21/2/2008

عرفت أطوار القضية عدد 14502 التي أصدرت فيها الدائرة الجنائية الرابعة برئاسة محرز الهمامي أحكامها يوم 30 ديسمبر 2007، أحداثا خطيرة تمثلت في الاعتداء الذي ارتكبه أعوان البوليس ضد المتهمين بإيعاز من المحكمة وهي منتصبة، مما جعل المحامين ينسحبون من الجلسة يوم 15/12/2007 احتجاجا على ذلك الاعتداء. ثم تلا ذلك انسحاب لسان الدفاع بجلسة يوم 29/12/2007 بعد أن رفضت المحكمة التي أنهت الاستنطاق الذي تواصل بصور مسترسلة من الساعة العاشرة صباحا إلى ما بعد السادسة مساء الاستجابة لطلب لسان الدفاع تأخير القضيّة للمرافعة في ظروف عادية إذ أصرّت على أن يجري الترافع مساء ذات اليوم. وهو ما أصرّت عليه المحكمة التي بعد استماعها لمرافعات القائمين بالحق الشخصي وطلبات النيابة العمومية ومرافعة من أصرّت على تسخيرهما للدفاع عن متهمَين اثنين دون الالتفات إلى معارضة المتهمين المذكورة، حجزت القضية للمفاوضة. وفي صباح يوم 30 ديسمبر 2007 نطقت بحكمها الذي كان غاية في الشدّة إذ قضى بإعدام اثنين من المتهمين وسلّط أحكاما تراوحت بين المؤبد وعشرين سنة على 17 منهم.

وبالإطلاع على نسخة الحكم التي جاءت في مائة صفحة يقف المرء على ما شابه من ضعف في التعليل وخرق للقانون وانخراط في الجدل السياسي أسقط عن المحكمة الحياد المطلوب والذي يُعدّ من أسس المحاكمة العادلة.

أوجبت أحكام الفصل 168 من مجلة الإجراءات الجزائية تعليل الأحكام إذ جاء بالفقرة 4 منه: “يجب أن يذكر بكل حكم المستندات الواقعية والقانونية ولو في صورة الحكم بالبراءة”

ولا يخفى ما للتعليل من أهمية لما يخوله من مراقبة وحسن تطبيق القانون من خلال الاطلاع على الحجج المستمدة من الواقع والقانون والتي كانت سندا لصدور الحكم.

وبالاطلاع على الحكم عدد 14502/4 الصادر عن الدائرة الجنائية بمحكمة تونس الابتدائية بتاريخ 29/12/2007 الذي جاء في مائة صفحة كاملة يتضح أنّه أخطأ الهدف المطلوب وتاه في البحث عن مسوّغات وليس على أدلّة بل تصدّي للجواب على دفوعات افتراضية لم يثرها الدفاع الذي اسحب بجلسة الحكم بعد أن رفضت المحكمة تأخير القضيّة ليتمكن من المرافعة في ظروف مقبولة، إذ كان عليه بجلسة 29/12 متابعة أعمال الاستنطاق لمدة قاربت 12 ساعة مسترسلة بل والأخطر من ذلك خرجت المحكمة بصورة واضحة عن حيادها لتعبّر عن مواقف سياسية وكأنّ من دور المحكمة التصدّي للردّ على المنظمات الحقوقية في خصوص الانتهاكات التي طالت مبادئ المحاكمة العادلة، هذا إضافة إلى ما اتسم به سلوك المحكمة المذكورة من عدم تقيد بمبدأ النزاهة.

لذلك كان الحكم المطعون فيه على غاية من الوهن وضعف التعليل خارقا للقانون مثلما سيأتي بيانه:

1- عدم حياد المحكمة:

يعتبر حياد القاضي شرطا من شروط المحاكمة العادلة، إذ تشكّل “إحدى الضمانات الضرورية لدفاع المتهم عن نفسه” طبق ما اقتضته أحكام الفصل 12 من دستور الجمهورية التونسية وكذلك المادة 10 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان “لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة نزيهة نظرا عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه”

إلاّ أنّ محكمة البداية لم تعمل بهذا المبدأ مما دفع المحامين والمتهمين إلى الانسحاب مرة أولى بجلسة 15/12/2007 احتجاجا على الاعتداء على منوبيهم بالضرب من طرف أعوان البوليس أمام أنظار المحكمة وهي منتصبة ومرة ثانية بجلسة الاستنطاق يوم 29/12 بعد رفض المحكمة تأخير القضية لتمكينهم من الترافع في ظروف عادية.

وبالرجوع إلى نسخة الحكم وما جاء بها من حيثيات يمكن الوقوف على مظاهر عديدة من عدم الحياد نأتي عليها تباعا.

  • محاباة المحكمة للقائمين بالحق الشخصي: من المعلوم أنّ الهيئة الاجتماعية تكون ممثلة بهيئة المحكمة بواسطة النيابة العمومية التي هي وحدها لها الصفة للمرافعة باسم المجتمع، أمّا القائم بالحق الشخصي فإنّه يمثل من يزعم أنّه لحقته مضرة من أفراد أو جماعات وبالتالي لا يحق له الحديث باسم الهيئة الاجتماعية عند الترافع وحتى إن تجاوز ما هو مخول له طبق القانون فإنّه على المحكمة أن تعيد الأمر إلى نصابه وتذكّره بحدود نيابته وبانعدام صفته للترافع في حق المجتمع إلاّ أنّ المحكمة سايرت ممثلي القائمين بالحق الشخصي وأقرّت لهم صفة لا تعود إليهم إذ جاء بالصفحة 30 من لائحة الحكم: “ورافع الأستاذ الجريبي عن ورثة العربي بكور… وأكّد على أنّ حكم المحكمة يجب أن يطال الهيئة الاجتماعية بالارتياح ضمانا للعدالة”.

    ويضاف إلى ذلك طبيعة الطلبات التي سجلتها المحكمة بلائحة الحكم والتي لا علاقة لها بالتعويض المادي والمعنوي الذي هو مناط الدعوى المدنية، إذ كيف يطلب صاحب الدعوى المدنيّة : “إشهار للمحاكمة” واعتبار منوّبه قد ضحّى بحياته لحماية أمن البلاد. و”اعتبار الفعل غريبا عن طبيعة المجتمع التونسي” و”اعتبار فداحة الضرر ليكون الحكم العقاب بنفس خطورة الفعل” و”اعتبار ما صدر يستدعي حكما قادرا على رد الاعتبار للمؤسسات” (يراجع في ذلك ما جاء بالصفحة 29 و30 من لائحة الحكم). فالواضح أنّ نائبي القائمين بالحق الشخصي الذين طلبوا حفظ الحق لم يكن قيامهم لأسباب قانونية بقدر ما كان ذلك من أجل التأثير على المحاكمة والضغط عليها وهم الذين يمثلون جهة سياسية معلومة الهوية، ولا أدلّ على ذلك معارضتهم لطلب التأخير الصادر عن زملائهم نائبي المتهمين، مرة أولى بجلسة 15/12 ومرة ثانية بجلسة 29/12 دون مراعاة لمصلحة الدفاع الذي ينتسبون إليه. ويقابل هذا الانحياز الواضح للقائمين بالحق الشخصي رفض تلقي دفوعات الدفاع متهمين ومحامين.

  • رفض سماع مقال المتهمين في خصوص ما صرحوا به حول تعرضهم للتعذيب: يكيّف فقهاء القانون الجزائي الاستنطاق الذي تتولاه المحكمة بكونه التحقيق النهائي، إذ تتولى سماع مقولات الخصوم كما تقوم عند الاقتضاء بسماع الشهود وإجراء الاختبارات وغيرها من الأعمال المفضية إلى كشف الحقيقة، إلاّ أنّ المحكمة عبّرت عن تضايقها مما أثاره المتهمون في ردّ التهمة عليهم من تعرضهم إلى التعذيب الشديد لدى إدارة أمن الدولة التي تولّت أعمال البحث متعمّدة مقاطعتهم عند ذكر كُنى بعض الجلادين وعند ذكرهم لبعض التفاصيل المروّعة لما طالهم من أعمال تعذيب فظيعة. ويبدو عدم حياد المحكمة من خلال استعاضة عبارة “الإكراه” لمصطلح “التعذيب” الذي هو تكييف قانوني مخالف للإكراه الذي يتعلق عادة بالمادة المدنية، إذ جاء بلائحة الحكم الصفحة10 “وبالمناداة على الكامل أم هاني وباستنطاقه أجاب أنّه تعرض للإكراه عند سماعه لدى الباحث الابتدائي”.

    كذلك رفضت المحكمة عند ذكرها للتعذيب إيراد تفاصيل حول مادياته وطرقه. بل رفضت معاينة آثاره بالرغم من طلبات الدفاع بالجلسة دون مبرر.

  • رفض سماع المتهمين في خصوص تزوير محاضر الاحتفاظ ومحاضر البحث: حيث لاحظ العديد من المتهمين أنّ إدارة أمن الدولة زوّرت تاريخ ومكان إيقافهم وأمدّوا المحكمة بمعطيات منها شهادات صادرة عن أجوار لهم كما أدلوا ببرقيات موجهة إلى جهات رسمية وقضائية وكتب تكليف محامين للدفاع عنهم تحمل تواريخ سابقة لما نصّ عليه بمحاضر البحث والاحتفاظ، إلاّ أنّ المحكمة لم تصغ إلى طلبهم في تقصّي الأمر والحال أنّ له تأثير مباشر على صحة إجراءات الاحتفاظ والبحث.
  • رفض تلقي المطالب الأوّلية التي قدّمها المحامون: تولّى عدد من المحامين النائبين تقديم طلب للمحكمة المتعهدة يتعلق بمسائل أوّلية كانت تهدف إلى إحضار محاضر الاحتفاظ ببعض مراكز الأمن التي تم بدائرتها إيقاف منوّبيهم أو بالعرض على الفحص الطبّي لتشخيص آثار التعذيب التي كانت بادية على أنحاء من أجسامهم، وأيّدوا مطلبهم بوثائق وشهادات كتابية إلاّ أنّ المحكمة رفضت مجرد تلقي الوثائق المذكورة طالبة أن يرجأ ذلك للمرافعة والحال أنّها وكما يدلّ عليها وصفها هي أعمال أوّلية متعلّقة بالتحقيق النهائي الذي تتولاّه المحكمة مثلما أسلفنا. وأنّ “البحث التكميلي” كفيل بتأجيل المرافعة.
  • انخراط المحكمة في الجدل السياسي: من المبادئ الأساسية التي تحكم وظيفة القضاء العادي ألاّ ينخرط في الجدل السياسي ضرورة أنّ وكالته تتمثل في بسط سلطة القانون لاغير فقد اقتضت أحكام الفصل 65 من دستور الجمهورية التونسية: “القضاة مستقلّون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون”. ومن المعلوم أنّ هذا المبدأ متفرع عن مبدأ فصل السلطات وهو يعدّ أحد الضمانات للمحاكمة العادلة بما تكتسبه السلطة القضائية من صفة الحياد والاستقلال عن السلطة التنفيذية إلاّ أنّ المحكمة الجنائية خرقت هذا المبدأ إذ جاء قولها بالصفحة 76 من لائحة الحكم: “وحيث خلافا لبعض الشعارات الرائجة فإنّ القيم أصبحت فعلية وحمايتهم أصبحت مناط قوانين واضحة ولا تحتمل المخالفة بمقولات خيالية”.

    فما لا جدال فيه أنّه ليس من دور القضاء التصدّي لما يروج من شعارات ولا هو من دوره الردّ على المقولات الخيالية. والواضح أنّ هذا الخطاب السياسي إنّما هو موجّه إلى بعض المنظمات الحقوقية التي تتناول في تقاريرها وبلاغاتها انتهاكات حقوق الدفاع من طرف المحاكم التونسية. كما جاء في الصفحة 98 قول المحكمة: “وحيث ترى المحكمة أنّ واقع الاعتدال في بلادنا…”. فالمحكمة ليست بحاجة إلى تقويم الواقع بالبلاد لتؤسس عليه تطبيق ظروف التخفيف إذ كان عليها الاكتفاء بما له صلة مباشرة بالملف من معطيات وشروط سواء تلك المستمدّة من انعدام السوابق أو من تلك المأخوذة من انعدام الضرر إلخ… ويؤكّد هذا “التسبيب السياسي” والذي سبق أن جعلت منه المحكمة مبررا لعدم إحضار المحجوز بالجلسة عندما صرح رئيسها بجلسة 29/12 أنّ ما تنعم به البلاد من أمن واستقرار يجعل من غير المناسب عرضه.

    2- خرق القانون:

  • خرق الفصل 7 من مجلة الإجراءات الجزائية: اقتضت أحكام الفصل 7 المتقدم ذكره أنّ “الدعوى المدنية من حق كل من لحقه شخصيا ضرر نشأ مباشرة عن الجريمة”.

    وقد بادر بعض المحامين إلى تقديم نيابتهم عن ورثة أحد أعوان الأمن وضابط الجيش الذين قضيا خلال المواجهات والقيام في حقهم بالحق الشخصي والحال أنّ الحكم قد جاء به بالصفحة 85: “وحيث ثبت من التقرير الطبّي المتعلق بالنقيب المقام في حقه فوزي الزياتي (والصواب أنّه كان في حق الورثة وليس في حقه) وفاته بموقع المواجهة متأثرا بإصابات لحقت بالنصف الأسفل من بدنه نتيجة انفجار عبوة استعملها أحد الهالكين من المجموعة ضدّه وهو الصحبي المسروقي…”. فالواضح إذن أنّ موت الهالك فوزي الزياتي كان بسبب عبوة ناسفة استعملها ضده أحد الهالكين، فكيف بعدئذ يمكن القيام بالحق الشخصي ضد المتهمين وقد ثبتت براءتهم في خصوص وفاة الضابط المذكور.

    كما جاء في الصفحة 86 من لائحة الحكم عن ظروف وفاة مورث القائمين بالحق الشخصي العربي باكور: “وحيث أثناء تواصل العصيان بمدينة سليمان لحقت بعون الأمن المقام في حقه العربي باكور إصابة بسلاح ناري بالصدر نتجت عنها وفاته… عند قبوله بالمستشفى في 3 جانفي 2007. وقد ثبت من خلال ما تضمنه الملف من مظروفات أن لا أحد من المتهمين شارك في تلك المواجهة مما تنتفي معه كل علاقة سببية بين وفاة عون الأمن المذكور وما سجّل على المنوّبين من تصريحات وأقوال.

    ويتضح بذلك أنّ القيام بالحق الشخصي كان فاقدا لأساسه القانوني. وهو ما يجعل المحكمة تقول الشيء ثم تأتي بنقيضه بالحكم المذكور إذ بعد أن حددت هوية قاتل النقيب فوزي الزياتي تناقض قولها ذلك بالصفحة الموالية عدد 86: “وحيث استعمال السلاح والمواد المتفجرة المركّبة من قبل المتهمين علي الساسي ومجدي الأطرش والصحبي نصري وتوفيق الحويمدي وعماد بن عامر وبدر الدين القصوري ومحمد بن لطيفة وزياد الصيد وصابر الراقوبي وفتحي الصالحي والكامل أم هاني ومخلص عمار وغيرهم (هكذا دون تحديد) من المتهمين لارتكاب العصيان إزاء أعوان السلطة سببا مباشرا أدّى إلى مقتل فوزي بن الصادق الزياتي والعربي باكور وإصابة أحمد الأحمدي والبشير العياشي ومكرم العجمي وعبد الرزاق ساسي”. فالمحكمة تذكر سببا مباشرا أول ثم سببا مباشرا ثانيا مختلفا يؤسس للقيام بالحق الشخصي.

  • رفض المحكمة النظر في صحّة الإجراءات: جاء بلائحة الحكم الصفحة 58 قول المحكمة: “وحيث علاوة على كل ما تقدم فإنّه لا بد من التذكير بالمفعول التطهيري لقرار دائرة الاتهام وما ينتج عن ذلك من سلامة للإجراءات عند تعهد المحكمة في الأصل…”. أي بصيغة أخرى يمكن القول بأنّ المحكمة الجنائية لا تتعهد إلاّ بأصل التهم ولا نظر لها في المسائل الإجرائية التي تكون قد طهّرتها دائرة الاتهام من كل خلل موجب للبطلان حسب تلك الحيثية، وهو قول مردود ولا يمكن مجاراتها فيه للأسباب التالية:

    أوّلا: بصريح نص الفصل 133 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي جاء به: “أحكام هذا الباب مشتركة بين سائر المحاكم”. وضمن هذا الباب وبالتحديد جاءت أحكام الفصل 199 ناصة على ما يلي: “تبطل كل الأعمال والأحكام المنافية للنصوص المتعلقة بالنظام العام أو للقواعد الإجرائية الأساسية أو لمصلحة المتهم الشرعية”.

    ثانيا: لا وجود بالنظام القضائي التونسي لمحاكم تنظر في الشكل وأخرى تختصّ بالنظر في الأصل.

    ثالثا: تتولى المحكمة المتعهدة إجراء “التحقيق النهائي” عبر استنطاق المتهم وإنجاز جميع الأعمال التي تراها مفيدة في إجلاء الحقيقة وهو ما يتطلب منها بالضرورة تقدير ما سبق إنجازه من تحقيق ابتدائي وتحقيق أوّلي ليس الغرض منه سوى صيانة الأدلّة من العبث بها أو الضياع والتحفظ على مرتكب الجريمة حتى لا يفرّ.

  • خرق أحكام الفصلين 141 و143 من مجلّة الإجراءات الجزائية:

    يجدر التذكير بأنّ لسان الدّفاع الذي تابع جلسة الاستنطاق التي استغرقت حوالي اثني عشرة ساعة بصورة مسترسلة طلب تأخير القضية لجلسة مقبلة حتى يتمكّن من الترافع في ظروف مقبولة بعدما ناله من تعب وهو يتابع جلسة الاستنطاق، إلاّ أن المحكمة أصرّت على موقفها من رفض التأخير ممّا حدا بلسان الدّفاع إلى الانسحاب وتلاه انسحاب المتّهمين تضامنا مع نائبيهم.

    وما يثير الدهشة حقا هو كيف قدّمت المحكمة انسحاب المحامين وعدم الترافع في القضية إذ جاء قولها بالصفحة 61 من لائحة الحكم: “وهذه الوجوبية ( وجوبية المحامي) في الحضور أمام المحكمة لا تعني بالضرورة المرافعة إذ أحجم المحامي عن ذلك أي في تقديم طلبات أصلية “.

    وهكذا استبدلت المحكمة عن غير وجه “الاستعانة” بمحام ” بحضوره ” حتّى تلتمس لنفسها مخرجا من وضع أصبحت فيه المحكمة منتصبة في غياب لسان الدفاع والمتهمين وهي مخيّرة بين قرار تأخير الجلسة لتمكين لسان الدفاع من الترافع أو المرور إلى طور متقدّم من الإجراءات عبر حجز القضيّة للمفاوضة والتصريح بالحكم بما يفضي إلى بطلان الحكم الصادر عنها بأحكام الفصل 199 من مجلّة الإجراءات الجزائية.

    وبذلك ودون وجه رأت أنّ ” حضور المحامي للاستنطاق يكفي لذاته وهو يقوم مقام المرافعة ! التي أصبحت تشمل حسب قراءة مبتدعة لأحكام الفصل 143 (مرافعات جزائية) “مراحل من استنطاق وسماعات وإبداء ملاحظات” مضيفة:” وقد شارك ذوات المتهمين في أغلبها وقدّموا طلبات أوّلية”. وهي الطلبات التي رفضت المحكمة تلقّيها ! فالمرافعة لم تعد تعني كما عرفتها قواميس المصطلحات القانونية: باعتبارها طورا إجرائيا يخصص لسماع طلبات النيابة العمومية ومرافعات المحامين. وإنّما أصبحت المحكمة الجنائية تختزلها في حضور المحامي في طور الاستنطاق.

    فالمرافعة باعتبارها طورا في المحاكمة يعد إجراء أساسيا ويتصل بمصلحة المتهم الشرعية في آن واحد، ويترتّب عن على إسقاطه وتجاوزه مثلما فعلت المحكمة الجنائية بطلان الحكم عنها عملا بمقتضيات الفصل 199 من مجلّة الإجراءات الجزائية.

    وما يؤكّد وقوع المحكمة في مأزق هو ردّها على دفوعات افتراضية استوحتها من مرافعات سابقة في قضايا أحيل فيها شبان بتهم إرهابية، وهكذا كانت المحاكمة إجهاضية واستباقية حتّى في مستوى إجراءاتها ! ويكفي للتدليل على ذلك ما جاء بالصفحة 57 من لائحة الحكم من قول باختصاص إدارة أمن الدولة في إجراء الأبحاث وهو دفع لم يثره المحامون النائبون في القضية، إذ جاء قولها: ” وحيث أنّه بالنسبة لصفة الباحث واعتبار أن إدارة أمن الدولة غير مخولة للبحث، والحال أن المحاضر حررت من قبل ضباط أمن عموميين وهي الصفة الواردة في الفصل 10 ثالثا من مجلّة الإجراءات الجزائية ممن خوّل لهم المشرّع البحث ويكون لذلك تعهّدهم بالبحث بصفتهم تلك ومطابق للقانون”.

    كما جاء حديث المحكمة عن ” برنامج الجزائر واضح المعالم” بأعلى الصفحة 77 : هي وقائع تتعلّق بقضايا سابقة نظرت فيها، ولا علاقة له بوقائع القضية موضوع نظرها: “وحيث إضافة إلى ذلك فإنّ التفاصيل المقدّمة من قبل المتهمين بما عرف ببرنامج الجزائر واضح المعالم من حيث توجّهه نحو العمل الترويعي للأشخاص والتخريبي للمؤسسات بعد تلقّي التدريبات اللاّزمة لتوفير سبل النجاح به”.

    3- ضعف التعليل

    إن المنهج المنحاز للإدانة الذي سارت عليه محكمة البداية وعدم تلقي تصريحات المتهمين ومقارنتها بما ضمّن بمحاضر البحث والاستنطاق من رواية للأحداث قاد المحكمة إلى مأزق قانوني وعملي عند تقديرها للعقوبات.

  • المأزق القانوني:

    كما هو معلوم أحيل المتهمون على معنى الفصول 1 ـ 2 ـ 4 ـ 5 ـ 11 ـ 13 ـ 14 ـ 16 ـ 18 ـ 19 ـ 30 ـ 31 من القانون عدد 75 المؤرخ في 10/12/ 2003 المتعلق بدعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب والفصول 59 و 68 و 69 و 72 و 118 و 119 ـ 201 و202 من المجلّة الجنائية ( المتعلّقة بجرائم التآمر على أمن الدولة والاعتداء على هيئتها، وجرائم الاعتداء على السلطة العامة وجرائم الاعتداء على الأشخاص ) والفصول عدد 1 ـ 2 ـ 14 ـ 17 ـ 21 من القانون عدد 33 المؤرخ في 12 جوان 1969 المتعلق بضبط الأسلحة والفصلين 2 و 34 من القانون المؤرخ في 15 جويلية 1996 المتعلق بالمتفجّرات والفصلين 2 ـ 82 ـ المتعلق بجرائم الاتصالات.

    كان على المحكمة عند تقديرها للعقاب أن تبحث عن سبل للخروج من مأزق قانوني تسببت فيه أحكام الفقرة الأخيرة من الفصل 30 من القانون عدد 75 لسنة 2003 المتعلّق بما يسمى دعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب الذي نصّ على ما يلي:

    “يكون الحكم بأقصى العقوبة المستوجبة للجريمة إذا نتج عنها وفاة أو عجز بدني مستمرّ تجاوزت نسبته عشرين بالمائة”.

    أمّا أقصى العقوبة فقد استوجبها الفصل 72 جنائي الذي اعتبرته المحكمة مناط الجريمة “الأصلية” موجب التطبيق ونصّه: “يعاقب بالقتل مرتكب الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بالسلاح أو إثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي”.

    فإذا ما جارينا المحكمة في اعتبارها أن جريمة الفصل 72 جنائي التي أسمتها الجريمة ” الأصلية” قائمة في حق “كافة المتهمين عدى خليل الزنداح وخليفة القراوي والنفطي البناني” (يراجع أعلى الصفحة 80 من لائحة الحكم ) فإنّه عدى من استثني منهم تصبح مستهدفة أغلبية المتهمين بعقوبة الإعدام. وهو ما يجعل المحكمة أمام مأزق قانوني ـ إذ أنّه من المسلّم به أنّ صدور أحكام بالإعدام في حقّ سبعة وعشرين من المتهمين كان من شأنه أن يثير ردّ فعل الرأي العام والهيئات الحقوقية وهو ما جعل المحكمة تقول بعدم وجود مانع قانوني يحول دون تطبيق الفصل 53 جنائي المتعلّق بظروف التخفيف، والحال أن الفصل 30 من القانون عدد 75 لسنة 2003 المؤرخ في 10 / 12 / 2003 المتعلق بما سمي بدعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب يعدّ استثناء لأحكام الفصل 53 جنائي شأنه شأن الفصلين 7 و8 من ذات القانون والتي قيدت اجتهاد القاضي في تقدير العقاب بأن حجّرت عليه النزول بالعقاب إلى ما دون 30 عاما إذا كان العقاب المستوجب بالسجن لمدّة معينة ـ كما ضاعفت أحكام الفصل 8 العقوبة المالية إلى عشرة أضعاف الخطية المستوجبة للجريمة الأصلية.

    ولم يقصر المشرّع صلب قانون 10 / 12 / 2003 السابق ذكره العمل بذينك الفصلين 7 و8 على الجرائم ذات الصفة الإرهابية وإنما وسّع مجال العمل بها إلى القانون الجنائي العام، إذ جاء الفصل 10 منه: ” تجري القواعد المقررة بالفصلين 7 و8 من هذا على الجرائم المنصوص عليها وعلى مرتكبها بالمجلّة الجنائية وغيرها من النصوص الجاري بها العمل في المادة الجزائية”.

    ويؤخذ مما تقدّم أنّ تطبيق أحكام الفصل 53 من المجلّة الجنائية المتعلق بظروف التخفيف كان مخالفة من المحكمة لما اقتضت أحكام الفصل 30 من القانون المؤرخ في 10 / 12 / 2003 المتعلّق بالجرائم الإرهابية، وهو ما قد تكون شعرت به المحكمة فبحثت عن مسوّغ سياسي تسدّ به الفراغ وتعالج به الخلل القانوني فمضت في المزيد من التعليل بالقول (ص 98 ): ” وحيث أن المحكمة ترى أن واقع الاعتدال في بلادنا وتعبير البعض من المتهمين منذ انطلاق الأبحاث عن اعتذارهم عن الأفعال المرتكبة من قبلهم “.

    فالواضح أنّ المحكمة قد وقعت في مأزق قانوني، والذي يعدّ أحد مظاهر الاختلال والاضطراب الذي أدخلته أحكام قانون ما يسمى بمكافحة الإرهاب ( عدد 75 لسنة 2003 المؤرخ في 10 / 12 / 2003 ) على المنظومة الجنائية والتي نالت من تماسكها وتناسق أحكامها ـ وهو الأمر الذي ازداد تعقيدا وشكّل خطورة في تطبيقها بعد انحياز المحكمة للإدانة مثلما سيأتي بيانه.

  • التقدير الاعتباطي للعقوبات: في ظل انعدام معايير الإدانة كان لابد للمحكمة أن تقع في التقدير الاعتباطي للعقويات. فهي لم تلتفت إلى ما دفع به المتهمون الذين أوقفوا أو سلّموا أنفسهم إلى أعوان الدولة قرب مكان المواجهة “بعين طبرنق” (لابدّ من التذكير أنّ أكثر من نصف المتهمين تم إيقافهم بأماكن متفرقة من البلاد ولا علاقة لهم بالأحداث التي حصلت أواخر سنة 2006 وبداية 2007) والذين أكّدوا أنّهم بحثوا عن ملجأ بجبل عين طبرنق فرارا من تتبعات البوليس السياسي الذين أرهقوهم ونكّلوا بهم. وكانوا بذلك يرمون إلى التخفي عن أنظارهم مدة من الزمن خشية الوقوع في أيديهم وتلفيق تهم الإرهاب ضدهم وإحالتهم على القضاء الذي سبق أن أدان البعض منهم من أجل ذلت التهم.

    يضاف إلى ما تقدم أنّه لم يثبت استعمال المتهمين لأسلحة أو متفجرات بل إنّ ما وقع حجزه لم يعرض على المتهمين بالمحكمة طبق أحكام الفقرة 5 الفصل 143 من مجلة الإجراءات الجزائية، لاعتبارات قدرتها المحكمة وهي ذات طبيعة سياسية سبق ذكرها.

    ولمّا ثبت أنّ المحكمة رفضت مجرد قبول المطالب الأوّلية التي تقدم بها المحامون، ومن باب أولى النظر فيها خشية تهافت رواية الوقائع المضمنة بمحاضر البحث والتحقيق والتي كانت مشوبة بالبطلان لما انطوت عليه من تزوير لتواريخ الاحتفاظ ولثبوت ممارسة الباحث الابتدائي ااتعذيب واستبعاد قاضي التحقيق المحامين لحضور الاستنطاق مخالفة منه لصريح أحكام الفصل 69 إجراءات جزائية إلاّ ما حصل استثناء وتعلق بمتهمين اثنين فقط من أصل ثلاثين متهما تشكل منهم عدد المحالين في القضية. فكيف تكون مع ذلك أحكام الفصل 72 جنائي مناط “الجريمة الأصلية” كما أطلقت عليها المحكمة منطبقة على صورة الحال ؟

    ولئن نصّ الحكم بالصفحة 89 على أنّه استند إلى دور كل متهم في التنظيم أو أثناء المواجهات (وهو ما يفهم منه معيار خطورة الدور) فإنّ التباين في شدة الحكم لا يُفسّر بتطبيق ذلك المعيار، إذ أنّ المتهمين الذي قضي في حقهما بالإعدام لم ينفردا بأعمال تبرر إيقاع مثل تلك العقوية بهما. كما أنّ ذلك المعيار لا يمكّن من فهم لماذا قضت المحكمة بالسجن المؤبد في حق المتهمين الصحبي نصري وفتحي الصالحي ووائل عمامي ومحمد بن لطيفة وعلي العرفاوي ومخلص عمار ورمزي العيفي وأسامة العبادي في حين قضت بالسجن 30 عاما على كل من علي الساسي وزياد الصيد ومحمد أمين الجزيري وبدرالدين القصوري وتوفيق الحويمدي ومجدي الأطرش وأحمد المرابط والحال أنّ وائل عمامي ورمزي العيفي وأسامة العبادي قبض عليهم في سيدي بوزيد بالنسبة إلى الاثنين الأوّلين ووببن قردان بالنسبة إلى الثالث ولم يكن لهم أي دور في المواجهات لا من بعيد ولا من قريب. كما أنّ من تقدّم ذكرهم لم يثبت أن قاموا بأدوار تفوق “خطورة” ما نسب للمحكوم عليهم بعشرين سنة سجنا بل وللمحكوم عليهم باثني عشرة سنة سجنا.

    فالواضح أنّ الحكم كانت مسوّغاته سياسية إذ أريد توظيف المواجهات التي قتل فيها جميع من استعملوا السلاح لتلفيق ملف قضائي واستعماله في توجيه رسائل سياسية في قالب شكل قضائي، مفادها شدة القسوة في التعامل مع هذا التيار ولا أدلّ على ذلك من أنّ حوالي ثلثي المتهمين (19) صدرت في شأنهم أحكام تراوحت بين الإعدام والسجن مدة عشرين سنة.

    فالذي لا مراء فيه أنّ جميع الذين حملوا السلاح قد قضوا خلال المواجهات التي حصلت مع أعوان القوة العامة. بل إنّ البعض منهم قتل في ظروف غامضة وقد خلت أوراق الملف من الجواب الشافي في هذا الصدد. ونذكر على سبيل المثال ما صرح به المنوّب زياد الصيد خلال زيارته بالسجن في شأن ظروف وفاة شكري المفتاحي الذي وضعت جثته بالشاحنة العسكرية التي أقلّته بعد إيقافه يوم 30 ديسمبر 2006 – وليس يوم 14 جانفي كما نصّ على ذلك بمحضر سماعه لدى إدارة أمن الدولة- في حين ذكر بالمحضر عدد 7 مكرر المحرر من طرف إدارة أمن الدولة أنّه توفي يوم 28/12/2006.

    كما لفّ الغموض ظروف وفاة قائد المجموعة لسعد ساسي إذ ذكر بالمحضر عدد 7 مكرر أنّه قتل مساء يوم 1 جانفي 2007 “بمستوى نهج الرياض بحي الأمل بحمام الشط بعد أن أطلقت عليه دورية النار، وهو ما نصّ عليه بمضمون الوفاة عدد 222 في حين أنّ تقرير التشريح الطبّي يشير إلى أنّه جرح برصاصة اخترقت أمعاءه وأنّه خضع لعملية جراحية كللت بالنجاح وأنّ وفاته حصلت يوم 2 جانفي حوالي الساعة السابعة مساء ! أي أنّه قبض عليه وهو على قيد الحياة.

    ويضاف إلى هذا الغموض والشك في الوقائع كما وردت بمحاضر البحث والتحقيق أنّ ما حجز من سلاح ناري لا يتجاوز عدد 6 رشاشات كلاشينكوف في حين أنّ عدد القتلى يساوي ضعف ذلك العدد أي أنّ نصف العدد لم يكن يحمل سلاحا ناريا. فقد جرى قتل كامل المجموعة التي تحصّنت بمنزل مهجور مساء يوم 3 جانفي 2007 وعددها خمسة حسب ما جاء بالمحضر عدد 7 مكرر ولم يكن بحوزتها إلاّ رشاشين اثنين.

    عن المجلس
    الأستاذ عبد الرؤوف العيادي