3/11/2008

يعتبر غياب الإرادة السياسية اللازمة لكفالة احترام حقوق الإنسان، هو المفتاح الرئيسي لفهم المعضلة المزمنة لعدم توافر الحد الأدنى لاحترام حقوق الإنسان ومقومات نظام ديمقراطي في العالم العربي.

يمكن تصنيف الدول العربية فيما يتعلق بمشكلة الإرادة السياسية إلى خمس مجموعات:
أولا: دول لا تملك إرادتها السياسية، نتيجة لعدم تمتعها بالاستقلال بشكل كلي أو جزئي، وبالتالي فهى لا تملك الإرادة في تحديد مسار البلاد بشكل عام، بما في ذلك احترام حقوق الإنسان. العراق مثال نموذجي، حيث تملك القرار القوى متعددة الجنسيات، وينازعها فيه الائتلاف الطائفي الحاكم وجماعات إرهابية متعددة. وهو أمر له انعكاسات مريرة ودموية على وضعية حقوق الإنسان.

فلسطين مثال آخر، حيث تخضع للاحتلال الإسرائيلي منذ عدة عقود، تعرض خلالها الشعب الفلسطيني لكافة أنماط انتهاك حقوق الإنسان، وعلى رأسها حرمانه من حقه في تقرير مصيره بنفسه. ولكن معاناة الشعب الفلسطيني تفاقمت خلال العامين الأخيرين، مع تفاقم النزاع المسلح بين حركتي حماس وفتح، وبلغت ذروتها بالانقلاب المسلح الذي استولت فيه حماس على غزة، الذي تواكب مع تفاقم آثار الحصار اللا إنساني على القطاع.

ورغم أن لبنان يمتلك كثيرا من المقومات التي تؤهله ليكون الدولة الديمقراطية الأولى في العالم العربي، إلا أن لبنان يندرج تحت نفس التصنيف، حيث تملك دول أخرى (سوريا وإيران وإسرائيل) مفاتيح رئيسية للقرار في الشئون الداخلية اللبنانية.

ثانيا: المجموعة الثانية، هى دول لا تملك قدرا كافيا من الإرادة السياسية للخروج من مرحلة التذبذب، وللقيام بقطيعة نهائية مع تراث تاريخي من الانتهاكات الوحشية لحقوق الإنسان. ربما كان المغرب هو النموذج الوحيد لذلك، حيث يحتل مكانة أفضل نسبيا في مجال حقوق الإنسان، مقارنة مع غيره من البلدان العربية. فعلى مدى السنوات الماضية قطع المغرب خطوات كبيرة في كشف حقيقة انتهاكات الماضي والاعتراف بها، وإنصاف ضحاياها، وتطوير عدد التشريعات الحيوية، كما اتسع هامش الحرية النسبية الذي تتيحه السلطات لمنظمات حقوق الإنسان والصحافة ومؤسسات المجتمع المدني. ولكن المغرب يشهد في المقابل عودة بعض ممارسات انتهاك حقوق الإنسان، كالتعذيب والاحتجاز التعسفي، فضلا عن توظيف القضاء غير المستقل في إرهاب الصحافة المستقلة من خلال إصدار أحكام جائرة. الأمر الذي يثير قلقا مشروعا حول احتمال ترسخ هذه الممارسات وتحولها إلى أنماط ثابتة مرة أخرى.

كان من الممكن إدراج السعودية بعد تولي الملك عبد الله بن عبد العزيز الحكم في هذه المجموعة، حيث راهن بعض من المحليين السياسيين وبعض الحقوقيين، على أنه سيجرى تقدم نوعي في احترام حقوق الإنسان في السعودية، بمجرد توليه الحكم، نظرا للطبيعة الإصلاحية التي كان يتسم بها خطابه عندما كان وليا للعهد، وإقدامه عند توليه الحكم عام 2005 على إصدار عفو ملكي عن ثلاثة من رموز حركة الإصلاح في السعودية، كان قد جرى اعتقالهم في عهد الملك الراحل. ولكن يبدو الآن أفق الإصلاح مسدودا، فقد عادت أجهزة الأمن واعتقلت اثنين من الرموز الثلاثة في نوفمبر 2007، فضلا عن ملاحقة واعتقال عدد آخر من دعاة الإصلاح، وحجب الكثير من المواقع الإلكترونية واعتقال المدونيين، وحظر بث برامج على الهواء من القنوات السعودية، والاستمرار في رفض تأسيس منظمات مستقلة لحقوق الإنسان.

كذلك كان من الممكن إدراج الأردن ضمن هذا التصنيف، إلا أن الأردن قد بدأ بالفعل طريق العودة عن الإصلاح –الذي كان قد قطع فيه خطوات محدودة للغاية- وخاصة مع العودة لممارسة التعذيب بشكل روتيني، وتبنيه مؤخرا لواحد من أسوأ قوانين الجمعيات الأهلية في العالم العربي، فضلا عن عودته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لنمط التلاعب المفضوح بالانتخابات، التي يعتبرها بعض المراقبين الأسوأ في تاريخ الأردن.

البحرين تسير هى الأخرى على المسار الانتكاسي الأردني، ولكنها بدأت التراجع مبكرا عنه، وبخطوات أسرع كثيرا، حيث تسجل عاما بعد عام تراجعا أكبر مما كان يعتبر مشروعا إصلاحيا للملك الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، وتعود للاقتراب تدريجيا من نمط حكم والده الراحل، والذي كان قد جعل البحرين حينذاك الدولة الأدنى احتراما لحقوق الإنسان في منطقة الخليج لعدة عقود.

يشكل عدم اعتراف المشروع الإصلاحي للشيخ حمد بن عيسى بالتعددية الدينية والطائفية للمجتمع في البحرين -التي تشكل الطائفية الشيعية أغلبيته السكانية- المدخل الأوسع لنكوص المشروع الإصلاحي، والعودة للاعتماد على أجهزة الأمن، لتكريس وحماية احتكار الأقلية السنية للسلطة السياسية والثروات الاقتصادية للبلاد. وقد شهد عامي 2007-2008 توسعا كبيرا في الرقابة على الإعلام الإلكتروني، وإغلاق عدد من مواقعه، ومحاكمة عدد كبير من الصحفيين، والقمع العنيف للتظاهرات السلمية، التي أدى إحداها لمقتل أحد المدافعين عن حقوق الإنسان، والقبض على النشطاء السياسيين والحقوقيين، دون مسوغ قانوني، وتعرض بعضهم للتعذيب وسوء المعاملة، ورفض تسجيل عدد من منظمات حقوق الإنسان، أو إعادة إشهار ما جرى إغلاقه منها. ولذا ربما تصنف الأردن والبحرين في مجموعة ثالثة لدول بدأت التراجع عن الشوط المحدود الذي قطعته في طريق الإصلاح.

رابعا: دول ترفض طريق الإصلاح، وتشن حربا على من يسعون للإصلاح. أي أن إرادتها السياسية وقرارها السياسي في الاتجاه المضاد للإصلاح. على رأس هذه الدول سوريا وتونس. غير أن مصر تمثل نموذجا فريدا، حيث لا تقصر الحكومة المصرية حربها على الإصلاح والمصلحين بالنطاق الوطني، بل تمتد حربها لتشمل الساحة الدولية والإقليمية، فهى تشن هجوما متعدد المستويات والأدوات ضد الأطراف النشيطة في حركة المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، التي بدأت تنشط بشكل خاص خلال عامي 2004- 2005، ثم تعرضت لموجات متعاقبة من “الجزر والمد” من جراء الهجوم المضاد المنظم واسع النطاق، الذي قاده النظام الحاكم منذ أواخر عام 2005، واستخدم فيه أدوات الدستور والتشريع والإعلام وأجهزة الأمن والمحاكم العسكرية وغير الاستثنائية، لمحاصرة الحراك السياسي وقمع أنشطة الفاعلين فيه، وخاصة الصحافة المستقلة، والإعلام الإلكتروني والمدونون، والحركة العمالية، ومنظمات حقوق الإنسان، ونادي القضاة ورموز القضاة المستقلين.

وقد امتدت موجات هذا الهجوم المضاد لتطال الساحة الإقليمية والدولية، حيث استخدمت الحكومة المصرية جامعة الدول العربية في تقديم مظلة لتشريعات عربية يجري التحضير لها ضد حرية الإعلام، وخاصة الفضائي والإلكتروني. ودوليا بمحاولة توظيف الرئاسة المشاركة. للاتحاد من أجل المتوسط من أجل إزاحة منظمات المجتمع المدني من إطار الشراكة الأورومتوسطية. وفي مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تقود الحكومة المصرية –من خلال رئاستها للمجموعة الأفريقية، ودورها القيادي داخل المجموعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي- هجوما مضادا آخر لإضعاف آليات حماية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وتهميش مشاركة المنظمات غير الحكومية في أعماله. وهو الأمر الذي يتسق مع قيامها في الداخل بإغلاق منظمتين مصريتين لحقوق الإنسان لأول مرة منذ نشأت منظمات لحقوق الإنسان في مصر منذ ربع قرن، ورفضها التصريح لأية منظمة دولية لحقوق الإنسان، بفتح مكاتب لها في مصر، بما في ذلك المكتب الإقليمي لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في شمال أفريقيا.

المجموعة الخامسة والأخيرة: هى لحكومات لا تكتفي برفض الإصلاح وقمع المصلحين، بل تشن حربا أهلية مسلحة على شعوبها في صعدة باليمن، والسودان في دارفور، وقبل ذلك في جنوب السودان، وربما غدا في كردفان أو النوبة. وبالتوازي مع هذه الحروب المسلحة، تشن هاتين الحكومتين حربا أخرى لقمع أو إرهاب كل صوت وطني مستقل ينتقد السلوك الوحشي لهاتين الحكومتين، أو يسعى للكشف عن بشاعة ما يجري، أو يتعاون مع الهيئات الدولية المعنية.

عدم وجود إرادة سياسية لجامعة الدول العربية هو أيضا وراء عجزها عن القيام بدور إيجابي في إعمال حقوق الإنسان، سواء في زمن السلم أو الحرب، وفشلها في الاضطلاع بدور في النزاعات المسلحة العربية/ العربية، سواء في السودان (دارفور وجنوب السودان)، أو نزاع حماس/ فتح أو اليمن. الميثاق العربي لحقوق الإنسان هو ذاته تعبير عن غياب هذه الإرادة. فرغم أنه أحدث المواثيق الإقليمية لحقوق الإنسان في العالم –بعد الأفريقي بنحو ربع قرن- إلا أنه جاء متخلفا عنها جميعا، وقاومت الحكومات العربية كل محاولة للارتقاء بهذا الميثاق إلى مستوى الالتزامات الأعلى بكثير التي قبلتها هذه الحكومات ذاتها، من خلال انضمامها للعهود والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي.

لا شك أن عدم توافر القدر الكافي من الإرادة السياسية للنخب غير الحاكمة، هو عائق إضافي أيضا في الكفاح من أجل احترام حقوق الإنسان في العالم العربي. ولكن السنوات الأربع الأخيرة تشهد تطورا متناميا في هذا المجال، وخاصة في مصر وسوريا والبحرين والسودان واليمن. وهو الأمر الذي يفسر تفاقم عدوانية بعض النظم العربية على الحريات العامة وحقوق الإنسان، وتزايد عدد الضحايا. غير أن من المهم في هذا السياق، ملاحظة تطور الخريطة السياسية للضحايا وأهداف القمع في العالم العربي، حيث تتراجع تدريجيا نسبة الإسلاميين فيها لصالح ارتفاع لنسبة الليبراليين واليساريين والعلمانيين من مثقفين ومنظمات مجتمع مدني وعمال ومدونيين وصحفيين ومسيحيين وشيعة. لذا يمكن القول أن الإسلاميين لم يعدوا البديل الوحيد للأنظمة الحالية، إلا في خطاب بعض الحكومات العربية الموجه للمجتمع الدولي، لكي يكف عن المناداة بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في العالم العربي.

* كلمة مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، أمام لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان الأوروبي في 3 نوفمبر 2008.

بهي الدين حسن
مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسا