26/11/2007

لعله من أعظم المفارقات و أخطرها أن يكون التقدم عاملاً على التخلف بل كذلك على التخليف ، و في هذه الحال نكون أمام حالة مثيرة للاهتمام المنهجي و النظري.

إن ذلك يتجسد في موقع المرأة العربية بين العولمة و القوى الداخلية التقليدية التي تملك إمكانات الكبح، أما الناظم المشترك بين العولمة و هذه القوى فيتحدد في أن كلا الفريقين يسعى إلى انتزاع الهوية الاجتماعية و الثقافية الحضارية من المرأة ، و ذلك من خلال إعادتها إلى هويتها الجسـدية ( البيولوجية ) و جعل هذه الهوية المحدّد الأول و الأخير في حياتها.

و نلاحظ أن العولمة تمثل راهناً حالة من التدفق باتجاه العالم كله و خصوصاً نحو العالم العربي و يتم ذلك بيسر و قوة عبر منجزات ثورتي المعلومات و الاتصالات و في ضوء ما نراه قانونية حاسمة للفعل العولمي.

أما هذه القانونية فهي ابتلاع الطبيعة و البشر على نحو يجري فيه هضمهم و تمثلهم و من ثم تقيؤهم سلعاً و يحدث هذا و فقاً للشعار الذي طرحته العولمة مع بواكير نشأتها و هو تحقيق السـوق الكونية السـلعة ، التي من أجل تحويلها لواقع عالمي كلي لابد من إنهاء كل الهويات التقدمية في حياة البشر مثل العقلانية و الحداثة و التاريخية و الديمقراطية و تثبيت أو إحياء كل الهويات المعيقة لتقدمهم كالطائفية والعشائرية و المذهبية المغلقة و الذكورية و في هذا الموقع الأيدلوجي الفاقع نضع يدنا على مواطأة ضمنية و ربما كذلك علنية بين العولمة من طرف و بين القوى السياسية و الإيديولوجية التاريخية في المجتمعات العربية من طرف آخر.

إن اختراقات عظمى تحدث في الأوساط النسائية لصالح الدعارة والرقيق الأبيض الذي ينتشر بدعم من نظم سياسية و قوى مجتمعية متسعة ، و ثمة ظاهرة ملفته في الوسط النسائي العمومي ربما في العالم الراهن كله و هي : تراجع الحركات التحررية النسائية لصالح إعادة النساء إلى ” أجسادهن ” عبر وظيفتين اثنتين. أما أولهما: فتتمثل في تحويل هؤلاء إلى مسوُّق و مسـوًٌق في السوق السلعية العولمية المتناغمة مع المجتمعات الاسـتهلاكية و من ضمنها المجتمعات العربية الراهنة .

أما الوظيفة الثانية فتقوم على إدخال النساء مجدداً في عالم ” الحريم” بما ينطوي عليه من عناصر الدونية الحقوقية و الثقافية و السياسية و الاقتصادية و غيرها مع ترويضهن بقوة متجددة على الانصياع للأولوية الذكورية و جعل العنف إحدى و سائل هذا الترويض و لعل جرائم الشرف مثال على ذلك سواء ظهر ذلك بالقتل أو بالاحتقار أو انتقاص الحقوق الأساسية ، ويلاحظ ان الجريمة التي تعادل جرائم الشرف تلك إن لم تزد عليها خطراً و انحطاطاً إنما هي ذلك ” القانون” الذي يسكت عليها معتبراً إياها حالة من حالات التقاليد التي يمكن أن ” تهز” بلداً إذا جرى خرقها و استفزازها.

لقد مرت عقود طويلة بل قرون على الأعمال التنويرية و المساواتية التي أنجزها علماء و مفكرون و مصلحون في العالم ومازال الأمر دون الأهداف التي وضعها هؤلاء ، إنها تراجع كبير بالاعتبار النوعي عن منظومات حقوق الإنسان التي شارك العالم في إنتاجها و من شأن هذا أن يطرح أسئلة معقدة و شائكة تحيلنا إلى مراحل سابقة من انتهاك حقوق الإنسان عموماً و المرأة على نحو خاص.

و مع التأكيد على وجود مجموعات كبيرة من دعاة الحرية و المساواة فيما بين البشر و في معظم العالم إلا أن الاتجاهات الظلامية تتعاظم هنا و هناك مما يدعو إلى شحذ الهمم للوقوف في وجه من يقود تلك الاتجاهات، سواءاً جاؤوا من نظم سياسية أو من مجموعات بشرية تسعى إلى سد الأفق التاريخي و لابد أن يكون هذا حافزاً أمام القوى المدنية الديمقراطية لمواجهة هذا الاستحقاق الكبير.

الدكتور طيب التيزيني
عضو مجلس إدارة المنظمة السورية لحقوق الإنسان