21/4/2007

علي غير عادتها في هذا الوقت من العام سقطت الأمطار بغزارة , كنا في عصر الخميس الثاني عشر من إبريل ونحن في طريقنا من مدينة دكرنس إلي عزبة مرشاق والتي تبعد ثلاثة كليو مترات , تذمر سائق ” التوك توك ” بعد أن تحول الطريق الترابي إلي وحل وطين , تحدث معه محمود فودة أحد أهم النشطاء السياسيين في دكرنس والذي كان يصحبنا فواصل السائق السير دون أن يخفي تذمره , من بعيد لاحت خيام الفلاحين المعتصمين بين الحقول كطيور بيضاء تتناثر في رقعة البرسيم الخضراء واصفرار السنابل , شئ ما يربط بين خيام الفلاحين المعتصمين وخيام اللاجئين الفلسطينيين , ربما تتغير الأزمة والأمكنة والأسباب ولكن المأساة واحدة …! غير أن الفلاحين أثبتوا أنهم أكثر تشبثا بالأرض فواجهوا كل محاولات الطرد واعتصموا فوقها …!

ما إن اقتربنا حتى خرج إلينا الأطفال بأقدامهم الحافية التي تغوص في الوحل وملابسهم البالية التي تقطر ماء فالتصقت بأجسادهم , رمقتنا عيونهم بنظرات التوجس وما إن لمحوا محمود فودة بيننا حتى تهللت وجوهم , خرج إلينا الرجال والنساء من الخيام مرحبين وأفسحوا لنا مكانا في إحدى خيامهم , 500 متر فقط تفصل بين الحقول وبيوت الفلاحين كان من الممكن أن يلجأوا إليها حتى ينتهي المطر , يقول لنا محمود فودة ” إن الألاعيب الشيطانية التي استخدمها ورثة الإقطاعيين ضد الفلاحين لطردهم من أرضهم وبيوتهم علمتهم أن مغادرتهم للأرض ولو لساعات محدودة قد تتيح لهؤلاء المغتصبين أن يضعوا أيديهم فوق حاضرهم ومستقبلهم , ومنذ الاعتصام في اليوم الخامس من مارس الماضي والفلاحون منقطعون عن أي أعمال خارج حقولهم حتى أن الأطفال لا يذهبون إلي المدارس , والنساء لا تذهبن إلي الأسواق القريبة لبيع الخضراوات كالعادة , ويبدو الوضع مأساويا حين نعلم أن معظم الرجال يعملون باليومية بعد أن توزعت الأرض بينهم لأكثر من وريث وأصبح نتاج محصولها لا يسد الرمق ”

مساحة الأرض المتنازع عليها في عزبة مرشاق تبلغ 100 فدان قام بتوزيعها الإصلاح الزراعي في عام 1964 علي 50 أسرة من الفلاحين بواقع فدانين لكل أسرة , قام الفلاحون بسداد أقساط تمليك الأرض وتم دفع القسط الأخير من الأربعين قسطا في عام 2004 , وبناء عليه حصل الفلاحون علي بطاقات الحيازة الزراعية كملاك من الجمعيات الزراعية للإصلاح الزراعي , خلال الأربعين عاما الماضية تزوج الفلاحون وأنجبوا وتزوج أبناؤهم وأنجبوا حتى وصل الحال الآن أن كل فدانين والتي كانت مخصصة لأسرة واحدة أصبح يمتلكها أكثر من عشرة أسر أي أن عدد الأسر المستفيدين من المائة فدان وصل الآن إلي أكثر من 500 أسرة …!

تقول نفيسة بنت الحاج زكريا , والدي رحمه الله أنجب عشرة أبناء منهم ثمانية بنات , تزوجنا جميعا وأنجبنا حتى وصل عدد أسرتنا الآن إلي أكثر من 40 فردا وكلنا نأكل من الفدانين فكيف يطردونا منها …؟!
أما أم حامد وهي امرأة في الخمسين من عمرها فتقول ” زوجي مريض وأعمل في الأرض مع أبنائي … وهي كل ما نملك فإلي أين نذهب ”

الحاج عمر تحكي ملامح وجهه عن المعاناة يقول لنا في أسي ” شاركت في حرب 1967 وحرب أكتوبر 1973 , أعمل الآن باليومية مثل كل الآخرين هنا , فالأرض بعد أن زاد عدد الأسر بعد مرور أربعين عاما أصبح ما يجئ منها لا يكفي , والغريب أننا لا نجد عملا دائما أبدا فأغلبنا يعمل ثلاثة أيام في الأسبوع , والأجر اليومي لا يزيد عن 15 جنيها , ومنذ أن بدأنا الاعتصام في الأرض يوم 5 مارس أصبحنا لا نذهب إلي العمل , فكلنا هنا موجودون علي الأرض خوفا من أن يهجم علينا ورثة زينب الإتربي وينتزعون الأرض منا , أصبح الكثير منا لا يجد قوت يومه بعد أن تعطلنا عن العمل , حياتنا توقفت تماما , غير أننا برغم الجوع الذي نعيش فيه سنصمد حتى النهاية ” ..

إلتف حولنا الفلاحون ” الرجال والنساء ” كانت دموع النساء تحكي عن كل شيء ” عن ذلك القهر الطاغي الذي يزحف عليهم بعد أن تحالف ضدهم الإقطاعيون المتوحشون والسلطات المتواطئة , كان سعال الأطفال يمزق قلوبنا في كل لحظة بعد أن أصيبوا بالبرد جراء المطر المفاجئ , ملطخون بالطين كانوا كزهور برية سحقتها الأقدام بلا رحمة ,من بعيد كانت سرايا البدراوي باشا واقفة بين الحقول كشواهد القبور , اليوم يحاول ورثة الإقطاعيين أن يعيدوا إليها الحياة … أن نسمع من جديد صيحات صرخات الفلاحين وهم يجلدون بسياطهم , نكاد نجزم أن القصة ليست في أن يستعيدوا من الفلاحين المائة فدان , لأن لدي الإقطاعيين من الأموال ما يغنيهم … ولكنه الانتقام … الانتقام من عصر بأكمله من خلال هؤلاء الفلاحين البسطاء … الحقد الأسود في صدوهم كأفعوان غاضب لن يرضي بغير إذلال الفلاحين بديلا …؟!

في المقابل فإن الفلاحين الذي التفوا حولنا بصدورهم العارية والذين لا يملكون غير سواعدهم وتلك المساحات الصغيرة من الأرض يدركون ولو بشكل فطري أبعاد المعركة …

قال أحدهم لنا ” إذا لم يكن اعتصامنا كافيا فسنضرب عن الطعام …” قالوا جميعا ” أيوه سنضرب عن الطعام ” …!
قالت سيدة طاعنة في السن ” هنموت هنا ومش هانسيب الأرض … لأن الأرض عرضنا …؟!
اندهشنا أن يخرج كل هذا الصمود من فلاحين بسطاء كنا نتهمهم بالتخاذل والرضوخ للأمر الواقع …!

يقول المحامي ضياء عبد الرحمن وهو أحد أعضاء هيئة الدفاع عن الفلاحين في عزبة مرشاق ” هذا الصمود نابع من الحق لأن الحق معهم وذلك لأن الأحكام التي صدرت ضد الفلاحين بنيت علي ادعاء بأن وريثة عبد المجيد البدراوي وهي زينب محمود الأتربي كانت مطلقة منه وقت فرض الحراسة ” من ثم لا تعد من ضمن أفراد أسرته ويكون فرض الحراسة عليها باطل لأن لها ذمة مالية منفصلة , والحقيقة فإن هذا الادعاء كاذب لأن عبد المجيد باشا البدراوي توفي عام 1947 وثابت من إعلان الوراثة أن زينب الإتربي من ضمن ورثته وكذلك ثابت من شهر حق الإرث المسجل عام 1959 أن زينب الإتربي في جدول الميراث زوجة وترث 146 فدانا , وبذلك يكون الزعم بأنها مطلقة يشكل جريمة تزوير مع علم الورثة بذلك وقد أدي هذا التزوير إلي صدور قرار من وزير المالية برفع الحراسة عن أملاكها وسايرته في ذلك المحكمة خاصة وأن محامي هيئة الإصلاح الزراعي لم يقدم القرار 37 الصادر في عام 1982 والذي يؤكد ملكية الفلاحين للأرض ويلغي أيضا القرار السابق رقم 26 لسنة 1975 والذي يقضي بسحب التمليك من الفلاحين وهو الأمر الذي يصل إلي حد التواطؤ , الغريب أن ورثة زينب الإتربي لم يكتفوا بذلك بل حصلوا علي حكم ضد وزير المالية ورئيس هيئة الإصلاح الزراعي من المحكمة الإدارية العليا بتعويض قدرة 114 ألف جنيها , وجاء بحيثيات الحكم أنه ثبت للمحكمة أن زينب الإتربي كانت مطلقة ومن ثم يكون فرض الحراسة علي أرضها باطل ويستحق الورثة التعويض , وبذلك يكون الورثة قد أدخلوا الغش علي المحكمة باستخدام محرر مزور , وقد تقدمنا بشكوى إلي نيابة دكرنس التي تقوم الآن بالتحقيق في تلك الواقعة , لذلك فنحن نؤكد أن الفلاحين في عزبة مرشاق كانوا ضحية تواطؤ هيئة الإصلاح الزراعي مع ورثة زينب الإتربي ,وقد قامت هيئة الدفاع عن الفلاحين بتقديم التماسات بإعادة النظر في الأحكام الصادرة ضد الفلاحين علي أساس أنها بنيت علي وقائع مزورة وهي واقعة الطلاق والتي لم يكتشفها الفلاحون إلا مؤخرا ومن حقهم هذا الإجراء قانونا أمام محكمة القيم العليا التي ستفصل في تلك الالتماسات يوم الأحد 21 مايو القادم , وقد تقدمنا ببلاغ أيضا إلي نيابة دكرنس ضد قلم محضري دكرنس وذلك لأنهم قاموا بتنفيذ أحكام ضد متوفين وأحكام مجهلة الحدود , كما قاموا بتنفيذ الأحكام علي كل ورثة الفلاحين في حين أن الأحكام الصادرة كانت ضد فرد واحد من كل مجموعة وهو ما يخالف القانون ” .

من جانبنا … فإن أولاد الأرض تطالب كل منظمات المجتمع المدني بالدعم الكامل للفلاحين المعتصمين بعزبة مرشاق , سواء كان الدعم معنويا أو ماديا … خاصة وأن الفلاحين أصبحوا عاجزين ” ماديا ” عن استخراج المستندات الرسمية اللازمة لقضيتهم العادلة …!