/5/2008

رغم السنوات التي أمضتها في السجن، ورغم الظروف التي عايشتها (ك، ل)، المرأة البسيطة (بسيطة حقا رغم المساحيق الرخيصة التي تحاول أن تخفي وراءها براءة لاتخفى)، رغم ذلك أشعرتني ملامحها بارتياح كبير.. وأكدت لي، في حوارنا الشيق هذا، أن الخطية لا تقتل الإنسان الكامن فيها،مهما كانت الظروف قاسية ومرة..
(ك، ل) امرأة متزوجة في السادسة والعشرين من عمرها اليوم.. لم تتم المرحلة الإعدادية من دراستها، ولديها طفلها الذي نادرا ما تراه..
بهذه المعلومات البسيطة ابتدأت بها بعد حديث دام نصف ساعة قبل أن تبدأ (ك، ل) بالشعور ببعض من الارتياح بعد أن كانت الريبة والخوف بادية على عينيها اللتين تروحان وتجيئان حول مكان جلوسنا، كأنها تنتظر أن يباغتنا احدهم، أو ينضم إلينا آخر.
برغم السنوات الخمس التي أمضتها في السجن، وبرغم تلك الظروف التي عايشتها هذه المرأة البسيطة (بسيطة رغم المساحيق الرخيصة التي تحاول أن تخفي ورائها براءة لا تخفى)! رغم ذلك كانت معالمها تشعرني بارتياح كبير.. وتؤكد لي، مرة أخرى، أن الخطيئة لا تقتل الإنسان الكامن فينا.
بدون مقدمات، بدأنا حديثنا:
ن،س: كنت في السجن وخرجت منذ بضعة أشهر.. ما هو السبب؟
(ك، ل) : كنت في السجن لتهمتين: الأكبر “جرم ترويج العملة المزيفة”. والثانية أنني اعترفت أثناء التحقيق معي بأني أمارس الدعارة.
ن،س: الدعارة! هل وصلت إليها بنفسك أم دفعك أحد لامتهانها؟
(ك، ل) : دعيني أتكلم براحتي ولا تلحي علي..!
ن،س: طيب.. كم كان عمرك حين بدأت بما سميتيه عملا في الدعارة؟
(ك، ل) : قد تفاجئين كم كنت صغيرة عندما اضطررت لأول تجربة لي، أو بالحقيقة أول استغلال جنسي تعرضت له.. فأنتم المتعلمون لا تقرؤون إلا ما في كتبكم وجرائدكم.. وتصدقون الوسيلة الإعلامية الأولى في الكذب والتحريف (التلفزيون).. ولا يفكر أحد منكم بالنزول إلى الشارع لمعرفة الحقيقة!
لقد كان أول استغلال لي عندما كنت طفلة في سن 7 أو 8 سنوات..
ن،س: ؟!! .. لا تسكتي.. أكملي رجاء..
(أشعلت سيكارتها الرابعة.. وعادت للحديث..)
(ك، ل) : أمضيت طفولتي في الشارع مثل جميع أطفالي حيي الفقير والبعيد عن خارطة النظافة والتطوير… وكان في آخر ذلك الشارع محل سمانة يرتاده جميع الأطفال لشراء المربيات والمصيص الرخيص.. وكان صاحب محل السمانة يدعى (أبو شادي)..
بدأ (أبو شادي) يقرصني دائما من خدي مقابل بعض حبات المربى والمصيص، وأحيانا بعض النقود القليلة، ويقول لي: “أنت حلوة وأمورة مثل أمك”!.. ولم أكن أفهم أن له غاية ما، ولا ما يقصده بـ”مثل أمك”!
ومرة كان الشارع خالياً من المارة، وكنت على باب الدكان، دعاني إلى مساعدته في لم حبات المربى التي كان قد رماه عل الأرض.. وما إن انحنيت لألم الحبات معه حتى انهال فوقي بحسده الضخم المقرف.. ضمني إلى صدره كقطعة واحدة.. عرى جسدي الصغير تماما.. بلله بسوائله.. كما بللت ملابسي من رعبي وخوفي!
حين انتهى من إفراغ غريزته الحيوانية في جسدي الطفولي، حتى أطلقت العنان لساقي مرعوبة.. لم أنم في تلك الليلة.. بكيت كثيرا.. وكنت أود إخبار والدتي.. لكن كلما هممت بإخبارها تراجعت فورا خوفا من ضربها وشتمها لي.. وهي التي تضربني أصلا مع والدي بمناسبة وبغير مناسبة..
حبست نفسي لأيام في المنزل دون أن أخرج منه.. ويبدو أن (أبو شادي) اطمأن أنني لم أخبر أحدا لأنه لم يتعرض لأي سؤال حول الموضوع.. فعاد يحاول استدراجي إلى الدكان..
كنت خائفة منه.. فلم أذهب إلى الدكان لأيام طويلة. لكن رغبتي ببعض الحلويات دفعتني للعودة إليه.. وأنا جاهلة أصلا بمعنى ما جرى لي..
كان “كريما” معي.. يعطيني أي شيء أطلبه حتى النقود.. ولكنه تمكن من أن يأخذ مني كل ما يستطيعه من طفلة في عمر 8-9 سنوات!!
ن،س: كم كان عمره؟
(ك، ل) : ربما /40/أو أكثر.. لا أذكر.. لكنه كان كبيرا وضخما..
ن،س: لكن لازلت لا افهم كيف كان يستغلك..؟! طفلة في مثل هذا العمر!
(ك، ل) : كما يستغل الأطفال تماما.. لابد أنك تعلمين!..
ن،س: ولكن هناك عدم تكافؤ بين..! طيب لا بأس.. كم بقي هذا الوضع؟ أي استمرار استغلالك من قبله؟
(ك، ل) : ربما حتى أكملت العاشرة.. أو بدأت علي علائم البلوغ.
ن،س: ومتى تزوجت؟
(ك، ل) : في الصف الثامن.. كان عمري آنذاك 15سنة
ن،س: ماذا كان يعمل زوجك؟ وكم كان عمره؟
(ك، ل) : أولا عليك أن تعرفي أني بنت في عائلة مؤلفة من 10أشخاص، وفقيرة، والضرب عادة دائمة في بيتنا.. وكان علي أن أتشبث بأي أحد يدق بابي للزواج.. حين تقدم لي عرفت أنه يعمل في التهريب.. السرقة.. ترويج العملة.. والمهنة الأساسية.. (مبلط).. ولكن عمله كان سيئا كما وضعه المادي.
ن،س: قلت لي انك رزقت بطفل.. ماذا عنه؟
(ك، ل) : طفلي حملت به فور زواجي. ولم يكن زوجي يرغب بذلك لأنه ضد إنجاب الأطفال. وقتها قال لي: “هلق ما وقت أولاد”. عقلي الساذج لم يفهم قصده إلا بعد أن وضعت طفلي بعدة أشهر.
ن،س: ماذا تقصدين؟
(ك، ل) على مهلك عليي.. (أشعلت سيكارتها العاشرة ربما.. وعادت للحديث..) بعد أن وضعت طفلي كان وضعنا المادي سيئا جدا..
وذات يوم جاء زوجي مساء وأخبرني أنه لم يعد قادرا على دفع أجرة البيت وتحمل مصاريف الطفل!.. وقال لي: وجدت لك عملا مناسبا..
ن،س: ما هو؟!
(ك، ل) : أن ابدأ بترويج العملة المزيفة في النهار.. أذهب إلى المحلات لأشتري بعض الأغراض وأعطي البائع 1000 ليرة المزورة. أختار المحلات الرخيصة التي لا تحوي على كاشف للعملة المزورة.. كنت أشتري أي شيء.. وحين يعيد البائع ما تبقى من الألف ليرة، تكون الأوراق المعادة نظامية.. وهكذا أكون قد صرفت العملة المزورة.
طبعا.. هذا كان عملي نهارا.. وقد أعجبني لسهولته ومردوده.. وقبلته دون نقاش.
أما “عملي الليلي” فلم أكن قد عرفته بعد!
أخبرني زوجي أن ضيوفا مهمين سيقومون بزيارتنا خلال الأيام المقبلة.. وعلي أن أرحب بهم.. “وكل شي بحقو”! هذا ما قاله.. لم تعجبني القصة.. وعارضت بشدة.. شتمته بأبشع الأوصاف.. لكنه ضربني بقسوة وهدد بطردي..
بعد عدة أيام عاد لطرح الموضوع ذاته.. وبدأ إغرائي بالنقود الكثيرة التي ستنهال علينا وتحل كل مشاكلنا..
فكرت في الموضوع.. أخبرت أمي وأنا خائفة من رد فعلها.. لكنها صعقتني عندما لم تعارض الفكرة قائلة: “مادام زوجك موافقاً فلماذا تعارضين؟”!!
في الحقيقة شجعتني بقوة على ذلك..
وبدأت بالعمل الجديد بعد استشارة أمي بعدة أيام.
الأمر بسيط: يحضر زوجي مستلزمات العشاء، ويستقبل الضيف بكل حفاوة و”احترام”… يجلس معنا فترة قصيرة، ثم يستأذن بحجة عمل طارئ ويخرج من البيت.. ولا يعود إلا في اليوم التالي بعد أن يكون “الزبون” قد قضى رغبته ورحل..
ن،س: كيف تقبلت فكرة أن تكوني عرضة للاستغلال ليس فقط من قبل زوجك بل ومن الجميع؟!..
(ك، ل) : استغلال؟.. هذه كلماتكم أنتم.. بالنسبة لي أنا أقدم جسدي وهم يدفعون.. عمل كأي عمل آخر.
ن،س: وأين طفلك من كل هذا؟!
(ك، ل) : أضع طفلي عند أهلي.. فأنا كنت منشغلة عنه صباحا ومساءا ولم يكن لدي الوقت لأعتني به.. وقد تمر أياما لا أراه.
ن،س: كم كانوا يدفعون لك؟
(ك، ل) : لم أرى قرشا واحدا منهم! يدفع الزبون مقدما لزوجي.. أظن أنهم كانوا يدفعون 500 ليرة سورية للمرة الواحدة.. فأنا صغيرة وجميلة.. يعني “مطلوبة”..
ن،س: هل كان لديك ضيوف أو زبائن كل ليلة؟
(ك، ل) : تقريبا.. إلا بضعة أيام أنت تعرفينها جيدا.. (أيام الحيض).
ن،س: الم تخشي من انتقال الأمراض الخطيرة إليك عن طريق الجنس؟
(ك، ل) : بلى.. ولكن لكل عمل مخاطره..
ن،س: ألم تستخدمي وسائل وقاية؟ كالواقي الذكري مثلا؟..
(ك، ل) : بعضهم كان يستخدم الواقي الذكري بإرادته هو.. وبعضهم يرفضه! بصراحة لم أكن أفكر وقتها إلا
بالنقود.. ولم أصب بأي مرض حتى الآن..
ن،س: هل أخضعت نفسك لفحوص دورية للتأكد من عدم إصابتك؟
(ك، ل) : أبدا..
ن،س: وهل كان زوجك يعاشرك مع كل هذا؟
(ك، ل) : أجل.. ما المانع؟!
ن،س: ألم يعاملك أحدهم (الزبائن) بطريقة شاذة.. مثلا؟..
(ك، ل) : أحدهم حاول أن يجبرني على تعاطي حبوب مخدرة.. فرفضت.. عندها بدأ بضربي.. استغليت أول فرصة وهربت من المنزل إلى الشارع.. ليلتها لمت نفسي وشعرت بغبائي.. فليتني قبلت تناول تلك الحبوب وتحملت ضرب الزبون.. فقد كان ضربه لي أرحم من ضرب زوجي لي بحزامه الحديدي لعدة أيام متتالية لأنني رفضت طلب الزبون وهربت من البيت.. وأكثر ما جعله يغضب أن هربي كاد يتسبب بإعلام الشرطة.. وهذا خطأ لا يغتفر في هذه المهنة..
ن،س: وكيف وصلت إلى السجن؟
(ك، ل) : بسبب ترويج النقود المزيفة.. أحد المحلات التي كنت ارتادها نهارا كان قد اكتشف زيف القطع النقدية ودبر لي كمينا مع الشرطة.. وما إن أعطيته الورقة النقدية انقض علي رجال الشرطة وألقوا القبض علي.. وللأسف كانت حقيبتي تحوي على عدة قطع نقدية مزورة. أوقفت لعدة أيام قبل أن أحال إلى القضاء.. وأثناء التحقيق اعترفت أني أمارس الدعارة أيضاً.
حكمت بالسجن لـ 7 سنوات.. لكنني خرجت بعد مضي ثلاثة أرباع المدة
ن،س: ماذا تنوين أن تفعلي الآن بعد أن خرجت؟
(ك، ل) : الآن لا شيء.. ريثما تخف الرقابة عني.. فأنا اشعر أني لازلت مراقبة.. بعد ذلك سأعود لمزاولة عملي
السابق.
ن،س: أي عمل الليلي أم النهاري؟
(ك، ل) : (تضحك..) الليلي طبعا.. لكن هذه المرة سأقبض بنفسي كل قرش.. ولن أسمح لأحد أن يسرق مالي..
زوجي في السجن الآن بسبب جرائم عدة.. وأعتقد أنه لن يخرج منه أبدا..
ن،س: ألم يجعلك السجن تغيري رأيك في طريقة حياتك؟ لم لا تبحثين عن عمل أفضل يحقق لك الحد الأدنى من كرامتك الإنسانية؟! فأنت لست مضطرة لبيع جسدك كل ليلة.. وتحمل قذارة الناس! لازلت صغيرة.. فلم لا تبدئي من جديد؟
(ك، ل) : أي عمل؟!.. ماذا اعمل؟!..
خادمة في البيوت!.. أم وراء آلة للخياطة في معمل أو مشغل يستهلك كل قدرتي؟!.. وفي النهاية قد لا أجد ما يكفيني حتى لشراء الخبز..
أيتها “الاجتماعية”.. ويا من تقولين انك من “نساء سورية”.. أنت الآن هنا وغدا قد يكون معي من يسمون أنفسهم من “جماعة حقوق الإنسان”.. الذين كانوا يأتون لمشاهدتنا في السجن وكأننا دمى خشبية شريرة وموبوءة!! فماذا ستفعلون من أجل أن أعيش بكرامة؟!
هل تعلمي أنني قبل دخولي السجن، ورغم عملي “السافل والمنحط” كما قد تريه وتصفيه.. كنت احترم نفسي لأنني أعمل لأطعم نفسي وزوجي وطفلي.. وأدخل على أهلي ومعي هدية ما..
هل تعلمي أنت وجماعتك، (واعلم انك لن تكتبي الآن ما سأقوله الآن!).. كنت امرأة سعيدة رغم عملي هذا.. وأشعر بإنسانيتي دون مشكلة.. لكن بعد دخولي السجن ذقت طعم الجوع والذل..
لعلي بعت جسدي في الخارج ببعض النقود.. لكن في السجن بعته ببعض الطعام فقط!! وربما بدافع الذل وتحقير الذات أيضا.. في السجن تعرضت للمهانة والاغتصاب، والضرب.. والشذوذ من السجينات.. ولم يكن هناك من يحميني!!
كان علي أن أكون خادمة.. حتى في السجن هناك خدم وحشم!..
لذلك قررت أن امتهن مهنة الدعارة كعمل حقيقي عند خروجي..
عرضت علي إحداهن في السجن عملا ضمن مجال الدعارة، لكنه محترم.. وضمن شركة سياحية معروفة تمارس الترويج لـ”الدعارة المحترمة” من ضمن نشاطاتها الكثيرة! ولأنني جميلة وصغيرة أكدت لي المرأة أنهم سيقبلون بي، وسيهتمون بمظهري، سيعلمونني كيف أكون امرأة جميلة ونظيفة ومحترمة.
سأترك القذارة التي أعيش بها.. إلى قذارة اكبر وأوسع.. لكن ضمن مستوى معيشي أفضل.. حتى أنهم سيوقعون معي عقداً وربما أسجل في التأمينات (وتضحك).
عندما كنت اعمل لوحدي. أو مع زوجي، اعتبرت مجرمة وحكم علي ستة أشهر بجرم الدعارة. أما غدا، مع هذه الشركة “المحترمة” فسوف يكون عملي قانونيا ولا غبار عليه! ولن يعرف السجن طريقه إلي! وسأجد من يحميني ويدافع عني! فهل سمعت أن أحدا أوقف مثل هذه الشركات عن مزاولة عملها ونشاطاتها؟! وحتى إن فعلوا ذلك مع هذه الشركة أو تلك، ماذا عن الكثيرات غيرها؟!
ن،س: سؤال أخير: فيما لو قدر لك أن تعيشي حياة أخرى ماذا كنت تتمنين أن تفعلي في حياتك؟
(ك، ل): أتمنى..!!
طيب سأجيب بصراحة..
أتمنى أن امتلك بيتا صغيرا مع طفلي الذي نادرا ما أراه، والذي لم يفهم معنى أني أمه..
أن أكون مع زوج يخرج صباحا للعمل.. ويعود مساء للمنزل.. متعبا.. لأحبه وأعيش معه..
أتمنى أن أحظى بسرير نظيف لا يعرف إلا أنا وزوجي فقط.. بدون غرباء..
هل ترين كم هي أحلامي صغيرة وبسيطة؟!.. لكنها مستحيلة على أمثالي!!
هل ستستغربين أن أخبرك أنه حتى أهلي ينتظرون بفارغ الصبر عودتي لعملي؟! فهم يتأففون من أن طفلي كلفهم الكثير من النقود.. رغم أنهم جعلوه يعمل في بيع الدخان المهرب!!
في نهاية الحديث.. أعطيتها رقم هاتفي.. وطلبت منها ألا تترد في حال كانت بحاجة لمساعدة من أي نوع..
تحدثنا قليلا كبشر.. بعيدا عن الإعلام.. تحدثنا عن هموم الحياة اليوم وصعوباتها.. عن الحب والزواج.. عن الماضي والمستقبل..
وقبل أن تمضي، لبست عباءتها السوداء، وارتدت حجابها الذي لا يغطي إلا بعضاً يسيراً من شعرها.. ومضت وحيدة مرة أخرى.. مؤكدة أنها ستعاود الاتصال بي لتقرأ ما كتبته عنها..
وما زلت أنتظر اتصالها..
*- جميع المعلومات الخاصة بالسيدة (ك، ل) تم تغييرها لضرورات حمايتها.