28/8/2005

في كل عام، يأتي الصيف على الشباب الذين قدموا للتو امتحانات الشهادة الثانوية (البكالوريا) حاملاً معه سكينا بحدين. أولهما انتظارهم القاتل لنتائج امتحانات سنة دراسية بات الجميع يعترف أنها ليست سوى كمية ضخمة من المعلومات التي تحشى في رأس الطلب حشواً، ويجبر، بأساليب التعليم البالية، وأساليب الامتحان أيضاً، على أن يكون مجرد شريط تسجيل لها.

ولم تبق وسيلة إعلامية في البلد، من التلفاز إلى الإذاعة إلى الصحف الرسمية وغير الرسمية، بل حتى صحيفة الغد الناطقة باسم اتحاد الطلبة، تحدثوا جميعاً عن هذه السنة القاتلة.

وطبعاً لم يعن هذا الحديث شيئا “للمعنيين”! فهم في واد الكراسي الهزازة التي تسمح للآخرين بقول بعض ما يشاؤون، ولا تسمع شيئا مما يقولون!

ولم تتعد بعض التغييرات التي تجري بين الحين والآخر أن تكون تغييرات جزئية، وكثيرا ما تكون مفاجئة بحيث تسبب ضررا فادحاً للطلاب. بينما المطلوب، باتفاق الجميع تقريباً، هو آلية تعليمية مختلفة جذرياً

تبدأ من عدد ونوع المواد الدراسية المقررة، وتمر بالأبنية التعليمية وتجهيزاتها، ولا تنتهي عند تأهيل جديد للمدرسين يعتمد آلية جديدة للعلاقة بين المدرس والطالب. آلية تنتمي إلى التحفيز الفكري، لا إلى التلقين الحفظي.

وما أن يتجاوز الشاب هذا الحد القاسي، وينجح في هذه الامتحانات، حتى يبدأ الحد الآخر بجز عنقه! حد آلية القبول في الفروع الجامعية المختلفة ومعدلات العلامات المطلوبة لها.

إذ يبدو أمرا أقرب إلى السحر أن يطلب لأغلب الفروع الجامعية معدلات، ولنتذكر أنها معدلات مبنية على تلك الآلية الدراسية، تفوق 90% من العلامة التامة! حتى إن كثير من النكات المتداولة صارت تربط بين الطالب الناجح بمعدلات عالية

وبين الغباء الاجتماعي والحماقة وما إلى ذلك! لما يتطلبه الوصول إلى ذلك المعدل من انغلاق تام على الحفظ وانقطاع تام عن الحياة بمختلف اوجهها.

ولا تشكل البرامج التي تقيم المقابلات الإعلامية مع متفوقين، وتحاول أن تضع القضية في سلة “تنظيم الوقت” سوى نكتة إضافية في هذا المجال!

وبعد ذلك، وبرغم كل ما يكون الطالب الشاب قد فعله، يجد نفسه فجأة خاضعاً لقدر جديد لا يقل صعوبة وغرابة عما سبقه.

فهو مرهون بنتائج مفاضلة قد ترميه خارجاً لأن “المعنيين”، مرة أخرى، يحتاجون هذا العدد فقط لهذه الكلية الجامعية، وذاك العدد لتلك الكلية! وما عليك سوى أن تخضع لهذا “المزاج” حتى لو وضع تحت تسميات مختلفة من مثل سياسة الاستيعاب، أو التوجيه الأمثل..

ولن نعيد هنا الأسئلة الواضحة والبسيطة والمحقة حول هذه السياسة ومدى صوابيتها وآليات تنفيذها. فقد تفاقمت الأزمة إلى درجة صار فيها من الواجب التساؤل حول “حق” هؤلاء المعنيين بتقرير مصير الشباب قسراً! ليس فقط بما قلناه سابقا عن مناهج تلقينية ووسائل وآلية تلقينية وخدمات متخلفة.. وحسب،

بل أيضا باحتكار الدولة شبه التام للتعليم الجامعي. وهذا الاحتكار لم يخفف من قبضه إلا قليلا جداً العدد القليل من الجامعات الخاصة التي افتتحت مؤخراً. إذ أنشأت هذه الجامعات أصلاً

وأرشيف الصحافة السورية ما زال موجوداً لمن يرغب بالتأكد، بهدف واحد فقط هو محاولة استقطاب الطلاب الراغبين بالدراسة خارج سورية!

أي أن الهدف الأول كان مادياً عبر إبقاء النفقات التي يدفعها هؤلاء الطلاب داخل القطر عوضا عن صرفها خارجه! وحتى “التعليم المفتوح” خضع لذات الاعتبار

إضافة إلى أن مشاكله قد فاحت رائحتها إلى درجة بات الكثيرون ينظرون إليه بصفته ابعد ما يكون عن التعليم بأي مستوى كان. بسبب خدماته الرديئة وملابساته نحو الطلاب والأساتذة، بل وحتى العاملين!

ولأن التعليم الجامعي بات اليوم أساساً تتزايد أهميته في تقرير مصير الشاب في سوق العمل، فإن إمكانية حصول الشاب على هذا التعليم تشكل حداً فاصلاً في مصيره المستقبلي برمته.

ليس لدينا أي وهم حول فكرة التعليم المجاني التي ولت إلى غير رجعة. في كافة مراحل التعليم وليس فقط في التعليم الجامعي. وليس في النية المطالبة بالعودة إلى ذلك الزمن.

فذلك لن يحدث بغض النظر عما إن كان صحيحاً أم لا. إذ إن الدولة قد حسمت خيارها الاقتصادي، مهما كانت التسمية التي اختيرت له. وهو، في جوهره، نقل الخدمات التي كانت تقدمها شيئا فشيئا إلى القطاع الخاص. وما تبقى هو مجرد وقت قد يطول أو يقصر.

بل ربما كان ما جرى في قطاع التعليم خلال السنوات القليلة الماضية، هو أكثر ما يكشف هذا التوجه الأساس.

وما يهمنا الآن ليس تقديم اقتراحات حول هذا الأمر. بل فقط الإشارة إلى أن من يقرر وجود الجامعات، وتكاليفها وشروط الانخراط فيها وآلياته..

هو من يقرر مصير الشباب! وليس الشباب نفسه الذي يحمل دائما مسؤولية “فشله” على أنه تقصير منه، أو خطأ في تنظيم وقته، أو إهمال في المذاكرة..

خاصة وأنهم يبنون أساساً، كما أشرنا أعلاه، بآلية تلقينية تحشو المعلومات حشواً لا يطور عقلاً ولا يفتح آفاق إبداع! .