5/6/2004
فايز سارة : السفير اعتدنا في سوريا، التفكير بالفترات التي يقضيها مواطنونا في السجون والمعتقلات والحديث عنها بطرائق عدة، فنقول، ان فلاناً قضى في الاعتقال ثلاثين عاماً دون محاكمة، وإن علاناً أمضى عقدين ونصف عقد من السنوات ضيفاً على السلطات متنقلاً بين فروع امن وسجون عدة بعد محاكمة أمام محكمة امن الدولة، وثمة من يقول، ان شخصاً ذهب لتناول فنجان قهوة لدى احد الفروع الأمنية، واستمرت ضيافته خمسة عشر عاماً، لم تبرد قهوته خلالها!
وبخلاف تلك الطرائق التي اعتدناها طوال أكثر من أربعين عاماً مضت في ظل حالة الطوارئ المعلنة، تذكرت انه ومع حلول الثامن عشر من ايار الحالي، مضى على اعتقال المحامي أكثم نعيسة رئيس لجان حقوق الانسان شهر وثلاثة ايام منذ ان تم استدعاؤه لدى احد الفروع الامنية في مدينة اللاذقية، حيث جرى احتجازه وتسييره الى دمشق، وبعدها احيل الى محكمة امن الدولة وجرى فيها التحقيق معه في تهم ثلاث، لا ارغب في تذكرها لانها ابعد من ان تلصق بأكثم نعيسة.
والتفكير بصورة مختلفة عما اعتدناه بالفترة التي مضت على اعتقال أكثم نعيسة، يتصل بثلاث نقاط اساسية، اولها ان العالم من حولنا تغير، فلم يعد العالم اليوم كما كان في الستينات وما تلاها وصولاً الى الثمانينات والتسعينات، والتي كانت فيها المواجهات السياسية في اقصى حدودها في المستويات المحلية والدولية، وكانت فيها حقوق الانسان اقل تداولاً، واقل مستوى في وعيها، بالتزامن مع محدودية العاملين والمهتمين فيها من الدول والمؤسسات والافراد.
النقطة الثانية، اننا كسوريين تغيرنا، فلم نعد كما كنا في العقود الاربعة الماضية، وهو تغيير لم يصب المواطنين فقط، بل اصاب نظامهم السياسي، كما اصاب جماعاتهم السياسية ومنظماتهم الاجتماعية والاهلية، كان بين تجلياته تطور وعيهم ومستوى ادراكهم لحياتهم، وما يحيط بها وبمستقبلهم، ويكفي في هذا مثال، ان السوريين وإن اختلفوا في تفاصيل وحيثيات الازمة التي تعيشها بلادهم، فهم متفقون على وجودها، كما هم متفقون على ضرورة تجاوزها، وان يكن بطرق متعددة.
النقطة الثالثة، التي تجعل الحديث مختلفاً في تناول موضوع الاعتقالات عن الفترة التي مضت، ان الحديث يتناول احد نشطاء حركة المجتمع المدني، وكادراً قيادياً في ميدان الدفاع عن حقوق الانسان. والصفتان بين حقائق كرس حضورها ووجودها الحراك الاجتماعي في سوريا خلال السنوات الماضية، وصارت بين الملامح الاساسية لصورة سوريا الراهنة.
لقد احدثت هذه النقاط الثلاث، تبدلاً في تفكير وحديث السوريين عن الفترات التي يقضيها مواطنوهم في السجون والمعتقلات، وباسثناء الحديث عن نشطاء المجتمع العشرة (الذين ما زال ثمانية منهم رهن الاعتقال)، صارت احاديث السوريين عن الاعتقال اقل قسوة، من مثال القول، ان كل المعتقلين تتم احالتهم الى المحاكمة، وإن كان بعضها استثنائيا وغير قانوني ومنها احالة اكثم نعيسة امام محكمة امن الدولة، كما يقال ان بعض المعتقلين يحاكمون طلقاء وهو ما جرى في محاكمات حلب، وهذا لم يكن يتم سابقاً، ويقال ايضاً ان الاحكام صارت اقل مما كانت حدة وزمناً، فلم تعد فيها احكام بالاعدام او احكام طويلة، ورغم اهمية هذه التبدلات، فانها ما زالت تفصيلية، لا تتناسب وطموحات السوريين الى تصفية ارث تظلله القسوة والارهاب في علاقة المواطنين بالدولة وجهازيها الامني والقضائي.
اكثم نعيسة واحد من السوريين الطامحين الى تصفية ارث القسوة والجبروت الطاغي، ولهذا اختار ان يكون في عداد الساعين من اجل حقوق الانسان، وقبل هذا كان أكثم نعيسة ساعياً من اجل حياة افضل للسوريين مستنداً الى رؤية ايديولوجية سياسية، تطرح العدالة الاجتماعية هدفاً لها، وفي الحالتين لقي أكثم نعيسة سجناً طويلاً استمر سنوات، امتدت في عقدي الثمانينات والتسعينات، كانت زهرة شبابه، كما هو حال عشرات آلاف السوريين من ابناء تلك المرحلة.
لان المرحلة تغيرت، ولان السوريين تغيروا، ولان أكثم نعيسة ذاته تغيير، فقد صارت فتره سجنه الجديد تحسب بالاشهر والايام، وما مضى منها صار كثيرا، ومثله كثير وكثير جداً الوقت الذي مضى على كل معتقلي الرأي السوريين والذين بات من الحق اطلاق سراحهم وعودتهم الى الحياة، التي لا ينبغي ان نستمر في هدر حقوقها، هو ماسعى اليه أكثم نعيسة والقابعون مثله خلف الابواب الموصدة والزنازين الرطبة.