14/8/2005

بقلم: بسام القاضي

كثيراً ما يجري قصر مفهوم حقوق الإنسان، خاصة لجهة نقد غيابها، في الحديث على المستوى السياسي لهذه الدولة أو تلك. ونلحظ ذلك حين نتابع أن أغلب التقارير والدراسات التي تحاول قياس وجود هذه الحقوق تتحدث عن قانون الطوارئ والاعتقال التعسفي وممارسة التعذيب.. إلخ.

وهو قياس صحيح بالتأكيد. إذ إن للدولة دوراً حاسماً في العصر الحديث في تمكين هذا المفهوم عملياً.

ويزداد هذا الدور أهمية كلما ابتعد شكل نظام الحكم عن الشكل الديمقراطي بمعناه اللبرالي البسيط.

أي توفر قانون مدني سائد مستقل ونزيه، ومؤسسات حكم مبنية على المؤسساتية، وانتخابات وآليات ترشيح وانتخاب نزيهة وشفافة، وتعددية سياسية حقيقية، وآلية تداول سلطة مناسبة للتعددية السياسية… إلخ.

إلا أنه كثيراً ما يغفل الجانب الآخر لهذا الأمر. أي مدى تغلغل هذا المفهوم في الممارسة اليومية للمجتمع بكافة فئاته ومستوياته ومجالاته. وهو أمر يربط عادة ويبرر بغياب الجانب الأول أو نقصه.

إلا أن ذاك الغياب ليس، برأينا، إلا عاملاً واحداً من عوامل غياب ممارسة مفاهيم حقوق الإنسان في المجتمع.

أما العوامل الكثيرة الأخرى فهي لا تتعلق مباشرة بالسلطة السياسية.

وإن تأثرت بها بهذه الدرجة أو تلك. بل تتعلق بمدى سواد العادات والتقاليد الرافضة أو المناقضة لهذه المفاهيم، ومدى تبني الفئات الطليعية في المجتمع لهذه المفاهيم، وحجم ونوعية مبادراتها لتجسيدها، وعلاقة هذه الفئات بباقي فئات المجتمع، ومدى اعتبار المثقفين لأهمية مفاهيم حقوق الإنسان، ومحاولتهم إدراجها في أعمالهم على اختلاف أنواعها، خاصة تلك المتعلقة بوسائل الإعلام الجماهيري..

وعلى سبيل المثال، يمكن للجمعيات المدنية المختلفة الأهداف أن تنمو وتزدهر تحت ظل دولة تقر بحق المواطنين في التجمع والتنظيم، وتقر قانون جمعيات ديمقراطي وعصري.

إلا أن هذا النمو والازدهار متعلق أيضاً بمدى قناعة المجتمع المدني بدور هذه الجمعيات، ومبادرته إلى إنشائها وتطويرها. فإذا لم تكن هذه القناعة وتلك المبادرة موجودتين بقوة، يبقى القانون أشبه بحبر على ورق.

كما أن دولة لا تقر عمليا بحق المواطن في التجمع والتنظيم، وتقر قانون جمعيات غير ديمقراطي ومتخلف، يمكن لها أن تحد من نمو الجمعيات وازدهارها.

إلا أن تغلغل تلك المفاهيم في المجتمع ومبادرته إلى تأليف جمعياته والعمل فيها وعليها، يضع تلك الدولة وذاك القانون في الزاوية الضيقة التي لا يعود هناك مفر من الخروج منها عبر تعديل هذه القوانين.

وما نود قوله أن تعليق كل شيء على ما تسمح به السلطات المحلية في هذا البلد أو ذاك، ورهن الحركة بهامشها الخاص، هو أمر مناقض لطبيعة الحياة ومسيرتها.

خاصة أن الدولة، أية دولة، كما القوانين، هي محافظة بهذه الدرجة أو تلك مقارنة بحيوية الحياة.

وخاصة في “القرية الصغيرة” الجديدة. وهي حقاً قرية صغيرة.

وتعي الحكومات هذه الحقيقة وتتعامل معها بدرجات عالية من الذكاء، بينما ما يزال المجتمع المدني، في بعض الحالات، يشير إلى وعيه معنى “القرية الصغيرة” دون أن يبادر إلى استغلال كامل طاقاتها.

وما نعتقد أننا بحاجة ماسة إليه في هذه البلدان إلى عدم انتظار أن تأتينا الحلول على طبق من ذهب. وعدم رهن كل شيء على المستوى السياسي، المهم بالتأكيد، ولكنه ليس سوى مستوى واحداً من مستويات الحياة.

بل قد يكون من الممكن القول أن هذا المستوى يخضع بازدياد، عالمياً، لحركة المستويات الأخرى بعد ثورة الاتصالات التي نزعت الهيبة مرة واحدة عن المستوى السياسي، وكشفت كل خباياه وزواياه ونقاط ضعفه وقوته..

وأظهرت أنه عاجز عموماً عن الاستمرار في التناقض مع حاجات المجتمع. ومجبر على التأقلم وإعادة التأقلم مع هذه الحاجات، إن لم نقل تلبيتها وتحقيقها. خاصة حين يعي هذا المجتمع أن في استطاعته أن يشرع في بناء مؤسساته وأدواته بيديه. .