29/5/2005
كما علا فجأة، خبا فجأة “الضجيج” الهائل الذي رافق منتدى “النساء في الأعمال”، فيما يعكس صورة حقيقية عن آلية تعاملنا مع قضايانا عموماً، والقضايا المتعلقة بالمرأة خصوصاً. آلية الاحتفالات التي تنتفض فجأة لتشيد وتمدح وتبرهج الأحداث، وتبقى على السطح دون أن تغوص في الأعماق. ثم لتنطفئ مع انطفاء أضواء القاعات!
وفي التغطية الإعلامية السورية كاملة، في الإذاعة والتلفاز والصحف، والتي أفردت مساحات واسعة للمنتدى، لا تجد دخولاً إلى العمق إلا فيما قل وندر. بل تركزت اللقاءات والمقابلات والأسئلة عموماً، إما على الدلالات السياسية لعقد هذه المنتدى في سورية في دورته الأولى خارج بريطانيا، أو الأسئلة المعتادة التي تتضمن الدهشة من قدرة هذه المرأة على خوض “ميدان الرجال”! أسئلة من نوع: لماذا اتجهت إلى هذا الميدان؟ ألم تواجهك صعوبات مع زملائك الرجال؟!..
بينما غابت غيابا شبه كلي القضايا الأكثر أهمية: غابت نهائيا الأسئلة عن دور هؤلاء النسوة في محاربة ألد أعداء المرأة في بلادنا: الفقر والأمية. وهما سؤالين يتعلقان مباشرة بالاقتصاد. هذا إذا استبعدنا الأسئلة التي لا تتعلق به مباشرة كدورهن في تغيير التشريعات المعيقة لعمل المرأة واستقلالها و..
حتى أن الأرقام غابت بشكل شبه كلي عن المؤتمر، وعن الحملة الإعلامية الكثيفة التي رافقته. إذ لا نعرف حتى الآن كم سيدة أعمال في العالم العربي؟ وما هي مشاريعهن؟ وكم هو الرأسمال الذي يدرنه؟ وما هي طبيعة نشاطهن الاقتصادي؟ وكيف انعكس تقدمهن في هذا المجال على المجالات الأخرى… ولم يقل لنا أحد لماذا هؤلاء السيدات هن، حصرا، بنات أو زوجات أثرى الأثرياء دون أن تتمكن امرأة عادية أو فقيرة من خرق هذه القاعدة!.. بل إن السيدة هدى جلال يس، رئيسة اتحاد المستثمرات العرب وعضو المنظمة العالمية لصاحبات الأعمال، لم تجد جوابا على استفسار الإعلامية في قناة الجزيرة، لونا الشبل، في لقاء ضمها مع السيدة ياسمينة الأزهري، قنصل هولندا الفخري في اللاذقية ورئيسة لجنة سيدات الأعمال، وعائشة الخزرجي، النائب الثاني لمجلس سيدات أعمال الإمارات ورئيسة لجنة التعليم لاتحاد المستثمرات العرب، لم تجد سوى التهرب من السؤال عن غياب الأرقام بالقول أن هذه مهمة الحكومات وليس سيدات الأعمال! ولا اتحاد المستثمرات العرب!
ويبدو أن الأمر ليس مجرد غياب معلومات. بل غياب اهتمام بواقع مشاكل وقضايا المرأة في سورية والدول العربية. وهو ما سنلمسه بوضوح إذا تأملنا قليلاً في مجمل هذه التغطية الإعلامية. وبخاصة برنامج “للنساء فقط” المذكور أعلاه. إذ أكدت السيدة ياسمينة أزهري، بثقة كبيرة، أن “نحن عندنا تماما نفس الحقوق ونفس الصلاحيات ونفس الواجبات كالرجل، يعني نحن عندنا مساواة تماما..”! وحين استغربت السيدة شبل هذه الصورة “الوردية” حسب تسميتها، أعادت السيدة أزهري تأكيدها: “أنا عم بأحكي عن سوريا تقريبا إيه يعني أنا فيني أحكي على اللي بأحكيه على سوريا إيه، ما فيني أحكي على البلاد العربية، بس بسوريا 80% إيه”! وأكدت السيدة هدى يس، والسيدة هائشة الخزرجي، أن الواقع كذلك أيضاً في بلديهما مصر والإمارات!
بالتأكيد لا نقلل هنا من أهمية هذا المنتدى، أو المنتديات المشابهة له. خاصة لجهة “تبادل الخبرات” وفق المصطلح الأكثر رواجاً. إلا أننا ننسى دائماً حجم “خبراتنا” في المجالات المختلفة لصالح تأكيدنا على الوجه السياسي، بل الأصح القول: الإعلاني. كأن كل ما يهمنا من هكذا منتديات تأكيد أن بلدنا بخير وصورته حسنة! وهو ما صرنا نعرف جيداً أنه لا يصير بالجمل الإنشائية ولا بالخطابات، بل فقط بدراسة حاجيات واقعنا دراسة ميدانية موضوعية والبحث عن حلول واقعية مناسبة له. وربما يمكن الإشارة هنا إلى أن سيدات الأعمال، وسادة الأعمال، في أكثر بلدان العالم، باتوا يعتمدون “العمل الاجتماعي” واحداً من أهم أساليب الإعلان عن أعمالهم.
أو إن شئنا تسمية أخرى: “تلميع صورتهم”. عبر الكثير من المنح والهبات والعمل التطوعي والجوائز في المجالات الاجتماعية والإنسانية والعلوم وتمويل الدراسات المختلفة و.. لكننا حتى الآن، لا نجد شركة واحدة في بلدنا، سواء كانت لرجل أو امرأة، أطلقت برنامجا اجتماعيا واحدا. وحتى بعض الشركات التي أعلنت رعايتها للمتفوقين في الشهادة الثانوية، اقتصرت رعايتها على حفل فني صاخب، ليخرج بعدها المتفوقون إلى بيوتهم يحملون صداعا في رؤوسهم!
ليس عندنا شركات، لا خاصة ولا عامة، ولا وزارات ولا مؤسسات.. وضعت حوافز مادية لمحو الأمية في محيط عملها، أو في أي منطقة من المناطق التي تعاني جديا من نسبة عالية جدا من الأمية. كذلك الأمر فيما يتعلق بتنمية صناعات صغيرة، أو محاولة إشراك العائلات الفقيرة في مرحلة من إنتاجها، وبطريقة رأسمالية رابحة، لا كهبة. لم تقم شركة واحدة بالتبرع بقطعة أرض، مثلاً، لبناء مدرسة أو مركز صحي أو مركز خدمات.. ولا قدمت إحداها منحة لأحد المتفوقين الفقراء ليتابع دراسته حتى النهاية على حسابها، ولو بعقد احتكاري يلزم هذا الطالب بالعمل معها مستقبلاً كما تفعل الكثير من الشركات في العالم.. وكل ما يمكن أن نجده في أقصى عمليات البحث، هو بعض التبرعات هنا وهناك، ونادراً ما تكون لمشاريع تندرج في إطار إنمائي. فكيف إذا كنا نتحدث عن تنمية قدرات المرأة وإخراجها من الفقر والاضطهاد المضاعفين الذين تعيشهما، ويحولان دون أي تقدم يذكر في تفعيل إمكانياتها؟!
يبدو أن دخول المرأة ميدان صاحبات العمل يذهب هو أيضاً ليكون مجرد مظهر كما كان دخولها في ميادين كثيرة أخرى. وهو ما يفرغ هذه الخطوة من كثير من دلالتها. والأهم، أنه يعيدنا دائما إلى الحلقة الأكثر دوراناً في حياتنا: فهم الواقع وفق تصوراتنا. لا بناء تصوراتنا على أساس الواقع.