29/7/2008

* بقلم / عبد الناصر عوني فروانة

لم أنل شرف الإلتقاء بالاسير المناضل العريق سعيد العتبة في غرف السجون خلال فترات اعتقالي ، كما لم تتح لي الفرصة بلقائه على شبك الزيارة حينما كنت طفلاً وأتردد على السجون لزيارة أبي ، لكن من تشرفوا بلقائه من أصدقائي ورفاق القيد حدثوني مراراً عنه ، ومن خلال عملي ومتابعتي لقضايا الأسرى سمعت وقرأت عنه الكثير ، عن حكاياته ومسيرته النضالية ، عن صموده وهدوءه ومواظبته على الثقافة والرياضة ، فازددت شوقاً لرؤيته ، وفي مناسبات عدة شمخت به ، ولما لا ، فهو رمز للإنسان العربي الفلسطيني الحر الذي ناضل من أجل قضية مقدسة ، وأفنى زهرة شبابه وسنوات عمره خلف القضبان لأجل حرية فلسطين ومقدساتها من دنس الإحتلال ، ضحى بحريته من أجل أن يحيا شعبه بعزة وكرامة ، ورغم سنوات الأسر الطويلة لم تهتز قناعاته قيد انملة ، وكلما حلت ذكرى اعتقاله تنتابني مشاعر الفخر والإعتزاز بهذا المناضل العريق ، ممزوجة بالحزن والأسى لبقائه في الأسر طوال تلك العقود .. مما يدفعني للكتابة عنه . سعيد وجيه سعيد العتبة مواطن فلسطيني ولد في مدينة نابلس بتاريخ 5-1-1951 وأنهى دراسته الثانوية العامة في مدارس المدينة ، وعمل بعدها في التمديدات الكهربائية ولحام الحديد كما تقول والدته ، وكان مثالاً لأقربائه وجيرانه ، وكان انساناً وطنياً مثقفاً يتابع ما يجري من أحداث سياسية هنا وهناك وسافر أكثر من مرة الى دمشق وبغداد ، ليلتحق بعدها بالثورة الفلسطينية من خلال الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ويمارس نشاطه السياسي ضد الإحتلال ، ثم ينتقل بعدها للعمل العسكري ، فتعلم فنون القتال واعداد العبوات الناسفة والإشراف والقيادة وشارك في العديد من الأنشطة العسكرية .

وفي فجر التاسع والعشرون من تموز عام ألف وتسعمائة وسبعة وسبعون ، اقتحم جنود الإحتلال الإسرائيلي بيت الأسير سعيد العتبة في مدينة نابلس وحطموا محتوياته ، واعتقلوا سعيد وكان يبلغ من العمر آنذاك 26 عاماً ، ولم يكن متزوجاً لكنه كان يستعد للخطوبة ، وشاءت الصدف ان يوم اعتقاله كان يوم موعد زفاف شقيقته .

وقد حكم عليه في حزيران عام 1978م بالسجن مدى الحياة ، وأغلق بيت عائلته لمدة سبعة عشر عاماً ، وقبل اعتقاله كان قد التحق بالجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين قبل أن يلتحق باتحاد الشباب الديمقراطي الفلسطيني (فدا ) بعد سنوات طويلة من اعتقاله ، مؤمناً بعدالة قضيته وبحتمية الإنتصار ، و منذ لحظة اعتقاله تصدى للسجان بارادة المقاتل الفلسطيني التي لا تتزعزع وصمود لا يلين ، وتسلح بأمل الحرية والإنتصار وعاش على حلم لم يتحقق بعد .

ومضت السنين ليتنقل خلالها ما بين سجن وآخر، فجرى التحقيق معه لبضعة أسابيع في سجن رام الله وتعرض لشتى أنواع التعذيب ، ونقل بعدها إلى سجن نابلس القديم ، ثم إلى بئر السبع وعسقلان ليعود إلى جنيد في نابلس ثم إلى نفحة الصحراوي وتوالت التنقلات ليمر على الرملة وهداريم وأهلي كيدار ، وخلال المسيرة أدخل لأيام وشهور في زنازين جماعية وأخرى فردية وفي أقسام العزل ، دون أن يفقد البوصلة أو أن يفرط بالأمل ، بالرغم أن الحلم لا زال بعيد المنال ، بل وشارك مع اخوانه ورفاقه الأسرى عشرات الإضرابات عن الطعام ، وساهم معهم في تحقيق الإنتصارات . وتنقله من هذا السجن إلى ذاك يعني جدلياً معاناة للأهل ، حيث عليهم التنقل معه بين كل هذه السجون متحملين كل اشكال التعب والعذاب واجراءات السجون والحواجز والحرمان وتأجيل الزيارات والغاءها احيانا ، واجراءات الزيارات الإستفزازية من تفتيش مذل وإهانة .

أما سعيد فحياته كلها ألم ومعاناة ، فهو يعيش في سجون تشهد ظروفاً لا إنسانية وقهرية قلما شهدتها سجون أخرى ، سجون تفتقر للرعاية الطبية ، ويتلقى مع رفاقه الأسرى معاملة قاسية واستفزازية ، فالآلام تتراكم والأمراض تُستفحل ، والمعاناة تتضاعف ، والمؤسسات الإنسانية والحقوقية في سبات عميق ، وفي أحياناً كثيرة تجاوزت صرخات الأسرى وأنين أوجاعهم أسوار السجن ، وفي أفضل الحالات بيان أو تقرير من هذه المؤسسة أو تلك يتحدث عن انتهاكات عامة وسطحية تجرى في السجون الإسرائيلية ، دون متابعة أو محاسبة أو ملاحقة قانونية وقضائية .

وفي إحدى رسائله المهربة من خلف القضبان يقول فيها الأسير سعيد العتبة ” لم تتعبني هذه الرحلة الطويلة مع أن التعب صفة إنسانية وقد أكون مكابراً لو أنكرت ذلك لكن التعب مسألة نسبية فإذا كنت تعبت من السجن فهذا لا يعني أني تعبت عن حمل قضيتي وقناعاتي التي قادتني إلى السجن ، لا زلت أملك الطاقة لأكمل. نحن كشعب لا نملك الكثير من الخيارات ، المسألة هي أن نكون أو لا نكون ، فإما أن تكمل بنفس الروح وإما أن تسقط وتنتهي كإنسان وكقضية . كلمات تستوقفنا طويلاً ، وبعد واحد وثلاثين عاماً نقول بأن وجه ذاك السجان القبيح المجرم لم ولن يتغير ، واستمرار احتجاز العتبة يعكس عقلية اسرائيلية انتقامية من شخص سعيد وأمثاله ن ومن شعبه الأبي ، فيما وجه ذاك المناضل وإن قيدت حريته وطالت فترة إعتقاله وامتدت لأكثر من ثلاثة عقود بقىَّ ساطعاً رائعاً صامداً ، بل ازداد اشراقاً ، وتمسكاً بأهدافه وأحلامه التي لا بد وأن تتحقق مهما طال الزمن ، وشَكَّل عنواناً بارزاً للحركة الوطنية الأسيرة ، ونموذجاً يحتذى لكل مناضلي الحرية في العالم ، .

العتبة يحفر اسمه في موسوعة ” غينتس ” ويسجل رقماً جديداًً
العتبة الملقب بـ ” أبو الحكم ” حفر اسمه في موسوعة ” غينتس ” العالمية للأرقام القياسية منذ سنوات بعذاباته وآلامه وصموده الإسطوري ، ومع دخوله عامه الثاني والثلاثون يكون قد سجل رقماً قياسياً جديداً ، لرقم سابق مسجل حصرياً باسمه ، حيث تعتبر أطول فترة في العالم ، ولم يسبق لأي أسير سياسي في العالم أن أمضى مثل هذه الفترة ، فحتى نلسون مانديلا لم يمضي سوى 26 عاماً ، وقاتل الرئيس الأمريكي جون كينيدي أمضى 28 عاماً خلف القضبان .

ومع فخرنا واعتزازنا بالأسير سعيد العتبة وصموده الإسطوري الذي لا يلين ومعنوياته العالية ، نتساءل إلى متى سيبقى سعيد في الأسر ؟ الى متى ستبقى والدته محرومة من رؤيته بلا أسلاك وقضبان واحتضانه وضمه الى صدرها بلاحراسة وسلاح ..؟

أمه الحاجة أم راضي تقول : ” سعيد مهجة قلبي، ونصف روحي، ووقود دمي الذي يجري في شراييني، وكل أملي وأعزالرجال، الحنون، صاحب القلب الواسع الذي وهب كل عمره لوطنه ، وتضيف ” خسرت من عمري سنة مقابل كل سنة من هذه السنين التي خسرها ابني سعيد في السجن ، فسعيد مسجون في سجون إسرائيل يعاني مرارة الأسر وقساوة السجان ، وأنا مسجونة بانتظاري له أعاني قهر الحرمان والإنتظار والقلق ” لكنها لازالت تنتظرعودته و لم تفقد الأمل ، بل يزداد إيمانها قوة بان حرية سعيد لا بد آتية .

وفي احدى رسالة لأمه في عيدها يقول العتبة .. ” اسمحي لي أن أصفك بهذه الكلمات؛ فأنت ملاكي وأنت بريق الشمس الذي لا أستطيع إلا الرضوخ والركوع أمام أشعتك الحادة، كلمة أمي هذه ليست مقاما أورده لجزاء منك؛ أو لتصفية حسابات عذبتك بها، لا وألف لا، فأنا قطرة من بحر عطائك الذي لا ينتهي، قلبك الحنون الذي يأسرني بكل الحب ” ‘” وأخيرا وليس آخرا يا أمي: كل يوم هو ميلاد لك لأن حبي لك يسكن قلبي وجفوني التي لا تنام إلا بذكرك وتذكارك لأن حبك يسري في عروقي وشراييني وهذه العاطفة أنا محروم منها، وليس بإمكان سنوات اعتقالي أن تعطيك جزءا منها ” .

( 81 ) اسير مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عاماً
فسعيد يعتبر أقدم الأسرى وعميدهم ، و يوجد معه ( 81 أسير ) ممن أمضوا أكثر من عشرين عاماً ولا زالوا في الأسر وهؤلاء يطلق عليهم مصطلح ” عمداء الأسرى ” ، ومن بينهم ثلاثة عشر أسيراً أمضوا أكثر من ربع قرن وهم نائل وفخرى البرغوثي وأكرم منصور و أبو علي يطا وفؤاد الرازم وابراهيم جابر وحسن سلمة وعثمان مصلح ، سامي يونس ، كريم يونس ، مار يونس ، وسليم الكيال بالإضافة الى سعيد العتبة .

وبدخول العتبة عامه الثاني والثلاثين نأمل أن نرى مشاهد فلسطينية تعكس وحدتنا الداخلية الملحة والضرورية ، لا سيما خلف قضية الأسرى والعمل بشكل موحد وفقاً لإستراتيجية وطنية موحدة من أجل ضمان حرية الأسرى جميعاً ، فلامعنى للحرية دون حريتهم ، ولا جدوى للمقاومة دون أن تكفل حريتهم ، وأي اتفاق سياسي لا يتضمن جدولاً زمنياً واضحاً لم ولن يكتب له النجاح ، وأي صفقة لتبادل الأسرى لم تمنح هؤلاء الأولوية نعتبرها منقوصة ولا معنى لها ، فلقد آن الأوان لأن ينعم العتبة ورفاقه القدامى بالحرية .

* أسير سابق وباحث مختص بقضايا الأسرى ومدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين
الموقع الشخصي / فلسطين خلف القضبان
www.palestinebehindbars.org