أينما وليت وجهك، تسمع كلاما كثيرا عن التلفزيون ودوره، وقليلا عن الصحافة المكتوبة، ومؤخرا عن الانترنت والإعلام الالكتروني، وتغيب الإذاعة التي شكلت على مدار عقود الوسيلة الأكثر شعبية في توصيل رسالة الإعلام إلى المتلقي.
وفي هذا التغييب باتت الإذاعة وكأنها أصبحت جزءا من التراث أو كمذياع قديم نقتنيه على سيبل “السوفنير”. والأمر لا يقتصر على الإذاعة الأردنية بحد ذاتها فهو تجاه عالمي يعكس مدى تغول ثقافة الصورة وقوة التلفزيون على الوسيلة الإعلامية السمعية.
وليس أدل على هذا التغييب أو التجاهل أكثر من النظر إلى أية خطة إعلامية تضعها الحكومة لتطوير الإعلام فلا تجد فيها سوى مقطع قصير عن الإذاعة، وأحيانا لا تجده. وفي حين تعنى الحكومة دائما بمنصب مدير التلفزيون تترك الإذاعة شهور بدون مدير كما حصل مؤخرا، وكلما عقدت ندوة لنقاش واقع الإعلام تجد التلفزيون يحتل مساحة النقاش ولا تجد الإذاعة من يتحدث عنها، وفي استطلاعات الرأي العام وخاصة التي يجريها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية يفوز التلفزيون بنصيب الأسد، فيما تدرج الإذاعة في سياق عشرات الوسائل الإعلامية الأخرى.
بيد أن الإذاعة الأردنية بكل قنواتها -العامة والقران الكريم واللغات الأجنبية، الإنكليزية والفرنسية-، التي تأسست عام 1959 ولعبت دورا مهما جدا خاصة في الصراع العربي الإسرائيلي، كما وفي القضايا المحلية، تواجه الآن تحديات تضاف إلى ما سبق ذكره عن توغل ثقافة التلفزيون.
قبل عدة سنوات منحت الحكومة محطات إذاعية عالمية حق البث على الموجات القصيرة الـ”اف.ام”، ونالت “هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، مونت كارلو، إم بي سي، ولاحقا راديو سوا”، هذا الحق لتدعم مركزها المنافس للإذاعة المحلية.
ومنذ تأسيس هيئة الإعلام المرئي والمسموع منتصف العام 2003 بموجب قانون صدر في عام 2002، منحت الهيئة تراخيص للبث الإذاعي للشركات الخاصة:
1- شركة النوارس لوسائل الإعلان (موجة إذاعية ثانية) لتغطية منطقة عمان الكبرى.
2- شركة الكون للبث الإذاعي والتلفزيوني لتغطية مناطق عمان وإربد والزرقاء.
3- شركة الدقة للبث الإذاعي والتلفزيوني لتغطية مناطق عمان والزرقاء والمفرق وإربد والسلط وجرش.
4- شركة الشبكة العربية للإعلام منطقة عمان.
5- محطة راديو “بلاي”.
6- الشركة الحديثة للإعلام ونالت رخصة بث إذاعي على موجة “اف.ام”.
7- شركة ديفيد وشريكه لتغطية منطقة عمان.
هذا إضافة إلى إذاعة “فن اف.ام”.
ورغم أن الهيئة تتخذ شعارا لها “نحو إعلام حر”، بيد أنها تركز أولا وقبل كل شيء، على الجانب الاقتصادي وجلب المزيد من الاستثمار وتحفيز القطاع الخاص على الاستثمار في قطاع الإعلام. وهذا يبدو واضحا في فرض الهيئة على الإذاعات الخاصة التي تتعاطي مع الشأن السياسي رسوم تعادل ضعف الرسوم المفروضة على الإذاعات الترفيهية.
أمام كل هذه التراخيص الممنوحة، وطوفان التلفزيون واقتناء أكثر من نصف عدد سكان الأردن لأجهزة ستلايت، حسب استطلاع مركز الدراسات لعام 2003، وقبل أن تشهد المنطقة تطورات كبرى أدت إلى زيادة الطلب على هذه الأجهزة، وأما الانتشار السريع للانترنت، هل بقي من مستمع للإذاعة المحلية، وهل بقي لها من مجال للمنافسة؟
للأسف فانه لا توجد أرقام أو استطلاعات رأي يمكن الركون إليها لقياس مدى شعبية الإذاعة الوطنية، وآخر استطلاعات أجريت لهذا السبب بقيت حصرا على العاملين في التلفزيون والإذاعة ولم تر النور ورفضت إدارة التلفزيون التصريح عن النتائج، ومع ذلك فان الشيء بالشيء يذكر، فإذا كانت كل استطلاعات الرأي تشير إلى تراجع في حجم عدد مشاهدي التلفزيون فكيف والحال مع الإذاعة.
مدير عام الإذاعة عبد الحميد المجالي يجادل في أن الإذاعة لا تزال تحظى بجمهور واسع من المستمعين ويقول: “لا زال الناس يسمعون .. أنا أستطيع أن أزعم أن هناك عشرات الآلاف من الناس يوميا يسمعون الإذاعة، كل من هم في السيارة يسمعون الإذاعة كل من هم في دكاكينهم وكل من هم في منازلهم يسمعون الإذاعة هناك من يريد أن يشاهد التلفزيون ومشاهدة التلفزيون تتطلب ظروفا معينة كالجلوس في المنزل. فكل من هو خارح المنزل يسمعون الإذاعة وهذا بدلالة أن هناك يوميا آلاف الاتصالات التي تصل الإذاعة عبر برامجها المختلفة”.
وهل هناك دراسات أو استطلاعات رأي قمتم بها؟
“الدراسات واستطلاعات الرأي كانت مستمرة، آخر دراسة كانت في الثلاث أشهر الأخيرة وتبين لنا أن نسبة الاستماع للإذاعة الأردنية تتعدى العشرين في المئة. وأعتقد أن هناك محطات تلفزيون تصل إلى الأردن لا تصل إلى هذه النسبة”.
وأية فئة هي جمهور الإذاعة الأردنية؟
يقول المجالي: “جمهور الإذاعة الأردنية هو كل الناس. لكني أعترف أن دور الإذاعات تراجع مع وجود الفضائيات، لكن هناك جمهور ما يزال يسمع الإذاعات سواء كانت الإذاعات الأردنية أو الإذاعات الأردنية. الجمهور هو كل الناس، والإذاعة تطرح قضايا ربما لا يستطيع التلفزيون في الوقت الحاضر طرحها”.
مثل ماذا؟
“الإذاعة تستطيع أن تطرح قضايا الناس وهمومهم أكثر من التلفزيون، ليس لأن التلفزيون لا يستطيع الوصول إليهم ولكن لسهولة طرح هذه القضايا، فالعمل الإذاعي أقل كلفة وأسهل من العمل التلفزيوني، يستطيع الإذاعي أن يتصل هاتفيا وأن يصل إلى أي شخص موجود كما يستطيع أي شخص أن يتصل هاتفيا بالإذاعة ويطرح قضاياه ويتحاور مع المسؤول”.
القليل من الانتقادات التي تسمع عن الإذاعة في ضوء هذا التغييب تدعي أن البرامج الإذاعية بقيت تعاني من الجمود طويلا وهذا بالنسبة للمنتقدين سبب آخر يضاف إلى أسباب تراجع عدد المستمعين، ولكن مدير الإذاعة لا يتفق وهذا الرأي، ويقول:
“الحديث عن جمود الإذاعة يخص برنامج البث المباشر. هذا البرنامج هو الوحيد الذي صمد طوال أكثر من 20 عاما لأنه برنامج جماهيري ويتعلق بقضايا المواطنين، أما البرامج الأخرى فلم يتبق منها شيء على الإطلاق. كل دورة برامجية تتغير البرامج. تخلينا عن كثير من البرامج الجامدة والمعلبة، وركزنا على الفترات المفتوحة والطويلة التي يشارك فيها أكبر قدر ممكن من الجمهور”.
ومع ذلك فهناك برامج صمدت أوقاتا طويلة مثل برنامج “مع المزارع” الذي رافق الإذاعة منذ التأسيس وان بثوب جديد مع كل دورة جديدة، وتبين مؤخرا مع موجة الصقيع التي ضربت المملكة مؤخرا، أن المزارع الأردني لم يكن يصغي لوسائل الإعلام المحلية التي حذرت من هذه الموجة، فهل يعتبر ذلك مقياس لمدى شعبية الإذاعة؟
حاتم الكسواني، مدير إذاعة “عمان إف إم”، ورئيس جمعية المذيعين الأردنيين يتفق مع رأي المجالي ويرى أن “الإذاعة لم تفقد أهميتها والاتجاه الآن نحو الإذاعات الشعبية”.
ويؤكد الكسواني بدوره، طبيعة جمهور الإذاعة الحالي: “الإذاعة الآن للمستمع المتحرك، مثل راكب السيارة، لم تعد للمستمع الثابت الذي ينتظرها وينتظر برامجها. ما زال هناك جمهور ثابت يحب الاستماع للإذاعة، حيث تترك لهم المجال حرا لرسم الفضاءات التي يجري فيها الحدث، ممكن للمستمع أن يرسم الاستديو في مخيلته”.
ويبدو ان الكسواني وجد طريقا جديدة للحفاظ على مستمعي الإذاعة، مشيرا إلى اعتماد ما يسمى بـ”معادلة الهرم الإذاعي المقلوب”، لتلبية احتياجات “كافة قطاعات الجمهور”.
ويوضح الكسواني المقصود بالهرم المقلوب: “معروف أن لكل وسيلة إعلام ثلاث وظائف بشكل هرمي، هي الإخبار ثم التثقيف في المساحة الوسطى وقاعدة الهرم كانت الترفيه، بمعنى أن حجم برامج الترفيه كانت الأقل. نحن قلبنا الهرم، نقدم مزيد من الترفيه وبعض التثقيف وأخبار سريعة ووجبات قصيرة من الأخبار. الهرم المقلوب هو وصفة يعرفها الجميع. لكن بعض الإذاعات ليس لديها هرم على الإطلاق”.
وبالطبع فانه ليس خافيا على احد أن هذا “الهرم المقلوب” دائم التعرض للنقد الحاد من قبل المتابعين لوسائل الإعلام كونه يركز على الترفيه تحديدا ويتهم بمحاولة تسطيح ثقافة المتلقي، وهو قبل كل ذلك منافسة تبدو خاسرة للفضائيات الحافلة بالمواد الترفيه والفيديو كليب.
ويبين مدير “عمان إف إم” أنه لا يوجد برامج سياسية بمعنى برامج سياسية، يوجد نشرتان إخباريتان وعرض صحافة صباحي.
“الإذاعة الأردنية لديها مكتبة موسيقية كبيرة وعدد كبير من المراسلين، ونحن نستفيد منهم. في كل نشرة هناك رسائل من المحافظات ومن خارج الأردن، لكن بروح عمان إف إم، وهي الرسائل القصيرة والسريعة، نحن لا نقدم وجبة كاملة. استراتيجيتي أن أقدم إذاعة ناقصة”.
ويرى حاتم الكسواني أن الإذاعة تستهدف “الشباب، لأن المعركة هي على الشباب. هناك فئات تستهدف الشباب وتغربهم عن مجتمعهم وتكسبهم سلوكيات جديدة وسلبية لأهداف غير خفية أبدا. وهي محطات غير وطنية، محطات تابعة لدول وتستهدف الشباب، يدعون أنهم يهدفون إلى إبعاد الشباب عن التطرف الديني والسياسي، لكن هل هذا الهدف برئ”.
“أنا أيضا لي هدف كإذاعة وطنية. هدفي أن أبقي هذا الشاب منتميا إلى وطنه وقيمه ومحافظا عليها”.
ولكن هل فعلا تقوم إذاعة “عمان اف ام” بهذا الدور الوطني، أم أنها تنافس المحطات الترفيهية الأخرى في بث كل ما هو للتسلية. هل يكفي وضع بعض الأغاني الوطنية وجملة أخبار قصيرة لإبقاء القطاع الشبابي المستهدف في دائرة الوطن ومطلعا حقا على ما يجري في ساحة بيته.
على أية حال، المستمع لإذاعة “عمان اف ام” لا بد أن يلحظ مدى سيطرة المفاهيم الإذاعية الجديدة التي أطلق عليها الكسواني “الهرم المقلوب” وكذلك مدى تأثر “عمان اف ام” بإذاعة “سوا”.
مرة أخرى، يبدو أن هذا الطرح غير كاف فهناك محطات إذاعية لا تزال تحظى بنسبة مستمعين عالية مثل الـ”بي.بي.سي” و”مونت كارلو”، والى حد كبير “ام بي سي”. رغم أنها لا تتبع “الهرم المقلوب”.
إذا كان الكسواني لا يجد مشكلة في التمويل، كما يقول، “كل ما نحتاجه ماليا نحصل عليه، خاصة أن العمل الإذاعي غير مكلف”، فأين هي المشكلة في أن تصل إذاعة “عمان اف ام” أو الإذاعة المحلية إلى مصاف هذه المحطات.
يرى الكسواني أن “كثير من الإذاعات لا تتبع العمل الصحفي، ليس لديهم فلسفة الخبطة الصحفية أو التحقيق الصحفي وروح السبق الصحفي لم تعد في العمل الإذاعي. يجب أن تعيد الإذاعات فلسفة صياغة منهجيتها. كل الإذاعات الجديدة أتت بروح المنوعات، بروح تجارية لتقدم منوعات وتستقطب الإعلانات. لا أعلم لماذا انكفأت الإذاعات، أو أن الفكر الإداري لهذه الإذاعات إنكفأ واكتفى بهذا الدور. لهذا نجد إذاعة لندن تستقطب الكثير من المستمعين المثقفين أو المهتمين بالشؤون السياسية، فيجدوا مجموعة من الحوارات السياسية الموسعة”.
إن اشد ما يستدعي السؤال الذي تطرحه هذه المفاهيم الجديدة في البث الإذاعي وهذا التوجه نحو منح تراخيص لعدد هائل من المحطات الخاصة ذات الصبغة الترفيهية أيضا، هو هل بقي هناك داع لإعلام الدولة، وأي تأثير ستتركه هذه المحطات على جيل الشباب الذي تحدث عنه الكسواني. وهل سيترك أثير البلد للشركات الخاصة والمحطات العالمية، بينما لا تجد المحطات الوطنية من يتحدث عنها؟
هذه الموضوعات صادرة عن : مركز حماية وحرية الصحفيين