18/3/2008

لم يكن من المصادفات أن تصل أزمة الأسمدة ذروتها هذا العام فكل شئ مخطط له منذ أكثر من عشرة أعوام – فمنذ أكتوبر عام 1997 ومع تنفيذ القانون رقم 96لسنة 92 والخاص بالعلاقة الايجارية بين المالك والمستأجر في الأرض الزراعية والذي بموجبه تم تشريد ما يقرب من 900 ألف مستأجر تم تدشين الخطوة الأولي علي طريق ما يسمي بتحرير الزراعة والتي تهدف إلي إلغاء كل صور الدعم الحكومي للفلاح المصري دون النظر لما يخلفه من أثار اجتماعية واقتصادية تدفع بالمزارعين والمواطنين تحت خط الفقر , وقد بدأت الخطوة الثانية في هذا المخطط بتهميش دور أكثر من 5 ألاف جمعية تعاونية زراعية والتي كانت تقوم بتوفير التقاوي والأسمدة والمبيدات ومستلزمات الإنتاج الأخري للفلاح بأسعار مناسبة وكذلك تسويق المحاصيل , حتي أن معظم الجمعيات الزراعية في القري أصبحت الأن جدرانا خاوية ينعق فيها اليوم والغربان ..!

فالطرق علي الحديد وهو ساخن ودس السم في العسل أسلوبان استخدمتهما الحكومة في أزمة الأسمدة الأخيرة والتي انتهت بإعلان وزير الزراعة رفع أسعار الأسمدة بنسبة 100% كمرحلة أولي من مراحل رفع الدعم عن الأسمدة والتي ستنتهي بعد ثلاث سنوات و قبيل هذا الإعلان قرر وزير الزراعة استلام محصول القمح هذا العام بحد أدني 300 جنيها للأدرب ليمهد الطريق أمام قرار زيادة أسعار الأسمدة ويخمد أي معارضة للفلاحين عند صدوره , حدث ذلك في الوقت الذي عاني فيه المزارعون الأمرين في توريد القمح العام الماضي وبأسعار متدنية للغاية ” 165 جنيها للأردب ” حتي أن الكثير منهم استخدم القمح كعلف للمواشي , لكن وزير الزراعة لم يجد غضاضة في رفع سعر الأردب إلي 300 جنيها تمهيدا لرفع الدعم عن الأسمدة ورغيف الخبز أيضا ..!

ويبدو المخطط الحكومي جليا في أزمة الأسمدة والذي بدأت فصوله منذ 10 سنوات بقرارات وزارية متعاقبة أدت إلي تفاقم الأزمة وخاصة تلك القرارات الخاصة بتوزيع الأسمدة وأيضا القرارات التي فرضت رسوما جديدة عليها وعلي سبيل المثال فإن القرار الوزاري رقم 2723 لسنة 2003 فرض رسوما علي شراء الأسمدة لمصلحة صندوق المعاشات والإعانات بنقابة المهن الزراعية ” بالرغم من أن الفلاحين ليسوا أعضاء بتلك النقابة ” ولحقه قرار رئيس الوزراء الأسبق رقم 470 في مايو 2004 والذي نص علي زيادة سعر الغاز من 14 قرشا إلي 18 قرشا لكل متر مكعب من الغاز ولأن الغاز أحد المكونات الرئيسية في صناعة الأسمدة فقد ارتفعت أسعارها بنسبة 10% لليوريا العادبة و 8% لليوريا المخصوص و8% لنترات النشادر و5% لسلفات النشادر وبشكل إجمالي فقد تضاعف سعر اليوريا من 650 إلي 1400 جنيها وسعر طن النترات من 620 إلي 1100 جنيها ” وفي الإجمالي فقد وصل طن الأسمدة في الأزمة الأخيرة إلي 1500 جنيها علي حسب ما أعلنه وزير الزراعة ” والذي نسي أو تناسي أن هناك عواملا أخري ساهمت في ارتفاع أسعار الأسمدة منها فرض ضريبة مبيعات علي الأسمدة المحلية بنسبة 5% ورسوم جمركية علي الواردات من أسمدة النترات واليوريا بلغت 20% وعلي سلفات النشادر بنحو 10% وعلي سلفات البوتاسيوم 5% , أما المضحك في تلك الأزمة هي تضارب البيانات والمعلومات فقد أعلن وزير الزراعة منذ عدة أشهر أن إنتاج مصر من الأسمدة 15 مليون طن وأن استهلاكنا 8 مليون طن ..!

ثم عاد قبيل إعلانه قرار رفع أسعار الأسمدة وقال أن إنتاجنا 8 مليون طن واستهلاكنا 3و9 مليون طن وأن الدولة تتحمل دعما للأسمدة يصل إلي 600 مليون جنيه غير أننا نؤكد لوزير الزراعة أن إجمالي إنتاج شركات الأسمدة المصرية يبلغ 2و8 مليون طن في حين أن احتياجات الزراعة الفعلية كما قدرتها وزارة الزراعة في عهد ” الوزير أحمد الليثي ” تصل إلي 4و10 مليون طن سنويا بالإضافة إلي نسبة 10% احتياطي لمواجهة الأزمات , أي أن العجز السنوي في سوق الأسمدة يصل إلي 2,2 طن سنويا وهو الأمر الذي كان يجب أن يدفع الحكومة إلي عدم تصدير الأسمدة إلا بعد تغطية السوق المحلي – ولكنها – سمحت لشركات الأسمدة بتصدير 10% من إنتاجها والتي لم تلتزم بدورها بما هو مخطط لها وقامت بتصدير 24% من إنتاجها سعيا وراء الربح الكبير ” حيث كانت تبيع الأسمدة في السوق المحلي بسعر 480 جنيها للطن وذلك قبل قرار الوزير الذي رفع سعر الطن إلي 1500 جنيها في حين أن السعر العالمي يزيد عن 400 دولار أو ما يوازي 2400 جنيها مصريا مما أدي إلي نقص الكميات المتاحة للاستهلاك المحلي بنسبة لا تقل عن 30% وقد أدي ذلك النقص إلي الارتفاع الكبير في الأسعار ..!

واستمرارا للمخطط الحكومي الذي يهدف إلي اختلاق أزمة في الأسمدة تستطيع من خلالها رفع الدعم ” وهو ما حدث ” فقد اتسمت سياسة وزراء الزراعة في هذا المجال بالتخبط والعشوائية , فقد صدر قرار وزير الزراعة في عام 2001 بتوزيع الأسمدة بنسبة 20% للجمعيات الزراعية و 20% لبنك التنمية والائتمان الزراعي و60% للقطاع الخاص ولم تتعد سوي أشهر قليلة حتي أصدرت وزارة الزراعة قرارا ثانيا يعيد تنظيم وتوزيع حصص الأسمدة من جديد حصل بمقتضاه بنك التنمية علي نسبة 50% والقطاع الخاص علي 30% والجمعيات الزراعية علي 20% ثم صدر قرار ثالث بإعادة تحديد نسب التوزيع علي أن يحصل القطاع الخاص علي 35% وبنك التنمية والائتمان الزراعي علي 35% والجمعيات الزراعية علي 30% ولم يمهل وزير الزراعة هذا القرار الوقت الكافي ليحقق الاستقرار في السوق فقام بإصدار القرار الرابع في يونيو عام 2004 والذي نص علي احتكار بنك التنمية لإنتاج شركات الأسمدة ” وهو ما قام به أيضا وزير الزراعة الحالي ” رغم أن هذا القرار يخالف قرار رئيس الوزراء رقم 1669 لعام 2003 وكذلك قرار نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة رقم 3356 بشأن توزيع الأسمدة المحلية ثم أصدر وزير الزراعة القرار رقم 3225 في أغسطس عام 2004 بإن تكون نسب توزيع الأسمدة 35% لبنك الائتمان و35% للقطاع الخاص و 30% للجمعيات الزراعية واختتم وزير الزراعة الحالي تلك القرارات بأن يكون توزيع الأسمدة حكرا علي بنك التنمية مما أنهي دور الجمعيات التعاونية الزراعية تماما , هذه القرارات المتتالية الخاصة بتوزيع الأسمدة أدت إلي التخبط وبالتالي إلي تفاقم الأزمة فعلي سبيل المثال فإن بنك التنمية الزراعي يشترط أن يمتلك المزارع حيازة زراعية في حين أن أكثر من 60% من الأراضي الزراعية في مصر غير محيزة وهو الأمر الذي أدي إلي عدم وصول الأسمدة لمعظم المزارعين خاصة بعد تطبيق قانون المالك والمستأجر في الأرض الزراعية والذي بموجبة تم سحب الحيازات من المستأجرين أي أن البنك يقوم بتوزيع الأسمدة علي الملاك والذين يقومون بدورهم ببيعها في السوق السوداء مما أدي إلي ارتفاع كبير في أسعار الأسمدة , وكان من المفترض أن يقوم البنك بصرف الأسمدة للمزارعين الذين لا يملكون حيازة زراعية عن طريق إجراء معاينات فعلية بمعرفة مديريات الزراعة والجمعيات ويتم صرف المقررات الخاصة بهم طبقا للمعاينة , وكان علي البنك أن يقوم بصرف الأسمدة للمزارعين بالأجل لغير القادرين علي الشراء نقدا حتي نهاية الموسم علي ألا يكون العميل مدينا للبنك بمديونيات تستحق السداد , وبالرغم من وجود تلك التعليمات في بنوك المحافظات إلا أنها لم تنفذ حتي الأن , وكان من الطبيعي أن يشتري المزارعون الأسمدة من السوق السوداء خاصة وأن بنك الائتمان لا يقوم بصرف سوي حصة ضئيلة من الاحتياج الفعلي للفلاح وفي هذا المناخ الذي يتسم بالتخبط والعشوائية وتضارب القرارات كانت الجمعيات الزراعية الضحية الأولي لهذا الارتجال فقرا بجعل حصة التعاونيات 8% وقرار يخصها 25% وقرار يخصها ب30% وقرار لم يخصها شئ , كل هذه القرارات صدرت ما بين عام 1997 وحتي عام2007 مما جعل من توريد الأسمدة للمزارعين مشروعا إنتاجيا يهدف إلي الربح مما أخل بالمبدأ الأساسي للفقه التعاوني الذي يقوم علي كسر حلقات الوسطاء بين المنتج والمستهلك , فالفلاح صاحب المصلحة لا يحصل علي السماد لأنه لم يصل إلي الجمعية الزراعية الفرعية بالقرية وادي تفريغ الجمعيات الزراعية من مضمونها إلي تفاقم أزمة السماد بشكل خاص ومستلزمات الإنتاج الزراعي بوجه عام وفي شهر مارس عام 2008 كشفت الحكومة عن وجهها القبيح .. وأعلن وزير الزراعة رفع سعر الأسمدة 100% كمرحلة أولي وستتوالي المراحل حتي يتم رفع الدعم نهائيا عن الأسمدة خلال ثلاثة أعوام ليتساوي سعر الأسمدة المحلية بالسعر العالمي .. وقد سبق هذا القرار بإعلانه بإنه سيتم شراء القمح من الفلاحين بسعر 300 جنيها للأردب .. فإذا كان وزير الزراعة يقصد أنه سيتم تحرير سعر مستلزمات الإنتاج الزراعي في مقابل شراء المحاصيل من الفلاحين بالسعر العالمي .. بما يعني زيادة أسعار المحاصيل الزراعية بما يعود بالضرر علي المستهلك في مصر فهل يملك وزير الزراعة أن يرفع أجور كل العاملين بما يتوازي مع تلك الزيادة ..؟!

من المؤكد أن تلك السياسات لن تؤدي إلا للمزيد من اشتعال أسعار المواد الغذائية ليسقط العديد من الشرائح الاجتماعية تحت خط الفقر بعد أن فقدت ما كان يسترها ويحفظ كرامتها من ذل السؤال ..!