21/4/2005

في السابع عشر من الشهر الماضي ، وفي إطار حملة ” العلاقات العامة ” التي تقوم بها منذ عدة أشهر للخروج من العزلة الخانقة التي تحاصر نظامها، أرسلت السلطات السورية تعليمات لبعثاتها الديبلوماسية والقنصلية في الخارج لمنح جوازات سفر للمنفيين صالحة لمدة عامين . وقد أرفقت هذه التعليمات برسالة رسمية أخرى ( نشرها عدد من الصحف العربية ومواقع الإنترنت) تتضمن شروحا لطريقة تنفيذ هذه التعليمات .

وكان يكفي ملاحظة وجود اسم إحدى الجهات التي أرسلت إليها ” رسالة الشروحات ” هذه ، لمعرفة الطابع المسرحي لهذه الخطوة الاستعراضية . ففي أسفل هذه الرسالة الرسمية ذكرت وزارة الخارجية السورية أن إحدى الجهات الرسمية التي أرسلت لها نسخة من التعميم والشرح هي ” الرفيق رئيس مكتب الأمن القومي ” ( اللواء محمد سعيد بخيتان ) . ومن المعلوم أن هذا المكتب هو أحد مكاتب القيادة القطرية لحزب البعث .

والأهم من ذلك أنه ” القيادة السياسية العليا لأجهزة المخابرات وأركان الجيش ” .
الأمر الذي يعني ضمنا أن أجهزة المخابرات هي المعني الأول والأخير بتحديد شكل تنفيذ هذه التعليمات واختيار نوع ” الغرابيل” و ” الفلاتر” التي ستجري بواسطتها غربلة وفلترة من يحق له الحصول على هذه ” المكرمة المخابراتية ” وبأي شروط ، ومن سيتم حرمانه منها بسبب مخالفته هذه الشروط … غير المعلنة ، لكن المفهومة جدا للجميع !

ومع ذلك ، ورغم مرور أكثر من شهر على صدور هذه التعليمات والضجيج الإعلامي الذي رافقها والطبول التي استقبلت بها حتى من قبل بعض أوساط المعارضة ، فقد لزم ” المجلس ” الصمت ولم يصدر أي تعقيب على هذا ” التوجه ” ، منتظرا اتضاح الصورة بشكل أفضل .

وخلال تلك الفترة طلب ” المجلس ” من أعضائه وبعض أصدقائه الموجودين في الخارج ، ممن يندرجون في خانة المنفيين ” طوعا ” أو قسرا ، التوجه إلى البعثات القنصلية السورية في البلدان التي يقيمون فيها ، والمطالبة بجواز سفر في إطار ما تم الإعلان عنه ، مع معرفته اليقينية منذ البداية بالطابع التضليلي والابتزازي لهذا التوجه السلطوي.

ورغم أن جميع البعثات القنصلية التي توجه إليها الزملاء والأصدقاء رفضت التجاوب مع الزملاء والأصدقاء ، تقضي الأمانة أن نشير إلى أن شكل الرفض تراوح ما بين الرد المهذب والاعتذار ” لأسباب خارجة عن إرادة ” الموظف المعني ( كما حصل مع الزميل المحامي جورج سارة في قبرص )، والشتم الذي ينطوي على عبارات بذيئة ( كما حصل مع الزميلة ناديا قصّار في روما حين كانت تحاول الحصول على جواز لها ولطفليها ، أو في باريس حين ذهبت بوكالة من الزميل نزار نيوف الذي كان وقتها في المشفى بسبب فحوصاته الدورية الربعية ) .

وفيما يلي ملخص لوقائع ما جرى مع الزملاء :

أولا ـ قضية الزميل المحامي جورج سارة :

يقيم الزميل جورج سارة في قبرص منذ العام 1984 ، ويحمل الجنسية القبرصية منذ العام 1995 ، فيما تحمل زوجته ( الزميلة ناديا قصّار دبج ) وطفلاهما الجنسية الإيطالية .

وقد توجه إلى القسم القنصلي في السفارة السورية بقبرص بتاريخ 24 من الشهر الماضي ، حاملا معه كافة الأوراق الثبوتية المطلوبة ، وطلب الحصول على جواز سفر بحسب التعليمات الجديدة .

إلا أن الموظف اعتذر عن استلام الأوراق بدعوى ” أن التعليمات الواردة من السلطات المختصة صنفته مع المستثنين من إمكانية الحصول على جواز سفر ” . وأبدى الموظف اعتذاره لعدم تمكنه من مساعدته في هذا الأمر .

ثانيا ـ قضية الزميلة ناديا قصار (دبج) :

تقيم الزميلة ناديا قصّار في إيطاليا منذ العام 1977 ، وتحمل الجنسية الإيطالية منذ ذلك الحين . كما ويحمل طفلاها ( ” عمر” و ” جورج” ) الجنسية ذاتها .

في ضحى يوم الخميس 31 آذار / مارس الماضي اتصلت بالسفارة السورية في روما ، وتم ربطها بالموظف القنصلي المعني ، بناء على طلبها .
وحين عرفت عن نفسها وسألت عن الأوراق الثبوتية المطلوبة للحصول على جواز سفر لها ولطفليها حسب التعليمات الجديدة ، وقبل أن تكمل حديثها ، أغلق الموظف خط الهاتف في وجهها .

ولمّا اعتقدت أن الخط فصل بسبب مشكلة تقنية ، عاودت الاتصال وتم ربطها بالموظف القنصلي نفسه .
إلا أن هذا ، وما إن كررت التعريف بنفسها والاعتذار عن انقطاع الاتصال في المرة الأولى ، حتى صرخ بوجهها وحذرها من إمكانية الاتصال مرة أخرى لأنها ” ستسمع كلاما لا يسرّ خاطرها ” ، مضيفا القول : ” فهمي منيح ، ما إلك جواز سفر عنا ” !

ثالثا ـ قضية الزميل السابق والصديق نزار نيوف :

يقيم الزميل نزار نيوف في فرنسا منذ 15 تموز / يوليو 2001 حين جاء بقصد العلاج ، مدعوا من قبل رئيس الحكومة الفرنسية الاشتراكية السابقة ليونيل جوسبان ومنظمة ” صحفيون بلا حدود ” .

وفي تشرين الأول / أكتوبر 2002 ، وبينما كان يتأهب للعودة إلى سورية ، نصحته السلطات الفرنسية بعدم العودة لأن ” إجراء انتقاميا خطيرا سيكون بانتظاره بسبب تجاوزه جميع الخطوط الحمر ” .

وقد منح لجوءا سياسيا بشكل أقرب ما يكون إلى الشكل ” الإجباري ” ، رغم أنه كان رفض اللجوء سابقا واكتفى بتمديد رخصة الإقامة بصفة ” زائر ” لمدة عام . وقد تبين لاحقا أن ” إرغامه ” على الحصول على لجوء سياسي قد تم بموجب اتفاق بين الحكومة الديغولية ( بعد هزيمة الحزب الاشتراكي في الانتخابات) والسلطات السورية .

في يوم الثلاثاء ، 22 آذار / مارس الماضي ، اتصلت زوجته السيدة انتصار العزيزي بالسفارة السورية في باريس وعرفت عن نفسها ، وأخبرت الموظف بأنها تريد جواز سفر لزوجها اللاجىء السياسي نزار نيوف .

كما وطلبت منه أن يوضح لها ماهية الأوراق المطلوبة ، فشرح لها الأمر بطريقة عادية لا يشتمّ منها أي عدوانية .
وحين أخبرته بأن زوجها فقد جواز سفره السوري وأن هناك ضبطا صادرا عن الشرطة الفرنسية يثبت ذلك ، أخبرها بأنه يمكن إحضار صورة عنه إذا توفرت ، أو صورة عن ضبط الشرطة ، أو أي وثيقة أخرى تثبت شخصيته ، مع بقية الأوراق الأخرى .

مشيرا في الآن نفسه إلى ” أن السفارة لا تستطيع منحه جواز سفر مباشرة ، وأنها سترسل الأوراق إلى الجهات المعنية في دمشق ، وهي التي تقرر ” .

وفي يوم الثلاثاء 5 نيسان / أبريل الجاري ، وبحكم تصادف وجودها في باريس لمراجعة النسخة التجريبية من كتاب نزار نيوف الذي ترجمته إلى الإيطالية مؤخرا ، توجهت الزميلة ناديا قصّار إلى السفارة السورية في باريس حاملة معها الأوراق المطلوبة الخاصة بنزار الذي كان موجودا في المشفى لإجراء فحوص دورية يجريها كل أربعة أشهر بشأن إصابته السابقة بلومفوما الدم .

وقد تقرر ذهاب الزميلة ناديا إلى السفارة لأن نزار منع زوجته من الذهاب إلى هناك . وحين وصلت إلى مدخل السفارة وعرفت عن نفسها ، وأوضحت الغرض من زيارتها ، قام موظف الاسقبال بالاتصال مع شخص ما داخل السفارة ، والذي طلب بدوره التحدث مع الزميلة ناديا .

وقبل أن تكمل الزميلة تعريفها بنفسها وشرح الغاية من زيارتها ، قاطعها الموظف بالقول ، وبلغة بذيئة ” قولي لهدا الكلب صاحبك ( نزار ) أنو شارون ممكن ياخد جواز سفر سوري ، أما هو فلا يحلم ” ! ومن المعلوم أن أمرا بإعادة اعتقال نيوف كان قد صدر بتاريخ 7 أيلول / سبتمبر 2001 في إطار حملة الاعتقالات التي طالت ما بات يعرف باسم ” معتقلي ربيع دمشق ” .

وذلك بتهمة ” الإساءة لسمعة البلاد في الخارج ، والعمل على تخريب الاقتصاد الوطني ( بسبب فضحه لقضية دفن النفايات النووية في البادية السورية من قبل جمال خدام ووالده نائب الرئيس ) ، ونشر معلومات كاذبة عن انتهاكات مزعومة لحقوق الإنسان ” ، وفق ما جاء في تصريح أدلى به في حينه محاميه أنور البني لصحيفة ” الحياة ” الصادرة في لندن .

رابعا ـ قضية الزميل مازن ياغي :

بقيم مازن ياغي ويعمل منذ أربع سنوات في مدريد التي وصلها هاربا من سورية بعد ملاحقته أمنيا على خلفية التحقيقات التي نشرها في صحيفة ” الجماهير ” الرسمية في حلب حول مقتل مواطنين تحت التعذيب في الأمن الجنائي ، وحول عمليات فساد تتصل برئيس جامعة حلب آنذاك الدكتور علي حورية ( عديل وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس ، وأحد مستشاريه لاحقا) .

وقد رفضت السفارة السورية في مدريد تجديد جواز سفره المنتهية صلاحيته منذ العام الماضي .
وعلمنا قبل قليل أن السفارة السورية في مدريد طردت الكاتب بالعدل الإسباني الذي حاول الحصول على توثيق رسمي من السفارة بأنها ترفض تجديد جواز سفر مازن ياغي ، كما وطردت مندوبة إحدى المنظمات التي التي حاولت القيام بالمهمة نفسها ، وأن منظمة ” صحفيون بلا حدود ” قد أرسلت كتابا رسميا للسلطات السورية بهذا الخصوص .
وسنقوم بنشر تفاصيل ذلك مع الوثائق فور وصولها إلينا .

يتضح من الوقائع الأربع المذكورة أعلاه، ومن وقائع مشابهة حصلت مع منفيين سوريين مقيمين في الأردن وفي أماكن أخرى ، أن قضية جوازات السفر ليست أكثر من مسرحية إعلامية أريد منها توجيه إيحاءات كاذبة للرأي العام بأن السلطة قررت حل قضية المنفيين .

ومن الملاحظ أن السلطة تحاول تجنيد بعض الأقلام الصحفية التي تفتقر للحس الإنساني ولأخلاقية المهنة لترويج هذا العرض المسرحي البليد ، لقناعتها الأكيدة أن لا أحد في العالم يصدق إعلامها.

وليس أدل على ذلك من التقرير الذي نشره اليوم مراسل صحيفة ” الحياة” في دمشق ، السيد ابراهيم حميدي ، والذي ادعى فيه ، وبمنتهى الحماقة والوقاحة ، أن عودة العقيد جاسم العلواني والفنان يوسف عبدلكي ” تطوي ملف المنفيين ” ، في الوقت الذي كان فيه الفنان عبد لكي نفسه يضع النقاط على الحروف ويؤكد أن ” أي شخص لم يحصل على جواز جديد ” .

ومن المعلوم أن عودة العقيد علواني كانت بترتيب خاص مع قيادة النظام ، فيما الفنان عبدلكي ـ بحسب مصادر في حزبه ـ كان حصل على جواز سفره منذ حوالي عامين في إطار تسوية عامة ، وليست فردية أو خاصة ، لأوضاع منتسبي حزب العمل الشيوعي المنفيين في الخارج .

وما عدا ذلك ، فإن جميع من عادوا إلى سورية وبلا استثناء عادوا عبر البوابة الأمنية . وبعضهم اقترن شرط عودته بالمشاركة في حملات التشهير التي تنظمها السلطة ضد بعض المعارضين ، سواء بأسمائهم الحقيقية ، أو بأسماء مستعارة ( كسلوى العلي و الدكتورة تهاني العربي وعلي العربي … إلى آخر قائمة الأشباح التي بات يعرفها الجميع ويعرف الاسم الحقيقي لصاحبها) !

الأخطر من ذلك ، وكما تفيد معلومات شبه رسمية ، أن السلطة أرادت من هذه المناورة ضرب عدة عصافير بحجر واحد فضلا عن قضية البروباجندا الإعلامية ، وهي استدراج أكبر قدر ممكن من المعارضين في الخارج إلى داخل البلاد ليكونوا تحت السيطرة ، والعمل على شق صفوف المعارضين من خلال السماح لبعضهم بالعودة وإبقاء بعضهم الآخر في المنفى ، وإثارة الشكوك فيما بين بعضهم البعض بالنظر لأن جميع من عاد ـ باستثناء حالة عبد لكي وعلواني ـ ومن سيعود في المستقبل بموجب هذا الإجراء الجديد ، ستكون عودته عبر البوابة الأمنية ، أي بوابة أجهزة المخابرات .

ولو كان النظام جادا فعلا في إغلاق ملف المنفيين إغلاقا تاما وسليما ، لكان أصدر على الفور قانونا ألغى بموجبه القانون الإجرامي رقم 49 الذي يقضي بإعدام جميع منتسبي جماعة ” الإخوان المسلمين ” ، وقانونا آخر يقضي بعودة الآخرين دون أية تبعات أمنية ، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن إصدار أي قانون في ما يسمى بـ ” مجلس الشعب ” السوري لا يحتاج لأكثر من عشر دقائق !

في السياق نفسه ، هناك تخوفات جدية لدى عدد واسع من المعارضين السوريين في الخارج على حياتهم فيما لو عادوا في ظل هذه الظروف .

وطبقا لمعلومات حصل عليها ” المجلس ” من مصادر أوربية ( فرنسية وبريطانية ) فإن سلطات هذين البلدين قد نصحت بالفعل عددا من المعارضين بعدم الوقوع في هذا الفخ السلطوي الجديد ، والعودة دون ضمانت واضحة تتعلق بحياتهم .

ذلك لأن احتمال تصفية عدد منهم ، بحوادث مدبرة ، فيما لو عادوا الآن ، هو أمر ” محتمل ووارد جدا ” .

وقد حرصت هذه المصادر على التذكير بأن العديد ممن عادوا في الماضي قد ذهبوا ضحية حوادث غامضة . ولعل أبرز واقعة من هذا النوع ـ حسب تلك المصادر ـ هي واقعة تصفية العضو القيادي في جماعة الإخوان المسلمين الدكتور غسان أبا زيد .

فقد عاد المذكور خلال سنوات التسعينيات الماضية بعد اجتماعه مع عدد من ضباط المخابرات في قبرص ( أبرزهم اللواء هشام بختيار ) ، وترتيبه لصفقة خاصة معهم قضت بتسليمه السلطة حوالي مئة زميل من زملائه المطلوبين ( بعضهم كان متخفيا في الداخل والبعض الآخر تم استدراجه من الخارج كما يجري اليوم ) ، مقابل منحه عضوية ” مجلس الشعب ” .

وبعد أن عاد وحصل على ما وعدوه به ، ومن ضمنها عضوية مجلس الشعب ، أقدموا على تصفيته بوساطة صهريج وقود سحق سيارته بينما كان متجها إلى منزله في محافظة درعا . وقد سجلت القضية ضد مجهول !

لذلك ، وبناء على المعطيات الواردة أعلاه ، فإن “المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية ” يهيب بجميع المعارضين في الخارج التحلي بأقصى درجات الحيطة ، والحذر من وقوعهم في حبائل سلطة ليس في سجلاتها سوى الغدر ، والامتناع عن العودة إلا في إطار حل شامل وواضح لقضية المنفيين يكون تحت رقابة الرأي العام العالمي ومنظماته الحقوقية .

وإلا فلن يكون لديهم ما سيقولونه في المستقبل سوى العبارة الشهيرة ” أكلت يوم أكل الثور الأبيض ” ! كما ويهيب ” المجلس ” بجميع الزملاء في المنظمات الحقوقية السورية ، وأحزاب المعارضة في الداخل والخارج ، ووسائل الإعلام ، التحلي بأقصى درجات الحيطة من جانبهم حين يتعاطون مع قضية عودة المنفيين وقضية ” جوازات السفر ” ، وتجنب الحديث عن عودة أي منفي إلا حين يكون أمرا واقعا وحاصلا بالفعل .

وإلا فإنهم سيتحولون ـ من حيث يدرون أو لا يدرون ـ إلى أدوات في حملة ” العلاقات العامة ” التي تقودها سلطة يائسة ومفلسة لم يبق لها ما تقتات عليه للخروج من عزلتها ومحنتها إلا المتاجرة بقضايا إنسانية على هذه الدرجة الكبيرة من الحساسية والخطورة !