دمشق ، 29 آب / أغسطس 2004
أعلن الرئيس اللبناني إيميل لحود قبل ثلاثة أيام رسميا أنه مرشح للانتخابات الرئاسية اللبنانية .
وجاء إعلانه هذا مباشرة بعد زيارة مفاجئة لوزير الخارجية السوري إلى بيروت لم يعلن عن أهدافها الحقيقية .
إلا أن إعلان الرئيس اللبناني ترشيحه عقب انتهاء زيارة الوزير الشرع مباشرة ، يؤكد ضمنا أن قيادة النظام السوري قد حسمت أمرها لجهة فرض مرشحها إيميل لحود ، وبالتالي إرغام البرلمان اللبناني على تعديل الدستور من أجل تمديد ولاية الرئيس الحالي لثلاث سنوات أخرى ، وهو ما بات بحكم المؤكد بعد قرار الحكومة اللبنانية اليوم إعداد مشروع قانون وإرساله إلى البرلمان بهدف تعديل المادة 49 من الدستور .
وجاء هذا التطور الأخير بعد زيارة قام بها رئيس الوزراء رفيق الحريري إلى دمشق تخللتها محادثات متوترة مع الرئيس السوري ، وبعد استدعائه يوم أمس ليلا ، بطريقة مهينة ومذلة ، من قبل رئيس جهاز الأمن والاستطلاع السوري في لبنان ، العميد رستم الغزالي ، الذي أبلغه خلاها إملاء حاسما من دمشق ينطوي على تهديد مبطن ويضعه بين خيارين لا ثالث لهما : إما أن يستقيل أو يدعو إلى عقد جلسة استثنائية لمجلس الوزراء اليوم من أجل صياغة مشروع قانون وإرساله إلى مجلس النواب لتعديل المادة المذكورة .
وقد اختار الرئيس الحريري مصالحه الأنانية الضيقة ، حيث تراجع في الحال عن معارضته تعديل الدستور ، ودعا إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء في ساعة مبكرة من صباح اليوم أقرت مشروع القانون المطلوب ! وقد وصف مراقبون الطريقة التي استدعي بها رفيق الحريري إلى مقر المخابرات السورية في عنجر بأنها ” لا تليق حتى بسارقي الدجاج الذين يستدعون للتحقيق من قبل رؤساء مخافر الشرطة ” !
ومن الملاحظ أن التطور الأخير قد جاء قبل مضي يوم واحد على بيان ” البيت الأبيض ” الذي أعلن بلغة حاسمة وواضحة “أن لبنان يجب أن يكون خاليا من جميع القوات الأجنبية ومتقيدا بدستوره الذي يمنع رئيس الجمهورية من ترشيح نفسه لفترة رئاسية ثانية “. كما أنه جاء بعد يومين من تصريح الناطق باسم الخارجية الأميركية آدم إيرلي الذي أكد على أن ” الولايات المتحدة تدعم بقوة إجراء انتخابات حرة ونزيهة في لبنان. الأمر الذي يعني انتخابات تجري وفقا للدستور اللبناني المعتمد. وهذا الدستور يشترط قيام البرلمان باختيار رئيس جديد كل ست سنوات ” ، وبعد يوم واحد من انضمام فرنسا الديغولية ، البلد الأكثر تواطؤا مع النظام السوري ودعما له في أوربا ، إلى هذا الموقف ، معلنة في بيان لخارجيتها أن :” الانتخابات الرئاسية القادمة (في لبنان) يجب أن تجري في إطار الاحترام الدقيق للدستور اللبناني الذي ينص على انتخاب البرلمان رئيسا جديدا مرة كل ست سنوات” ، مضيفا” إن من
الضروري أن تجري هذه الانتخابات مع احترام كامل لسيادة لبنان واستقلاله”. وحمل تصريح وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر في بيروت أول أمس موقفا مشابها . وكان وفد ” المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية ” قد سمع كلاما على المستوى نفسه من القوة والحسم من مسؤولين كبار في الخارجية البريطانية خلال زيارته الرسمية للندن في السادس عشر والسابع عشر من الشهر الجاري .
إضافة لذلك ، أعلنت القيادات الروحية اللبنانية ، المسيحية والإسلامية ، فضلا عن قوى سياسية أخرى ( بعضها محسوب على النظام السوري وأجهزة مخابراته )، مواقف مطابقة لما تقدم ، ولو أن تصحيحا للبيان المشترك الصادر عن اللقاء السني ـ الشيعي قد جرى إعلانه بعد ضغوط عاجلة وردت من دمشق ، وفق ما ذكرته وسائل إعلام لبنانية عديدة .
يتضح مما سبق أن ثمة إجماعا داخليا وخارجيا على وجوب احترام الدستور اللبناني وعدم تكرار مهزلة التمديد للرئيس السابق الياس الهراوي ، ومهزلة تعديل الدستور السوري التي جاءت بالرئيس بشار الأسد وريثا للعرش الجمهوري خلال ربع ساعة ، وأن الطغمة الحاكمة في دمشق ، وزبانيتها في لبنان ، هما الجهتان الوحيدتان المصرتان على تخريب ما تبقى من إرث ديمقراطي في بلد الأرز، على هزاله ، وتحويل البرلمان اللبناني إلى نسخة كربونية عن ” مجلس الشعب ” السوري !
من حيث المبدأ ليس من حقنا كمنظمة سورية التدخل ، جريا على عادة حكامنا ، في الشأن اللبناني الداخلي ومناقشة قضية تمس جوهر السيادة اللبنانية والقرار الحر والمستقل للشعب اللبناني الشقيق . إلا أن الوضع الخاص للعلاقات بين البلدين ، والحالة الشاذة وغير الطبيعية التي تعيشها هذه العلاقات منذ العام 1976 ، وبشكل خاص وجود حوالي عشرين ألف من قواتنا المسلحة وعناصر مخابرات النظام التي تعيث فسادا وتخريبا وقمعا ، باسم الشعب السوري (؟!) ، في لبنان ، وتلجأ إلى ممارسات قوة احتلالية غاصبة ، يحتم علينا كمواطنين سوريين ، وكمنظمات أهلية ، أن نرفع صوتنا بقوة لاستنكار ما يجري وإعلان رفضه ، ليس لأنه لا يمثلنا وحسب ، وليس لأنه يشكل اعتداء سافرا على ما تبقى من الحياة الديمقراطية اللبنانية وخرقا لقرار مجلس الأمن رقم 520 فقط ، بل لأنه ـ فوق هذا وذاك ـ يتم باسم الشعب السوري وباسم ” علاقات الأخوة ” ، ويزيد في تعميق الجروح التي أنزلتها ممارسات الطغمة الحاكمة في بلادنا وزبائنها اللبنانيون في جسد هذه العلاقات . ومن المؤكد أن استمرار تغييب المئات من الأشقاء اللبنانيين في غياهب الأقبية والمعتقلات السورية ، المجهول منها والمعلوم ، منذ سنوات طويلة، والتكتم على مصائرهم ، ليس آخر هذه الجروح ، وإن يكن أوسعها وأكثرها صعوبة في الإندمال !
إن تعنت الطغمة الحاكمة في سورية ، وإصرارها على المضي في حماقتها وركوب رأسها والضرب عرض الحائط بالرأي العام اللبناني والدولي ، وتحدي جميع المواقف المعبرة عن هذا الرأي ، واحتقار مشاعر أشقائنا على هذا النحو الفاجر ، ليس له سوى تفسير واحد من اثنين : فإما أن حكام دمشق قد حسموا أمرهم نهائيا وقرروا اللجوء إلى سياسة حافة الهاوية ، بهدف رفع سعرهم في بورصة أنظمة الشرق الأوسط ورفع ثمن المطالب التي ينتظر الأوربيون والأميركيون منهم تنفيذها ، وإما أن هؤلاء الحكام قد أخذوا بالفعل ضوءا أخضر ” من تحت الطاولة ” للقيام بذلك . وهو ما يمكن أن يفسر هذه الغطرسة التي تفتقر لأي عنصر من عناصر القوة الذاتية التي تبررها . فالوحدة الوطنية في أسوأ حالاتها منذ عدة عقود ، والجيش ـ بشهادة جميع الخبراء ـ لا يستطيع القتال أكثر من ثلاثة أيام ، والصراع المكلوب على أشلاء الدولة ، بين أجنحة السلطة ومافياتها ، لا سابق له في حدته منذ العام 1984 !!
إن التفسير الأول يعني أن الطغمة الحاكمة قد قررت اللجوء إلى مواجهة مجنونة مع العالم ، ووضع مصير البلاد والعباد على كف عفريت دفاعا عن مصالح حفنة من اللصوص ولوردات الاقتصاد الأسود ، الذين لا يرون في لبنان إلا بقرة حلوبا لهم ولزبانيتهم في الطبقة السياسية اللبنانية المتعفنة التي ولدت في ركاب أجهزتهم الأمنية وممارساتها المافيوية . وهو ما يذكر بموقف أحمق بغداد عشية الإجهاز على نظامه الدموي من قبل التحالف الدولي .
أما التفسير الثاني ، فلا يقود إلا إلى الاعتقاد بأن إعلان استانبول الصادر عن القمة الأطلسية الأخيرة بشأن دمقرطة الشرق الأوسط ، وهو الإعلان الذي جاء على قاعدة ” مشروع الشرق الأوسط الكبير ، لم يكن أكثر من مسرحية سياسية مبتذلة ورخيصة لابتزاز حكام المنطقة وجعلهم أكثر تعاونا في مجال مكافحة الإرهاب الذي ولد وترعرع في دهاليز أجهزتهم الأمنية . وإذا لم يكن الأمر كذلك ، فإن أصحاب ” إعلان استانبول ” مطالبون بإثبات مصداقيتهم التي تتعرض لامتحان لا سابق له منذ صدور إعلانهم المذكور . وذلك باللجوء الفوري إلى مجلس الأمن ومؤسسات الشرعية الدولية الأخرى لإرغام النظام السوري على تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 520 وسحب قواته من لبنان ورفع أيديه عن مقدرات هذا البلد بعد انتفاء أي ” مبرر استراتيجي ” مزعوم لتواجدها على الأرض اللبنانية، باعتراف الرئيس السوري نفسه . والواقع ، إنه من العسير على أي مواطن في الشرق الأوسط أن يتفهم أو يقبل حديثا من العالم الحر عن دمقرطة الشرق الأوسط ، في الوقت الذي يسمح فيه لطغمة من اللصوص وتجار المخدرات وغاسلي الأموال القذرة بفرض رئيس على هذا الشعب رغم أنفه !
إن المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية ، وإذ يدعو موقعي ” إعلان استانبول ” إلى إثبات مصداقية إعلانهم ، يطالب جميع قوى الديمقراطية والمجتمع المدني في سورية برفع صوتها عاليا في مواجهة هذه المهزلة ، رفضا لها وتأكيدا على أن الشعب السوري براء من كل ما يجري من اعتداء باسمه ضد أشقائه وكرامتهم . وهذا هو الحد الأدنى المطلوب كيلا يسجلنا التاريخ في قائمة المتواطئين على قمع وإذلال واضطهاد شعب آخر !