1 يونيه 2004
منير شحود

استمع المواطن السوري, ولا يستمتع, بتصريحات سياسييه الأفذاذ, ومساعديهم من المحللين المغرورين, الذين ينكِّهون الأحداث والمستجدات بمزيد من الأوهام والآمال, لدرجة نحتار معها كيف نستجيب, بالفكاهة أم بندب حظنا العاثر, الذي جعل مثل هؤلاء يتحكمون في حياتنا ويتحدثون باسمنا.
لا يقتصر الأمر في ذلك على سياسيي السلطة, بل نجد معارضين أيضا ينخرطون في تسويق مثل هذه السياسات غير العقلانية.

منذ أشهر ونحن نسمع التصريحات والتصريحات المعاكسة أو المسحوبة, لدرجة صرنا نعتقد من خلالها أننا نلج عصر الديمقراطية, بيد أنها ليست سوى ديمقراطية الرأي الواحد الذي فقد ثباته, فطاش يتخبط في كيفية التعبير عن المواقف, وقد وجد نفسه هذه المرة محشورا في زاوية ما انفكت تضيق تدريجيا, فأهاله أن تتزعزع الثوابت التي عاش في كنفها قرير العين هانيها, ليس لاستتباب العدالة, كما وصَّف الشاعر عهد الخليفة عمر ابن الخطاب, إنما للتوازنات التي استطاع إتقانها في كنف الحرب الباردة وما استجد من بعدها, فاسترخى غافيا في عسل الامتيازات اللامحدودة, والمزخرفة بالشعارات المناضلة العملاقة!.

وبخصوص ما حدث في حي المزة بدمشق, أو أحداث القامشلي قبلها, ظهر فطاحل التحليل السياسي التآمري بربطات أعناقهم الزاهية والفاقعة اللون ( تنسجم ربطات العنق هذه من الناحية النفسية مع فقاعية الادعاءات الوطنية, والتي قد نتحدث عن دلالاتها في مقال آخر) على شاشات الفضائيات, أو على منابر أخرى, ليلقوا باللائمة على العناصر الخارجية المتآمرة التي اندست في الشقوق المجهارية للوحدة الوطنية العتيدة, وفعلت ما فعلت! بيد أن الرئيس, كما قال أحد الكتاب بحق, وجَّه “صفعة داخلية” قوية إلى أمثال هؤلاء التآمريين, عندما أكد أن لا علاقة للحدثين الأخيرين بالخارج, وأنهما من منشأ داخلي فحسب!.

وجاء التلويح بالعقوبات الأميركية, ومن ثم تطبيقها لاحقا, ليحمل معه تصريحات لا مسؤولة أخرى تتمحور حول عدم فعالية العقوبات على سوريا.. قلعة الصمود والتصدي!, هذه العقوبات التي ستضر بالاقتصاد الأميركي (كذا..!) والشركات الأميركية النفطية المعتاشة على اقتصادنا العملاق! مع العلم أن تطبيق العقوبات تزامن بسحب بعض التصريحات الديكية, بعد أن ظهر بالملموس أن الواقع مختلف عما يراه ويدركه قصيرو النظر هؤلاء.

ويصل التفكيه والتنكيه إلى مداه الأقصى, عندما يطالب بعض سياسييـ”نا”, وياللعجب, بالحديث عن استبدال بالتحديث والتطوير كلمة الإصلاح, وذلك في البيان الصادر عن الجامعة العربية, على خواء ما يتوقع إنجازه من هذه المؤسسة المتهالكة.
ألهذه الدرجة صارت اللغة العربية لماحة وفواحة بالمدلولات التي تميط اللثام عن المخاوف والنوايا؟ ألا يحق لنا, بناء على ذلك, استخدام مصطلح التفكيه والتنكيه, عوضا عن التحديث والتطوير, طالما أن الأمر يتعلق بالاختباء وراء الكلمات؟!.

وللديمقراطية عندنا نكهتها الخاصة, بحيث يجدر بها (مشكورة) أن تتلاءم مع نظامنا الشمولي وتتخلى عن المزاعم المتعلقة بالانتخابات الحرة وتداول السلطة, وتقبل بالواقع الراهن والثابت الذي تتحقق من خلاله مصالح النخبة الحاكمة والمتحكمة, وإلا فإنها ستعتبر من الأفكار الغريبة الهدامة, التي تهدف للإطاحة بتاريخنا الأبوي, وحاضرنا غير الراشد!.

إن عقم الآلية السياسية التي تدار بها الأمور في بلدنا صار بيِّنا, ويستلزم وقفة وتمعنا وتبصرا بابتداع سبل الخروج من النفق السياسي الضيق, وفتح منافذ للهواء النقي, وضخ دم وطني جديد في ثنايا الركود المزمن.
وهذا لن يكون باستمرار الحزب الواحد كقائد للدولة والمجتمع, ومن يتعايشون في كنفه من بقايا الأحزاب التي أكل الدهر عليها وشرب, واعتقال الناشطين وزجهم في السجون, واستمرار العمل والتخويف بقانون الطوارئ والمحاكم الاستثنائية, واستخدام منجزات وأساليب الديمقراطية المركزية, التي أصبحت من الماضي السياسي في العصر الراهن… إنما بتفعيل الركود الاجتماعي, وفتح صفحة جديدة وشجاعة في التعامل مع مواطنين, وليس رعية أو جمهور. وستكون مخاطر مثل هذا التحول أقل بما لا يقاس من المخاطر المتأتية عن تدخل الخارج بصورته السافرة, هذا التدخل الذي يمهد له الطبالون والمداحون وأصحاب نظرية “الوطن بألف خير”.
أقول ذلك وكلي خوف من أن يتحقق الأسوأ؛ بسبب قصر النظر الفاقع, وتحكُّم حراس المصالح الخاصة بمصيرنا ومقدرات حياتنا.

للمراسلة :
info@cdf-syria.org