29/10/2005
بقلم: مفتاح
في التاسع والعشرين من تشرين الأول عام 2005 ومع اكتمال الساعة الخامسة مساءً، يكون قد مرّ تسعة و أربعون عاماً على المجزرة الرهيبة التي اقترفها جنود الاحتلال الإسرائيلي في كفر قاسم. القرية العربية الواقعة في أقصى جنوبي المثلث الفلسطيني في الأراضي التي احتلت عام 1948.
في نفس اليوم من عام 1956 سقط تسعةً وأربعون شهيدا وشهيدة من أطفال وشيوخ ونساء ورجال ، راحوا ضحية جريمة جيش الاحتلال الإسرائيلي الغاشم. ففي صبيحة ذلك اليوم الأسود، طلب العقيد “شدمي” قائد أحد الألوية المسئولة عن الحدود مع الأردن والتي تشمل منطقة المثلث من بير السكّة حتى كفر قاسم، فرض منع التجول في تلك المناطق لتسهيل انتشار الجيش على الحدود مع الأردن.
تم الاستجابة لطلب العقيد “شدمي” و فرض منع التجول على قرى كفر قاسم، جلجولية، الطيرة، الطيبة، قلنسوة، بير السكة، و أثبان ابتداءً من الساعة الخامسة مساءً وليس من الساعة العاشرة كما هو معتاد. وعندما سأل أحد الجنود عن مصير المواطن العائد من عمله دون علمه بأمر منع التجول، أجاب “شدمي” ، ( الله يرحمه).
ما بين الساعة الخامسة والسادسة عاد أهل كفر قاسم من عملهم خارج القرية ولم يكن يعلم معظمهم بحظر التجوّل فواجهوا عند وصولهم حدود القرية وحدة لجنود جيش الاحتلال، حيث أمرهم قائد الخلية بالوقوف وأمر الراكبين بالترجل، ثم أعطى أمراً بإطلاق النار، ورأساً انهال الرصاص على الواقفين، فتتابع سقوط الضحايا وامتزجت دماؤهم بالثرى الذي شهد عمق المأساة.
في الثاني من تشرين الثاني عام 1958 بدأت المحاكمة المسرحية للعقيد “شدمي”. وبالرغم من وجود الكثير من الشهود الذين تطابقت شهاداتهم في أدق التفاصيل، برّئ من القتل وغرّم بدفع قرش واحد.!! إلا أن المحاضر العلنية والسرية لهذه المحكمة كشفت وقائع أضفت ضوءا جديدا على القضية
فقد تبين أن الجنود ال 11 المتهمين بتنفيذ المذبحة لم يكونوا سوى الأيدي المنفذة لعقول خططت ودبّرت على أعلى مستوى من رئاسة الأركان ووزراء الاحتلال. والمعنيان هما، الجنرال “موشيه ديان” و رئيس الحكومة ووزير الدفاع “دافيد بن غوريون”. اتضح من أقوال الشهود والمتهمين في المحكمة أن الهدف من منع التجول في حالة الحرب تلك كان التحضير لطرد عرب المثلث.
هذا ما شهد به الضابط “بنيامين كول” عندما قال أنه شعر مما جاء في المنشور أن الحرب – وأقصد العدوان الثلاثي على مصر- ستكون على الجبهة الشرقية ضد الأردن ويجب تسديد لكمة لعرب المثلث حتى يهربوا الى الجانب الآخر للحدود.
وبدوره فان مجلس الأمن لم يحرّك ساكنا ولم يصدر عنه أي بيان بخصوص هذه المجزرة.
كفر قاسم لم تكن استثناء بل تمثل القاعدة. فمنذ ما قبل إقامة دولة الاحتلال وفي كل فترة قيامها، شغلت فكرة الترحيل بال المسئولين في القيادة الإسرائيلية على المستويين السياسي والعسكري. والمهم ذكره أن كفر قاسم لم تكن فريدة من نوعها كما لم تكن الأخيرة، فالمجازر مستمرة وتنفذ بطرق شتى ومبرّرات مختلفة.
فإذا فحصنا ملابسات كل مجزرة على حده لوجدنا تشابهاً في الأهداف وسلوك المحكمة الإسرائيلية التي تتسارع لتشكيل لجنة أو عقد محكمة كوسيلة لامتصاص غضب الرأي العام المحلي والعالمي ودفن الجريمة في أعماق التاريخ.
تكرار المجازر وأسلوب تعامل الاحتلال معها يثبتان وجود نهج نابع من التوجه العام للحركة الصهيونية تجاه الفلسطينيين والهدف المشترك لكل المجازر كان وما زال، الطرد.
فالمشروع الصهيوني أراد البلاد نظيفة من الفلسطينيين، والذين اضطر لاستيعابهم صنع منهم نموذجاً “لمواطنين” مشوّهو القومية لا أصل لهم ولا تاريخ ولا تراث ولا حضارة “مقطوعين من شجرة”، ولكن موقف فلسطيني الداخل يؤكد منذ عام 1948 بأن محاولات إسرائيل نزع تاريخهم وعروبتهم ستبوء بفشل ذريع ولو بعد حين.
وبالرغم من كل المحاولات القاسية جداً من حكومة الاحتلال الإسرائيلي لتنغيص عيش فلسطينيي 48 من أجل الهروب والتخلي عن أراضيهم إلا أنهم صامدون بنفسية قوية ويواصلون توريث الأجيال الجديدة بتاريخهم وثقافتهم ووطنيتهم وقوميتهم لاكتشاف البعد الوطني الحقيقي والبقاء في الوطن والتشبث في الأرض وبذل جهد عظيم ومتميز من أجل الإسهام في تغيير الموازين داخل إسرائيل على جميع الأصعدة.
أما في حاضرنا، لم تعد سياسة الطرد بمعناها الحرفي والمباشر تجدي نفعاً ويعود ذلك لوعي الشعب الفلسطيني الكبير لهذه القضية بالذات. تدرك إسرائيل ألان بان اللجوء إلى “سياسة” جديدة بات أمراً ملحّاً، فمن سياسة التهجير والترهيب بهدف الفرار إلى سياسة الحصار والاغتيال وقتل الأبرياء بذريعة – محاربة الإرهاب – الذي يهدد دولةًً تقوم بممارسته يوميا ضد شعب أعزل.
وما من أسبوع يمر إلا وتقوم إسرائيل فيه بقصف مساكن مدنية أو اغتيال قادة سياسيين كانوا أم عسكريين أو أسر الآلاف ومحاصرة الباقيين. كلّ ذلك وردود الفعل العالمية كما هي منذ الزمن البعيد، شجب واستنكار وإصدار قرارات لا تنفذ.
وطالما أن الاحتلال لا يكترث لأي آراء تعارض أوتلجم عدوانه، فان الشعب الفلسطيني يملك حق الدفاع عن نفسه ووطنه، وليس من العدل أو المنطق تسمية ذلك إرهابا ، حيث أن الشعب الفلسطيني فقد جزءاً كبيراً من وطنه ومن حقه الدفاع عن نفسه والحفاظ على ما تبقى من أرضه وحياته ووطنيته وحريته. مقاومة هذا الشعب حق أنساني ليس من العدل إن ينكره عليه أحد، مقاومة تنسجم مع الشرعية الدولية والإنسانية .
وهو سيواصل الكفاح إلى حين إحداث تبدل في موازين القوى العالمية ورجحان كفة التأييد للشعوب المضطهدة والمستضعفة حتى تنال حقوقها وإنهاء كافة أشكال الاحتلال والعدوان.
فالظروف الدولية الراهنة، وإن كانت غير مواتية لتمكين الشعب الفلسطيني من استعادة حقوقه، لكنها حتما لا تلغي، بأن حال من الأحوال، حق الشعب الفلسطيني العيش بكرامة وبحرية في وطنه شأنه شأن باقي شعوب العالم. وحتما سيأتي ذلك اليوم الذي سيشهد محاكمة الاحتلال على جرائم حربه وجرائمه بحق الإنسانية.