7/12/2008

*بقلم / عبد الناصر عوني فروانة
غزة تَحترق وتشتعل .. غزة تُدمر وتُذبح .. غزة تَبكي دماً .. غزة تُكسر وتأبى الإنكسار ، ومشافي غزة تتحول الى مقابر لمئاتٍ من الجثث المختلفة ومجهولة الهوية التي يصعب التعرف عليها .. مشافي مليئة بأشلاء ممزقة ومتناثرة هنا وهناك …. مشافي غرفها مكتظة بمئات الجرحى والمصابين من كل الأعمار والأجناس ، وأطفال بعمر الورود تتساقط .. وشوارع غزة تكاد تخلو من المارة لتتحول الى سيول وبرك من الدماء ..هذا هو حال غزة الحزينة .

فوالله ما جرى ويجري في غزة يفوق الوصف ، وما تناولته وسائل الإعلام المختلفة هو أقل بكثير مما حصل .. وشخصياً أحاول منذ الظهيرة كتابة شيء عما رأيته بأم عيني من دمار للمقار الأمنية التابعة للحكومة المقالة ، ولبيوت الأبرياء التي هُدمت ودمرت وسُويَّت بالأرض وكأنها لم تَكن ، ولأشلاء الشهداء المتناثرة .

أحاول ترجمة ما سمعته من أصوات لمئات الأطنان من القنابل ” الذكية ” المدَّمِرة التي ألقيت على غزة وكأن ستون طائرة أرادت أن تلقي حملها وتعود الى أدراجها في مسابقة زمنية فيما بينها .. أحاول أن أصف حال أسرتي وأطفالي الصغار حينما سمعوا أصوات الإنفجارات الرهيبة ، ورأوا من الشبابيك دخان متسخ بلون الموت يتصاعد ، وضباب أسود يأتيهم من كل ناحية ، واشتموا رائحة البارود والغبار في مشهد غير مسبوق لهم ولي أيضاً .. مشهد يمثل زلزال مدمر ، مفتعل بأيدي ” بشر ” ان جاز التعبير لأنهم ليسوا ببشر ..

وكلما بدأت بالكتابة تراجعت .. فهول الصدمة وحجم الجريمة وضخامتها وسرعتها أكبر بكثير من أن توصف بكلمات من كاتب متواضع مثلي .. ومع ذلك قررت الكتابة من قلب غزة بعدما عادت الكهرباء في منتصف الليل لبضعة ساعات .

وأثناء كتابة هذه السطور ، ” القنابل الذكية ” لم يتوقف قذفعها وإلقائها على غزة المذبوحة التي لاحول لها ولاقوة ، وأصوات الإنفجارات نسمعها بين الفينة والأخرى ، فلا تكاد تمر ساعة دون أن تسمع خلالها عدة انفجارات ، تدمر ما تبقى من أبنية وجدران ، ودون أن ترى ألسنة نيران تلتهم ما تبقى من حاجياتنا ، وضباب أسود يتصاعد ، مما يشير الى أن دمار غزة متواصل ومستمر ، وأشعر بأن رقعة الدمار في غزة تتسع مع كل دقيقة ، وربما تتصاعد مع بزوغ الصباح .

غزة لم تكن في حال تُحسد عليه قبل الدمار الأخير .. غزة جَسد مطعون غارق في جراحاته اليومية ، وتعيش في حصار خانق أدى الى النقص في كل شيء ، وتعتبر سجن هو الأكبر والأقسى في العالم ، وتشهد دمار متواصل وسلب لكل مقومات الحياة البشرية في محاولة لإعدام ماتبقى من الكرامة الفلسطينية الأصيلة ، وتعيش لياليها في ظلام دامس .. وأطفالها يولدون بين أنقاض البيوت ويلتحفون السماء ويكبرون ويتغذون على مشاهد الموت والقتل والدمار ، وكأننا لسنا ببشر لنا حقوق أساسية بحدودها الدنيا.

تتجول في شوارع غزة رغم ظلام الليل الدامس فلم تَرَ سوى جنازات الشهداء وبيوت العزاء ، ودموع الأطفال ، ولم تسمع سوى صراخ الثكالى وعويل الأرامل ، وسيمفونية الأسى والعذاب ، وايقاع الخراب والدمار ، ولن تسمع غداً فيها سوى أنين وآهات الجرحى وألحان الموت ولن ترى سوى بيوت ومباني مدمرة وجنازات منتشرة في كل شوارع مدنها وأزقة مخيماتها .

فصورة قطاع غزة لم تعد كما كانت .. وخارطتها ليست كخرائط مدن العالم ، فهي مضرجة بالدماء ، ممزوجة بالآهات ، معبقة برائحة البارود ، مدمرة بالقنابل ” الذكية ” .

وعيون أطفال غزة تبكي حسرة وحرقة ، وقلوب سكانها تعتصر ألماً وحزناً .. لصمت غير مقبول عربياً واسلامياً ودولياً .. وصدقوني لو لم نتجرع المرارة على درجات منذ سنوات ، لوجدتم اليوم مليون ونصف المليون مواطن في عداد الموتى .. .

ومع ذلك وكما قال الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش ” على هذه الأرض ما يستحق الحياة ”

غزة تستغيثكم .. تستصرخ ضمائركم .. تدعوكم للتحرك وبأقصى سرعة لنجدتها .. فهل من مغيث ..؟

غزة بحاجة اليوم للوحدة الوطنية الفلسطينية أولاً وثانياً وثالثاً كرد عاجل وسريع على العدوان الإسرائيلي الغاشم .

غزة الشهداء أبو جهاد وأبو أياد .. غزة جيفارا والشقاقي ، غزة الياسين والرنتيسي .. لم تَنكسِر ولن تركع ..

* كاتب من غزة وباحث مختص بشؤون الأسرى وموقعه الشخصي ” فلسطين خلف القضبان ”
http://www.palestinebehindbars.org