1/11/2007

في مفاجأة بكل معنى الكلمة، أطلق الفنان السوري عباس النوري، بطل مسلسل “باب الحارة” تصريحا نارياً هاجم فيه من انتقد المسلسل واصفا إياهم (إضافة إلى أن بعضهم يخضع لإملاءات ما!) بأنهم يحملون نظرات حولاء! ومؤكدا: “النساء و لو كن مثقفات كن يتمنين أن يكن مكان سعاد على الأقل على الصعيد الإنساني حسب اللقاء الذي نشر في موقع سيريا نيوز.

بل إن الأستاذ عباس لم يتوان عن تأكيد أن المسلسل لم يظلم المرأة، بدليل أن أبو عصام هو من “خرج من البيت” بدلا من سعاد حين الطلاق!! ومؤكدا أن المسلسل لم يكن توثيقيا، وأنه ينتمي إلى إظهار “الحالة المدنية” بدلا تجسيد الواقع “القروي” الذي اعتمد عليه الكتاب حتى الآن!..

في الواقع لا نستطيع أن نحسد الأستاذ عباس على تصريحاته. فهي لم تفعل سوى أن تزيل عنه ما كنا حاولنا أن نعفيه منه، بإعادة المسؤولية أولا إلى الكاتب والمخرج. لكن الأستاذ عباس أصر على أن يكون مسؤولا. وهذه جرأة كبيرة في الواقع، وإن كانت مستمدة من معطى سطحي للغاية هو معطى عدد المشاهدين. ولا ندري إن كان الأستاذ عباس يتمنى لو أنه مثل أيضا في مسلسل “دالاس” الأمريكي الشهير الذي يقال أنه حظي على أكبر عدد مشاهدين في تاريخ المسلسلات الأمريكية! أو لو أنه كان ينتمي إلى تلك الأفكار الظلامية التي حصدت مئات ملايين المؤمنين بها الذي قتلوا وقُتلوا في سبيلها!

إلا أننا مضطرون إذا للرد على ما قاله، وليس من بين ما سنرد عليه اتهامه لنا بالحول، أو بالقراءات الحولاء، لا فرق. إذ لم يكن الحول يوماً عيبا، خاصة حين يصير “اللاحول” هو تشويه الواقع أولاً، وترويج الظلامية والعنف الأسري والترابط القبلي المبني على السخافة والسطحية والعصبية الذكورية.

ونحن لسنا واثقين أبدا إن كانت النساء تتمنى أن تكون محل سعاد. لكننا نشك أن النساء اللواتي يعرفهن ويمثل معهن ويعيش معهن الأستاذ عباس هن هكذا! بل ربما نعرف جميعا أنهن جميعا “يستطعن” أن يعشن تلك الحياة لو أردن. فهل تستطيع، في زحمة اللقاءات الصحفية المبنية على نجاح المسلسل السطحي، أن نأمل بتوضيح منك لم لا يفعلن ذلك برأيك، وهن قادرات؟! هل يخفن “حول” أحداث ما؟ لكن هناك أيضا نسوة هن من نعيش معهن زوجات وقريبات وأخوات وزميلات.. و”للأسف” يرفضن بكل وضوح أن تسحق إنسانيتهن كما فعل وروّج مسلسل “باب الحارة”.

ولعلك تعرف، أو قرأت، أن حتى من كرم المسلسل، رغم كل ملابسات هذا التكريم، وما قيل فيه وفي أسبابه، لم يجد مفرا من الإشارة إلى (سوء الصورة التي قدمها المسلسل ومفارقتها من هذه الناحية لما كانت عليه النساء السوريات)! وربما يجدر التذكير هنا، أن النقد لم يكن لأن المسلسل يتضمن مثل هؤلاء النسوة السطحيات والفارغات، بل لأن المسلسل لم يتضمن سوى هؤلاء النساء. ولم يقم بأي نقد من أي نوع لهذه الصورة.

بل إن مؤدي ومصائر الشخصيات في المسلسل أكدت أن هذا السياق هو الذي يجعل الحياة سليمة وجميلة. وجميع “الحبكات” الصغيرة والكبيرة في المسلسل حلت لصالح الرجال وآليات تصرفهم، وجميع “الحبكات” أوصلت إلى عودة خانعة خاضعة للنساء إلى “ذكورهن”. جميعها أكدت أن النساء كن مخطئات على الدوام وأن الرجال هم من يقودوا الحياة في مواجهة سخافة النساء ووضاعتهن!. وهذا يعني، لمن يعرف كيف يشاهد الدراما، عداكم عمن يعرف كيف يقرؤها، أن هذا هو الوضع الطبيعي الصحيح الذي يجب أن تكون عليه الأمور. خاصة أن هذا الطرح ربط بطريقة مباشرة مع الذكورة التي انتصرت في كل شي: انتصرت في القضية الوطنية التي سٌخفت أصلا أكبر تسخيف.

وانتصرت في اجتماع الحارة مجددا في تأكيد مطلق على صحة ما فعله “الكبير” أبو عصام. وانتصرت في تأكيد كل السلوك التابع لسلوك أبو عصام من زيجات وطلاقات وخلافات وخصامات. وانتصرت في تأكيد أن “الشخت على البلوعة” وشتائم النساء وتهميشهن يصنع عالما جيدا كله أبطال متضامنون صادقون عظماء.. أي بالضبط على عكس المقولة “المدنية” التي تقول أن اجتماع البشر على الحقوق المتساوية والواجبات المتساوية، أي المواطنة بكل بساطة، هو ما يصنع “الحالة المدنية” التي لعب السيد عباس على اسمها، في إشارة واضحة وصريحة إلى معارضة المدينة بالريف معارضة حضارية.

وعلى هذا النحو، لا بد من القول أن بعض حقا من النساء رغبن أن يكن محل سعاد، لكن، لمعلومات الأستاذ عباس، أن هؤلاء النسوة يعشن اليوم قهرا وظلما أشد مما قدم في المسلسل. ولذلك وجدن قهر المسلسل جنة لهن. ولا أعتقد أنك ستكون مسرورا لمعرفة أن “الشخت على البلوعة” ما زال يحاصر حياتهن. وقد أسهم المسلسل، سواء أردت أم لم ترد، في الدفع بالترويج لهذه الجريمة العنصرية. ولا نعرف إن كنت قد وجدت و قتا كافيا للتفكر في واقع أن “الخيزرانات” فقدت مرتين من سوق الحميدية! وأن الكثير الكثير من المراهقين والأطفال باتوا يحملون اليوم هذه الخيزرانات ويهددون بها أخواتهم أو زميلاتهم! ونرجو أن لا تخرج علينا بعد فترة بالقول أن “هذا دليل إضافي على نجاح المسلسل”! فنحن لم نختلف معك أبدا على “نجاحه”. ما اختلفنا عليه هو أنه نجاح بني على الترويج لاضطهاد المرأة وتنيفها وتهميشها وتسطيحها! أي بني على تمييز عنصري كامل المواصفات لأنه تمييز ضد إنسان بسبب جنسه! ولسنا نعرف كيف تمكن الأستاذ عباس من الاستشهاد بدمشق يا بسمة الحزن! تلك الرواية الرائعة التي صورت حقا ما قلته.

لكن الفرق الجوهري بين الرواية والمسلسل أن الرواية وضعت كل هذه الممارسات في مجال التعارض مع القيم الإنسانية، ومع حاجة التطور، ومع المدنية، وحتى مع الشرائع السماوية. في الوقت الذي وضع المسلسل هذه الممارسات في مجال المرغوب والمطلوب والصحيح والقيم! وأنت من أكد ذلك بلا لبس في لقائك المذكور، إذا كان هناك أي لبس لدى أي كان حول ما دعا إليه المسلسل في هذا المجال! فأي فرق هذا بين ثريا الإدلبي، وثرى “الباب الأسود”!

وما حجة “التاريخ” سوى حجة نافلة. ولأنها كذلك وجد الأستاذ عباس كل تلك السهولة في اتهام كاتب المسلسل بما اتهمه به. ولن ندخل في هذا الجدال بين “بطل المسلسل” وبين “بطل الكلمات”. بل سنكتفي بالتساؤل عن المصادر التاريخية التي استند إليها كاتب المسلسل، أو حتى كتبته أيا كانوا، في تلمس هذا التاريخ؟ دون أن نغفل إشارة لا يغفل عنها الأستاذ عباس: لو أننا أردنا التاريخ كما هو مسرود، لما احتجنا لجهودك ولا لوجودك كممثل. كنا قادرين دائما وما زلنا على قراءة كتب التاريخ، وتصوره، بل وتمثله أيضاً. والدراما لم تكن يوما بنسخة عن التاريخ، فكيف بنسخة مشوهة! بل هي قراءة له. و”باب الحارة” لم يكن، مهما كان ما تقوله أو نقوله، سوى قراءة لذلك التاريخ. ومما نقوله أن تلك القراءة كانت ظالمة إلى حد بعيد لأنها شوهت التاريخ. وكانت ظلامية إلى حد بعيد لأنها روجت لذلك التشويه، ودعت إلى ممارسته اليوم بصفته قميا صالحة عليا!

ولا ندري إن كان لديك مكان، في سياق تأكيدك على أن النساء “كن” هكذا، بل وتأكيدك الواضح الصريح على أنهن مثل يحتذى (عبر تأكيدك على أن النساء المثقفات يتمنين أن يكن مثلها أو مكانها!!)، وبأي طريقة تشاء، لتفسر لنا من أنجب إذا وربى رجال الثورات المتلاحقة في سورية؟! من أنجب وربى رجال النهضة العظام بكل عجرهم وبجرهم؟! من أنجب السياسيين والاقتصاديين؟! رؤساء الوزارات وضباط الجيش؟! الأحزاب السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؟!

كان جوابك واضح وضوح الشمس: إنها الخيزرانة والشخت على البلوعة والشتائم وتطليق النساء والنميمة والسخافة والسطحية..! أليس هذا ما أكده مسلسل “باب الحارة”؟!

وطبعا نشكرك حقا لمدنية رؤيتك أستاذ عباس حين تؤكد على “عظمة الذكر أبو عصام”، وكرمه وشهامته وتواضعه وتفوقه… إذ خرج من البيت بدلا من أن تخرج “المرة” سعاد! رغم أن “المرة” سعاد قد خرجت أيضا من البيت. لا بل قد أخرجت منه دون أن تحمل معها قشة من مكنسة! في الواقع إنها منة ما بعدها منة! فماذا تريد المرأة أكثر من ذلك؟ أي مطالب يطالب بها ذلك الكائن المتدني أكثر من أن يخرج سيده “الذكر” فترة من البيت قبل أن يطرده طرد الكلاب؟! أي احترام أكثر من ذلك للبطن الذي أنجبه، ثم أنجب أولاده؟ أية قيمة أعظم لمن أمضى حياته يطعمك ويسقيك ويرعاك ويحترمك ويحبك ويحرص عليك؟ طبعا لم نورد هنا أيا من “الأفكار الحولاء” من مثل المرأة التي تعلمت وعلمت، التي عملت وأنتجت، التي كتبت وألفت، التي أبدعت وخلقت، التي قادت وساست! أو، أساسا، المرأة الإنسانة المواطنة التي لها ما لك ولي وعليها ما عليك وعلي، فهذه جميعا صفات لا تصدر إلا عمن يحتاج إلى “أطباء نفسيين” (وشكرا لأنك استخدمت صيغة جماعة المتكلم!)… بل فقط الصفات والمواصفات المعتمدة لدى “ذكور باب الحارة العظماء”!

إن النساء يا سيدي، الآن وقبل ألف سنة، هم بشر كما أنت وأنا بشر. ولهن ما لنا من حقوق وواجبات. وحين نمارس أي تمييز في ذلك فإننا ننتقص من إنسانيتنا أولا، ونتحول، حسب الدرجة، إلى ما هو أدنى من الإنسان. وحين نروج مثل هذه الثقافة العنصرية فإن أقل ما يجب أن يقال، أو على الأقل هذا ما كنا نأمله منك ومن نخبة الممثلين والممثلات السوريات اللواتي “أنجزن” هذا المسلسل، أن يراجعن أنفسن ويراجعوا أنفسهم فيما فعلوه. في القيم الباطلة والعنصرية والسطحية التي روجوا لها، بقصد أو بدون قصد. على أمل تجاوز ذلك في مرات أخرى. لكن من الواضح أن السيد عباس قد أخرج نفسه من الدائرة بما صرح به، وأكد أنه يحمل حقا هذه القيم الباطلة التي روج لها المسلسل المعيب.

أما عن معارضة “الحالة المدنية” بكتاب الواقع الريفي، فهي مفارقة حقا! هل تصدق حقا أستاذ عباس أن تلك الحارة، أو أية حارة في دمشق أو غيرها كانت ذات يوم مدنية؟! لا بأس إذا، اسمح لنا أن نقول لك أن لا مدنية تقوم على اعتبار بعض، فكيف بنصف، أفرادها كائنات من نوع أدنى! لا مدنية مع خرق فاضح لحقوق الإنسان التي تشكل خلاصة ما وصلت إليه البشرية من رقي حتى الآن في قيمها العليا. لا مدنية مع طلاق يمتلك الحق المطلق فيه طرف واحد أيا كانت الايديولوجيا أو الأفكار التي تقف وراءها. لا مدنية مع عنف يستمر 24 ساعة ضد الأطفال حتى حين يصيرون مسوخا مشوهة عن “الذكور” الكبار، ومسوخا مشوهة عن “النسوان” الكبار، تحت ذريعة التأديب والتنشئة الحسنة وما إلى ذلك! لا مدنية حيث لا يسود إلا لون واحد لا يمكنه سوى أن يكون أسود لأنه واحد ووحيد!

إلا أنه، وهو المعنى البسيط المتداول، لا مدنية في مكان تسود فيه ثقافة الخيزرانة. بل إن المكان الذي تسود فيه هذه الثقافة هو بالضبط “الريف”. وليس الريف هو ما يكون خارج حدود إدارية معينة، أو في واد بدلا من الجبل! الريفية هي بالضبط اعتماد عصبة الدم المتخلفة، والقوة الذكورية المقرفة، معايير أساسية بدلا من المواطنة. ولذلك أنت محق تماما في اعتراضك على موجة “الترييف” التي سادت الدراما السورية وغير السورية، لكن حارتك التي قدمتها في “باب الحارة” لا تنتمي إلى المدنية إلا بمقدار ماتنتمي “دكان سمانة” إلى مايكروسوفت. أي أنها من ذات الطينة التي انتقدتها. المدنية هي حيث تسود علاقات متكافئة وعادلة ومتساوية بين أطراف المجتمع الواحد، ويعتمد أفرادها على العقل والإبداع والاحترام بدلا من الخيزرانة والشتائم والكف و”عبور العتبة على الظهر”!

آخر ما نود قوله هنا، هو أن آخر ما كنا نتوقعه منك هو تلميحك (أم تصريحك؟): “يؤسفني من يمسك القلم لا يحترم الناس يكتب اي شي ، فالذي يكتب عن ظاهرة اقتصادية هو نفسه يكتب عن البندورة وعن شرطي السير ويقابل المسؤول ، هذا اذا لم تأتيه املاءات ليكتب على كيف غيره ، لماذا اذاً يدخل المزاج الشخصي والشعارات شعار الحرية وغيره ..”!! لم نكن نود أبدا أن نسمع منك، بكل تجربتك الكبيرة التي لا ينتقص منها نقد، أيا كانت ما ترغب بستميته به: بناء أو هدام (مع العلم أن هذا التمييز هو بالضبط عمل الأحزاب التي أكدت أنها كلها كذابة!!)، وطبعا، وبكل تأكيد، لا ينتقص ولا يمس شخصك المحترم (رغم أن طابع ما قلته يتسم بطابع شخصي قوي)! وما يسعنا أن نقوله هنا يا سيدي: لو تأملت قليلا، لوجدت أن أكثر المديح في بلدنا، وفي العالم، بل وفي تاريخ العالم برمته، هو ما يصدر عن “إملاء”! بينما كان النقد القاسي، المعارض، الهدام.. هو النابع من ألم الناس مما هو قائم، وأملهم بوضع أفضل.. فلعلك تعذرنا هذه المرة..