12/2/2005

حيان نيوف
لا يريدون قانون أحزاب أو إلغاء الطوارئ بل لقمة عيش حيان نيوف من دمشق: وسط تنامي الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية، ومطالبة قوى سياسية معارضة وتجمعات أهلية بإلغاء قانون الطوارئ وإصدار قانون جديد للأحزاب ؛ يهمل المراقبون حكاية شريحة كبيرة من السوريين لا تطالب بقانون أحزاب ولا بإلغاء الطوارئ وإنما تطالب بمجرد ” قرص فلافل ” أو ” ساندويتش بالزعتر والزيت ” في نهاية اليوم تسد رمقها. إنها شريحة أطفال سوريين وجدوا أنفسهم يطرقون الأبواب ليتحولوا إلى ” متسولين محترفين ” أو بائعين جوالين سرّبهم الجوع والفقر من المدارس أو أخذتهم الظروف الاجتماعية المحيطة والمعاناة إلى السجون و مراكز الأحداث.

المعارض وماسح الأحذية..
في إحدى شوارع دمشق تَوزّع بعض الأطفال ليعملوا في مهنتهم اليومية ” ماسحي أحذية ” ( بويجي بالعامية السورية ). وكانت لقطة نادرة جدا أن يكون أحد هؤلاء الأطفال يعمل بجهد بفرشاته جيئة وذهابا على حذاء زبون لا يمكن وصفه إلا بأنه أحد المعارضين السوريين وهو من المطالبين باحترام حقوق الإنسان. واستمر هذا المعارض واضعا حذاءه أمام الطفل حتى أخذ يلمع حذاؤه فرمى للطفل قطعة نقدية ومشى دون كلمة واحدة. وفي هذا المشهد الدرامي المتفجّر، سوف يصعب إلقاء العتب على الحكومة السورية بما يخص أوضاع الأطفال في حين أن بعض دعاة الديمقراطية يجدون متعة بالغة في الطلب إلى هؤلاء الأطفال مسح أحذيتهم.

طلاق وفقر يشرّد الأطفال
هؤلاء الأطفال، الذين يمسحون الأحذية لكسب عيشهم، أوصلتهم ظروف عائلية إلى هذه الحالة. ومن العوامل الكثيرة التي تأخذ هؤلاء الأطفال إلى هذا العمل الفقر وطلاق الزوجين.
بعض الأسر السورية مكونة من أفراد كثيرين مع وجود دخل محدود لرب الأسرة وهذا ما يدفعه إلى الإلقاء ببعض أبنائه إلى سوق العمل.
بعضهم يترك المدرسة ويفضّل الحصول على مائة ليرة في اليوم مقابل عدم الذهاب للمدرسة. وبعضهم يتابع تحصيله العلمي ويوجد أطباء وجامعيون كثر في سورية درسوا نهارا و عملوا ليلا عمال نظافة !.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الأطفال، وأثناء وجودهم في سوق العمل تلك، قد يتأثر ” برفاق سوء ” لتنتهي به الأمور إلى مراكز الأحداث والتي هي الأخرى ” ليست جنة ” كما بينت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في سورية في تقرير قريب لها.

تشرّدوا حتى في مراكز رعايتهم !
قالت المنظمة العربية لحقوق الإنسان فرع سورية، في تقرير وصلت شبكة ” إيلاف ” الإخبارية نسخة منه، إنها تلقت شكاوى من بعض المواطنين حول معاملة الأحداث الجانحين. وذكرت المنظمة بعض الأمثلة على معاملة هؤلاء الأحداث، ومنها : ” مراكز الملاحظة التي أنشأتها وزارة الشؤون الاجتماعية في معظم المحافظات للتوقيف الاحتياطي تفتقر للتجهيزات و الأخصائيين الاجتماعيين مما جعل الأحداث فيها يتعرضون للمضايقات والاعتداءات البدنيّة وغيرها، وتعرض الأحداث للعنف والتعذيب، إضافة إلى أن معاهد إصلاح الأحداث موجودة في دمشق وحلب فقط، وهي غير قادرة على استيعاب جميع الأحداث الموقوفين في سوريّة”.

وطالبت المنظمة السورية، وهي جمعية غير مرخصة ؛ بإنشاء معاهد لرعاية الأحداث في جميع المحافظات السوريّة، توزيع الأحداث الجانحين وفقا لفئات عمرية متقاربة، وضع معايير وشروط خاصة للعاملين في هذه المعاهد، وتشكيل لجان متخصصة لمراقبة هذه المعاهد والتفتيش عليها، و السماح لجمعيات حقوق الإنسان، والجمعيات الأهليّة المهتمّة بالأحداث بزيارة معاهد إصلاح الأحداث، وتقديم ملاحظاتها لوزارتي الشؤون الاجتماعية والعدل ولمديري هذه المعاهد.

المعاناة تدفع لإتقان فن التسوّل ويعمل هؤلاء الأطفال، الذي أصيبوا بنقمة الفقر أو الظروف الاجتماعية السيئة، بأعمال مختلفة. بعضهم يبيع الصحف والعلكة، والبعض يبيع أدوات بلاستيكية متنقلا بين الحارات الشعبية ومن منزل إلى منزل. وقسم كبير من هؤلاء ذهب إلى “مهنة” مسح الأحذية. إلا أن بعض الأطفال قرر الابتعاد عن العمل والاكتفاء بالتسول وله أنواعه أيضا من التسول عبر طرق الأبواب كل يوم إلى التسول أمام المصارف التجارية والمحلات التجارية. هذا الطفل أو ذاك أتقن فن طلب النقود، وهو يصرخ في إحدى الشوارع السورية، وبأعلى صوته : من مال الله يا محسنين…

صفقة بطاطا للأوروبيين أفضل من حقوق الطفل !
أعضاء الاتحاد الأوروبي، الذين سبق لهم أن قدموا إلى سورية بزيارات عمل، نزلوا في فنادق فخمة وناقشوا الشراكة مع سورية في صالات مضيئة ومنيرة وفخمة ثم سافروا دون جولة واحدة في الشوارع السورية ليتعرفوا على قصة ماسحي الأحذية. إن هذا الإهمال الأوروبي أيضا لمعاناة هؤلاء الأطفال يذكّر بأن الاتحاد الأوروبي ما زال مهتما بعلاقات تجارية واقتصادية مع سورية، وربما استيراد الطماطم والبطاطا، أكثر مما هو مهتم بحقوق الطفل.

مشهد كوميدي : مجلس الشعب يكافح التسول.. وكيف ؟!
ينقص هذه القصة التراجيدية مشهد كوميدي. مؤخرا، وفي مبادرة من مجلس الشعب السوري لمكافحة التسول، قامت اللجنة المشكلة من مجلس الشعب لدراسة ظاهرة التسول فى دمشق، قامت بزيارة إلى معهد تأهيل وتشغيل المتسولين التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. وتفيد وكالة الأنباء السورية ” سانا ” أن اللجنة زارت ” مهاجع إقامة المتسولين واطلعت على أحوالهم والظروف التى دفعتهم لمخالفة القوانين وممارسة التسول كما اطلعت على الدور الذي يقوم به المعهد في توفير وسائل تعليم الحرف للمتسولات من خياطة وحياكة وسواها”. ونقل في حينها عن لجنة مكافحة التسول في مجلس الشعب السوري أنه ” توضح وبشكل طبيعي مسؤولية المجتمع حيال هذه الظاهرة والمخاطر الأمنية على المجتمع والتي تشكل ظاهرة التسول والتي لا تقل عن الأخطار الاجتماعية ” !.

جاءت هذه الخطوة في الوقت الذي كان فيه أعضاء مجلس الشعب يصوتون على منع العامل من اللجوء إلى القضاء في حال فصله من عمله وذلك وفق المادة 137، إلا أن الرئيس الأسد أعاد مشروع المرسوم وقد نص على منح العامل هذا الحق. ولم يطرح أحد في مجلس الشعب، في وقتها، أن هذا العامل المسرّح من عمله بلا أسباب له عائلة وأطفال سوف يتشردون جميعا.

وظاهرة التسول في سورية ليست ظاهرة عادية برزت بين ليلة وضحاها، وإنما لها ظروفها الاقتصادية والاجتماعية وحتى العائلية التي بلورتها وأبرزتها إلى العلن. والمتسول في غالب الأحيان هو إنسان درويش طيب ومسكين لم يضع في ” حساباته التسولية ” أن يخالف قوانين بلاده ؛ فهو ضحية ظروف اجتماعية وعائلية واقتصادية رمت به إلى الشارع دون أن يجد منقذا، فعلّمه الدهر مهنة ” الدق على الأبواب ” أو الجلوس صامتا على الأرصفة فاتحا يديه من أجل بضع ليرات أو علبة زيت يسد بها جوعه وحرمانه.

هكذا تستمر شريحة كبيرة من الأطفال السوريين في العمل بأعمال مختلفة، ودون اكتراث لمعنى صدور قانون أحزاب أو تنظيم مظاهرة، طالما أن قانون الأحزاب أو المظاهرة لن يأتيا بقرص الفلافل أو ساندويتش بالزيت و الزعتر لهم في نهاية اليوم ؛ حيث يرجعون من نهار تسولي إلى غرفهم الصغيرة لتجتاحهم قطعان من الأحلام المكتظة بالبؤس البارد والمستقبل المجهول.