3/9/2005
خالد الحمادي
أعطت الثلاثين ساعة التي قضيتها في معتقل شعبة الاستخبارات العسكرية التابعة للقوات الجوية بصنعاء، مؤشرا لتوجه هذا الجهاز في الدخول إلى سوق الانتهاكات للحقوق الصحافية في اليمن
إن عملية اعتقالي لم تكن المرة الأولى التي يُعتقل فيها صحافي يمني في قضية نشر ولن تكن الأخيرة ولكن جديدها أنها المرة الأولى التي تتدخل فيها مؤسسة عسكرية في عملية اعتقال لصحافي، بطريقة غير قانونية وليس من اختصاصها.
مشهد الاعتقال العسكري كان أكثر دراميا من نظيره الأمني، اتصال هاتفي عبر جوّالي: جاوب الفندم يريدك الآن، أجبته أنا الآن في مهمة صحافية بمدينة مأرب وأعطيته عنوان الفندق الذي وصلت إليه للتو لإقناعه بأني فعلا خارج العاصمة صنعاء، كرّر لا تتهرب أحضر الآن
وبعد نقاش طويل اقتنع، وأعطاني موعدا مع القائد بعد ثلاثة أيام، ولكن بعد نحو ثلاث ساعات تفاجأت بأفراد من القوات الجوية على متن سيارتي جيش أحدها تحمل رشاشا ثقيلا مضاد للطائرات يدخلون الفندق، اعتقدت حينها أن هناك عملية كبرى للقبض على أحد مجرمي الحرب أو على أحد العناصر الإرهابية الخطيرة.
لم يدم المشهد طويلا حتى سمعت الطرَقات في باب غرفتي، نحن من القوات الجوية مكلفون بالقبض عليك، وإيصالك الآن إلى منزل القائد في صنعاء، حاولت إقناعهم بشتى الوسائل دون جدوى لإعطائي بعض الوقت حتى أكملت عملي في مأرب التي وصلت إليها قبل نحو ساعات فقط.
استسلمت للأمر واستقليت معهم السيارة وسط جمهور المشاهدين من نزلاء الفندق وكأنه مشهد درامي من مشاهد العمليات البوليسية التي نراها في الأفلام الهندية.
في الطريق أحسست بعزرائيل يدنو مني مرارا، وقلبي يكاد يتوقف من شدة السرعة التي كان سائق السيارة العسكرية يصر على المبالغة فيها، حيث كان مؤشر السرعة في أغلب الوقت يتصاعد للأخير، في سيارة قديمة لا تحتمل حتى نصف تلك السرعة، وهي المرة الأولى في حياتي التي أشاهد فيها مؤشر سرعة السيارة للآخر، رغم أني سافرت مرارا في الموكب الرئاسي وفي ذات الطريق من مأرب إلى صنعاء والعكس وبسرعة لم تصل إلى 70% من هذه السرعة الجنونية.
سيطر علي شعور غريب حينها بأن هذه السرعة ربما تكون وسيلة ومهمة عسكرية للتخلص مني قضاء وقدر، وكنت سرعان ما أستبعدها لأني لم أشعر أن هناك سبب وجيه ومبرر قوي لذلك.
عند مدخل مدينة صنعاء تلقى الضابط المكلف بإيصالي إليها مكالمة هاتفية تخبره بالتحول نحو قيادة الدفاع الجوي، في طريق المطار، بدلا من بيت القائد وعند ما وصلنا مقر القيادة، سلموني للضابط المناوب في شعبة الاستخبارات العسكرية التابعة للقوات الجوية، الذي قال له: شكرا، مهمتك انتهت وعليك العودة الآن إلى مأرب، أجابه ولكن يا فندم أنا مكلف بإيصاله إلى منزل القائد والعودة الليلة برفقته إلى مأرب بعد مقابلته، أجابه ذلك كان موضوع قديم، والآن هناك أوامر جديدة.
عاد أصحاب المهمة ولم أعد، ووضعوني في غرفة الضابط المناوب، حتى أظل تحت الرقابة الدائمة على ما يبدو، أخذوا مني جهازي الهاتف الجوال وافرغوا كل ما بداخله من أرقام وغيرها، حسب ما علمت لاحقا، تفاجأت بهذا الأمر وانصدمت كثيرا بهذا الواقع وبهذه المعاملة، وانسدت حينها نفسيتي من كل شيء حتى من الكلام، وكنت أشعر بصعوبة حتى في النظر لمن بجواري من الضباط والعسكر.
كانوا أربعة يخزّنون (يمضغون) القات ويدخنون السيجارة، وتحولت الغرفة بذلك إلى مدخنة، كدت أختنق من هذا الجو، حاولت الاستلقاء كي أريح أعصابي ولكن كانت تزداد توترا كلما مرّ بعضا من الوقت، كانت الدقيقة تمر وكأنها يوم، خاصة وأني وجدت نفسي فجأة كتلة هامدة لا عمل لها سوى حساب الدقائق التي تمر انتظارا للوقت الذي أتوقع أن يدعونا فيه لأي شيء، سواء لمقابلة القائد، أو للتحقيق أو لتحويلي للزنزانة الانفرادية كما كنت أسمعهم يتهامسون أو لأي شيء آخر.
انتظرت طويلا، وكان من حولي يضحكون ويمرحون فيما بينهم دون أن يلتفتوا إليّ وكأني غير موجود أو كأني زائدة دودية بينهم، كانت رنّات الهاتف ترنّ في أذني كالرصاص، خشية أن تفاجأني أحدها بأسوأ مما أنا فيه، القلق كان مهيمن عليّ بدرجة كبيرة، ليس بسبب وضعي ولكن لوضع والدتي المصابة بضغط الدم والذي كنت أخشى أن يرتفع أكثر حين سماعها نبأ اعتقالي، بالإضافة إلى عدم معرفة أحد بعملية اعتقالي غير الاتصال الأخير المشفّر لأسرتي الذي أخبرتها فيه أن “الجماعة الذين اتصلوا بي جاءوا وأخذوني من مأرب وأعادوني إلى صنعاء وأن المقام عندهم قد يطول”.
حاولت نسيان وضعي بالخلود إلى النوم، غير أن جفوني تجمدت وعيوني استعصت على الاستجابة لمطلبي المُلِح، قضيت ليلتي (المعتقلة) على هذا الحال، رغم إجهادي الشديد وجسمي المنهك، لاح الفجر في الأفق ولم يجد النوم طريقه إلى مقلتيّ، وبدأت مشوار الانتظار من جديد، علّ الهاتف يرن طلبا لاستجوابي أو لإخراجي مما أنا فيه.
انتظرت وطال الانتظار حتى اقترب الظهر، فطلبوا مني الانتقال لمكتب مجاور للغرفة واستقبلني ضابطين لبدء الاستجواب
فسألتهم بكلمات ثقيلة جدا: ألا تستحون؟ تريدون استجوابي، بعد 20 ساعة من حرماني من الطعام والشراب والإرهاق الجسدي والنفسي؟ ألا ترون أني لا أستطيع نطق الكلمات بسبب الجفاف في فمي ومن شدة الجوع، فشعروا بالخجل ووجهوا بمنحي ماء وبسكويت وفي الظهر طلبت من أحد العسكر أن يشتري لي غداء من المطعم فوافق وبعده بدأ مشوار الاستجوابات الأربعة.
بدأ المحققون من الأدنى درجة للأعلى يستجوبوني حول نقاط مكررة ولكن من زوايا متعددة، وكان السؤال المشترك بين جميع المحققين هو من المصدر الذي أفشى لي معلومات تقريري المنشور قبل نحو أسبوعين عن (أسباب تكرار سقوط الطائرات العسكرية في اليمن) الذي كان محل انزعاج قيادة القوات الجوية، وتكرّر هذا السؤال كثيرا وسألوني عما إذا كان لدي أصدقاء في القوات الجوية أو في الجيش بشكل عام.
وظلوا يلفّوا ويدوروا بأسئلتهم حتى يعودوا لذات السؤال الذي كان محل اهتمامهم، وهو المصدر لهذه المعلومات وهذا ما أعطى تأكيدا بأن جميعها مفرغ من صحتها وحاولوا فقط التوصل إلى معرفة المصدر، ربما حتى يتخذوا إجراءاتهم ضده.
السؤال الذي استفزني كثيرا ورفضت الإجابة عليه بل وطلبت من المحقق أن يسحبه في الحال وهو: كم استلمت من الصحيفة جراء نشر هذا الموضوع؟ فصرخت في وجهه: لم استلم شيئا ولا داعي لتوجيه التهم المبطنة بالتخوين، فانا أحب وطني مثلما أنك تدعي الوطنية وأؤدي رسالة كشف السلبيات وفضح حالات الفساد حتى يتم معالجتها، مثلما تنصّب نفسك في وضع حماة هذا الوطن.
اكتشفت من خلال أسئلة الاستجواب أن البون لازال شاسع بين عقلية جهاز الاستخبارات العسكرية وبين الحراك السياسي والحريات الصحافية والنهج الديمقراطي الذي تعيشه اليمن
حيث شعرت أنهم كانوا يتعاملون معي بعقلية ما قبل العهد الديمقراطي، أي قبل قيام الوحدة اليمنية عام1990، لمست أنهم لا زالوا يرون أن التعامل مع صحيفة خارجية نوعا من التجسس لصالح جهة خارجية وان النشر في الخارج يختلف عن النشر في الداخل، وأنه إذا كانت المعلومات التي نشرتها في تقريري الإخباري قد نشر أغلبها في الداخل فهذا لا يعفيني من المسئولية، لأن النشر في الداخل للاستهلاك المحلي أما في الخارج فإنه كشف للمستور وفضح لما لا يجب الإفصاح عنه.
الأغرب من هذا كله أني لمست أن جميع من حققوا معي لم يقرءوا تقريري الإخباري وليس لهم علم بتفاصيله، وكان كل واحد منهم يطلب مني إعطاءه نبذه عن الموضوع الذي نشرته، حتى أن أحدهم بدأ يحقق معي وهو لا يدري من أنا ولا ما هي القضية التي تم اعتقالي بشأنها.
طبعا في نهاية كل تحقيق كانوا يجبروني على التوقيع والبصم على كل ما تم تدوينه من إجابات أثناء التحقيق وكانوا يتعاملوا معي أثناء التحقيق وكأني مجرم حرب، أو عسكري فار من ساحة المعركة أو ما شابه ذلك
فطلبت منهم أن يتعاملوا معي كصحفي ومن الضروري أن يتفهموا طبيعة العمل الصحافي، لكن كما يقال “الطبع غلب التطبّع”.
البعض يعتقد أن الموضوع انتهى لمجرد إطلاق سراحي من المعتقل بتوجيه رئاسي ولكن ما أخشاه هو أن يظلم الكثيرون ـ دون ذنب ـ من بعدي من العاملين في المؤسسة العسكرية والأمنية، لمجرد تشابه أسمائهم مع كنيتي مع أني لا أعرفهم أو لمجرد وجود أسماء تتشابه مع أسمائهم في هاتفي الجوال، أتمنى أن يخيب حدسي هذا وأن يترفع المعنيون بالأمر عن الانتقام ممن ليس لهم لا ناقة ولا جمل في الموضوع.