21/8/2006

لدى هيئات المجتمع المدني المعنية تحديدا بتوطيد السلام وتعزيز توجهات التعايش والتعاون يشكل الحوار الوسيلة المركزية لتحقيق أهدافها، أكان ضمن الدولة الواحدة أو ما بين الدول. ضمن الدولة الواحدة هي ترى الحوار ضرورة مستديمة للحفاظ على الوفاق الوطني، كونَ الحوار آلية ناجعة لبلورة وفاق شعبي حول السياسات المتبعة داخليا وخارجيا من خلال اجتهاد وطني ممارس على نحو شفاف، موضوعي، ومنصف. المجتمعات المعاصرة في غالبها متعددة الأعراق والأديان والمذاهب، إلى جانب كونها متعددة الرؤى ومتشعبة المصالح والاهتمامات، وهي لذلك ليست في غنى عن ممارسة حوار وطني صريح، نشط، ومتواصل – حوار يحاجج بالمنطق، يزيل الشبهات، يعري الحقائق، يوطد الثقة، وفي جميع الأحوال يحتكم إلى مقتضيات الصالح العام.

في غياب حوار وطني كهذا تنقلب التعددية في أيما مجتمع إلى تشرذم سرعان ما يولد نزوعا طائفيا، هو في أيسر آثاره يجهض المجهود الوطني وفي أسوء عواقبه يفجر صراعات أهلية يصعب إخمادها قبل أن تسبب دمارا فادحا على الصعيد الوطني. هنالك شواهد عديدة في سِيَر المجتمعات، قديما وفي التاريخ الحديث، حيث تعطيل الحوار الوطني وقفل باب اجتهاد جماعي، مؤسسي وشعبي معا، لأمد طويل، أدى إلى تفاقم أزمات بدأت صغيرة وانتهت حروبا أهلية منهكة.

الحوار الوطني طبعا لا يلقى مجالا أو متنفسا في غياب حرية التعبير. حرية التعبير بدورها تتطلب صحافة حرة نشطة ومنابر حوارية مفتوحة، كما تتطلب وجود حرية التنظم مدنيا لأجل إنجاز غرض مشروع. هيئات المجتمع المدني هي تنظيمات مؤسسية معنية بإنجاز مهام وطنية مشروعة ومفيدة: من هذه الهيئات من يعنى بقضايا السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو التعليم أو الصحة أو حقوق الإنسان أو حقل حيوي آخر من حقول الشأن الوطني. كأمر طبيعي، في جميع هذه القضايا تتباين قناعات المواطنين، بل ومرارا ما تتعارض ما بينهم المصالح بحكم رؤى نابعة من خصوصيات طائفية أو فئوية. من هنا أهمية الحوار الوطني كآلية مشروعة وممارسة بشكل متواصل، متجاوزةٍ الرؤى الضيقة إلى منظور وطني شرح يبني ويعضد الوفاق الوطني.

من هنا أيضا مبرر ظهور عدد متزايد من هيئات المجتمع المدني في عصرنا في سائر المجتمعات، مهمتها تفعيل مثل هذا الحوار وتيسيرُه، وتوفيرُ وسائله وتعميمُ فرصه، أكان عَبر كتابات أو ندوات أو برامج توعية هادفة، أو حواراتٍ مباشرة بين الهيئات المدنية والحكومات، بحيث تصب هذه الفاعليات كافة آخر الأمر في تعريض الفهم وتعميقه حول القضايا الوطنية وبلورة إجماعٍ أو شبه أجماع حول ما ينبغي أن ينتهج إزاء تلك القضايا من سياسات وتنشَدَ لها من حلول هي، كأمر أول، تعتمد على تقييم معرفي وموضوعي للأمور، وكأمر أخير، تحتكم إلى الصالح الوطني.

في أدبيات هيئات المجتمع المدني المعنية بتطوير الحوار الوطني نأتي على شروح وافية للأساليب الحوارية الأكثر تلاؤما لحل مختلف القضايا الخلافية في المجتمع الوطني. مثلاً، التنبيه إلى وجود مشاكلَ وطنيةٍ قائمةٍ أو متفاقمة، إبرازُ ضرورة تداركها، واقتراحُ صيغ معالجات صائبة وناجعة لها مرارا ما يأتي من أبحاث دُور الفكر والمعاهد العلمية التي تُعنى بالقضايا الوطنية وتقيّم أداء الحكومات إزاء مختلف مهام الشأن الوطني من خلال رصد دائب.

دُور الفكر والمعاهد العلمية مؤسسات غير ربحية مستقلة، وهي بذلك تندرج ضمن هيئات المجتمع المدني. من استنباطاتها تولد بحوث تبتعث حوارا وطنيا تعرض فيه رؤى متباينة، بل وأحيانا متضاربة. في المؤدى الأخير، من خلال مثل هذا الحوار الوطني، الممارس عبر مختلف وسائل الإعلام، وعبر مؤتمرات وندوات وأبحاث ومحاضرات، ترجح قناعات تأخذ مجراها تباعا في صياغة الخيارات الوطنية.

مشكلات هذا العصر آخذة في التشعب والتعقيد يوما بعد يوم، لذا معالجاتها تتطلب حراكا اجتهاديا موسعا على الصعيد الوطني ككل. مثل هذا الاجتهاد الحرك، المتطور بتطور المعرفة المعاصرة في شتى الحقول، والمستوعب خبرات مختلف مجتمعات هذا العصر، لا يمكن أن يُركن لنظر الحكومات وحدها، ولا هو في واقع الأمر هكذا يُركن لدى الدول الأكثر تقدما في العلم والتنظيم السياسى-الاجتماعي والإقتصاد. عالم اليوم يتزاحم بمشكلات لا الشعوب ولا الحكومات عهدت مثلها في سابق الخبرات، لذا الحاجة لاجتهاد جماعي. وسط هذا التزاحم بالجديد والمستجد، الصالح منه والطالح، مبادرات هيئات المجتمع المدني تسهم إسهاما كبيرا في تبصير الاجتهاد الوطني نحو سياسات أرشد وحلول أوفق. طبعا، كلما كانت مشكلة ما أعمق تجذرا وأكثر تعقيدا كلما احتاج حلها إلى نفَس أطول وجهد أكبر.

لكن المهم في جميع الحالات ممارسة الحوار لاستنباط أوفق الحلول وأكثرها رجاحة في النظر الجماعي. هيئات المجتمع المدني تؤدي دورا جديرا، بل وحيويا، في تفعيل مثل هذا الحوار الوطني، إنضاجه، وإثماره. إنها من حيث تأكيدها الدائم على منهجيات التعايش والتعاون، وعلى عدم التفريط بالوفاق الوطني مطلقا، تُعنى دأبا بمواصلة الحوار تحت جميع الظروف لدرء اللجوء للعنف، بالأخص حين تتعثر المساعي مكررا ويتعسر طويلا التوصل للحلول.

في مجال التحاور بين هيئات المجتمع المدني والحكومات مهم جدا بناء بواعث ثقة متبادلة وإلفة شخصية بين المتحاورين. يُنجز هذا باتباع منهاج حواري ودي، منضبط، ومنظم، ومن منطلق الإحساس بمسؤولية وطنية مشتركة في صيانة الوفاق الوطني وخدمة الصالح العام. مهم أيضا اختيار أشخاص مناسبين للتحاور ممن يتحلون برحابة الصدر، عُرض النظر، ووفور المعرفة بأمور وإمكانات هذا العصر. مهم أيضا تجنب التطرف والتعصب في الخطاب، الابتعاد عن التهديد والخداع، وعدم الاستخفاف باهتمامات الطرف الآخر .

مهم أيضا إدراك أن الحوار وسيلة غايته حل الخلاف واستعادة الوئام، وأنه لا يوجد بديل لحوار وطني صريح ورصين للتوصل لحلول عادلة ودائمة يكسب بها الجميع. مع عملية الحوار مهم أيضا إنماء حسن ظن متبادل بين المتحاورين يسعف مثابرتهم إزاء استمرار الخلاف وتعكر الأمزجة من حين لآخر جراء صعوبة التفاهم وتراجع فرص الوفاق. أدبيات هيئات المجتمع، المدني تزخر بتوصيف آليات إنجاح الحوار الوطني والحوار ما بين الدول بسواء، بالأخص في الدراسات المعنية بحل النزاعات conflict resolution studies والتي أضحت تلقى إقبالا متزايدا ضمن مناهج العلوم السياسية والعلاقات الدولية التي تدرس اليوم في الجامعات.