17/2/2008

إن أخطر أمر واجه المسؤولين العرب بعد منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي هو الخطر الفضائي، ليس المقصود طبعا خطر مخلوقات فضائية تغزو الأرض كما في الأفلام العلمية والمستقبلية، بل خطر البث الفضائي الذي حرر وسائل الإعلام من هيمنة السلطات المباشرة وبدأ صوت المواطن والشعوب العربية بالظهور من خلال المحطات الفضائية وهذا ما أشعر الحكام باهتزاز عروشهم…

وكان لقناة الجزيرة الفضل الأكبر بالزلزال الإعلامي الذي بدأ منذ عام 1996 كاشفا ترهل وزيف الإعلام الرسمي، ومنذ ذلك التاريخ والمحاولات جارية لضبط الإعلام العربي بما يتناسب والسياسات الحكومية ولكنها باءت بالفشل حتى اللحظة..! في 12 شباط الجاري التأم اجتماع وزراء الإعلام العرب بمقر الجامعة العربية في القاهرة واتفقوا على وثيقة لتنظيم البث الفضائي العربي !! الطريف أنه لم يتغيب أي من وزراء الإعلام العرب عن الاجتماع الاستثنائي الخاص بالبث الفضائي لكون هذا الأمر فيه شر مستطير وأهم خطر يواجه (خير أمة أخرجت للناس) !!

أنس الفقي وزير الإعلام المصري حاول في مؤتمره الصحفي الذي أعقب الاجتماع ترطيب الأجواء الإعلامية الرافضة للميثاق بالقول: (أن الوثيقة ليست موجهة إلى أية دولة أو فضائية وأنها استهدفت فقط تنظيم البث الفضائي في شكل ميثاق شرف إعلامي)!! معلنا رفض الإعلاميين العرب لأن يكون بينهم دخلاء يحاولون الكسب على حساب قيم ومثل المجتمع، ورفضهم أن تكون هناك مزايدة عبر الفضائيات لكل من لا مهنة له)، حسب تعبيره. ونوه الفقي أنه ستتم إحالة الوثيقة إلى وزراء الإعلام العرب أو الجهات المعنية أو الاتحادات المعنية بالإعلام، والعاملة تحت مظلة الجامعة العربية، والبحث في آلية لتطبيق الوثيقة، من خلال أعضاء اللجنة الدائمة للإعلام العربي وعرض تفاصيل تنفيذها على اجتماعات الوزراء العرب في اجتماعهم المقبل، خلال شهر حزيران القادم، وأشار إلى أن الوثيقة لن تكون أبدا ضد حرية الرأي والتعبير، وأنها في بندها الأول تكفل احترام الحق في التعبير عن الرأي وانتشار الثقافة، وتفعيل الحوار الثقافي من خلال البث الفضائي وأشار إلى أن ميثاق الشرف كان قائما من قبل، إلا أنه كان صادرا في وجود عدد محدود من القنوات الفضائية، واليوم أصبح هناك ما يزيد على 500 قناة فضائية، 12% منها حكومية، والبقية الأخرى من القطاع الخاص، وظهرت قنوات تقدم الإباحية ولا تلتزم بالمسؤولية الإعلامية، ولذلك فإن إقرار الوثيقة، وآلية تنفيذها سيساهم في الالتزام بالمعايير الإعلامية والضوابط الأخلاقية، التي ينبغي أن تكون مرعية في المجتمع العربي.

تركز الوثيقة في أهم بنودها على علانية وشفافية المعلومات وحماية حق الجمهور في الحصول على المعلومات، والالتزام باحترام مبدأ السيادة الوطنية لكل دولة، واحترام خصوصية الأفراد والامتناع عن انتهاكها، والامتناع عن بث كل شكل من أشكال التحريض على العنف والإرهاب، وعدم تناول القادة أو الرموز الوطنية والدينية بالتجريح وتؤكد الوثيقة (على ضرورة الالتزام بالموضوعية والأمانة واحترام كرامة الدول والشعوب) كما تمنح الدول الموقّعة عليها، حق سحب وتجميد وعدم تجديد تراخيص العمل الممنوحة لوسائل الإعلام التي تنتهك القواعد الواردة في هذه الوثيقة..

بعد أيام من الاجتماع أصدرت قناة الجزيرة القطرية بياناً جاء فيه (أن تبنّي مجلس وزراء الإعلام العرب لوثيقة مبادئ تنظيم البث الفضائي في العالم العربي يشكّل خطراً على حرّية التعبير، وحذّرت من أن الغموض الذي يلفّ بعض بنودها يسمح بتأويلها على نحو يهدّد بالقضاء على استقلالية التغطية الإعلامية في المنطقة العربية).

وقال وضاح خنفر مدير عام شبكة «الجزيرة» في تصريح له: إن مواثيق الشرف الصحافية الهادفة إلى تنظيم المهنة ينبغي أن تصدر عن الصحافيين أنفسهم لا أن تُفرض عليهم من هيئات سياسية. وعندما يتم خرق مواثيق الشرف أو تحصل تجاوزات، تتنافى وأصول العمل الصحافي، فإن القضاء المستقل هو الكفيل بالتصدي لتلك القضايا).

وبينما أشار خنفر إلى أنّ المنطقة العربية شهدت في السنوات الأخيرة ظهور عدد هام من المؤسسات الإعلامية، شدد على ضرورة أن (تصب أي محاولة لتنظيم هذا القطاع في اتجاه خلق مناخ مناسب يسمح لها بأداء عملها بمزيد من الحرية والاستقلالية، لا أن تسعى لخنقها ووضع العراقيل أمامها).

وثيقة الإعلام الفضائي العربي هذه تفتقر إلى ما يوضح كيفية تحديد المخالفة الإعلامية. حتى بعد تجاوز الكلمات الفضفاضة عن ضرورة ممارسة الحرية من خلال «الوعي والمسؤولية»، ليس هناك نطاق قانوني يحدد كيفية تطبيقها. يمكن اتخاذ أي برنامج حواري مثالاً، فإذا خالف أحد الضيوف خلال حديثه في برنامج ما قواعد الوثيقة، فهل يُلام البرنامج؟ هل تعاقب المحطة؟ هل يسحب الترخيص؟ أم أن تلك العقوبات يتحدد مجال تطبيقها فقط إذا خرجت «المخالفة» من أحد إعلاميي المحطة أو مسؤوليها؟ من أجل هذا، تركت الوثيقة لكل بلد من الموقعين عليها أن يحدد أشكال تطبيقها. أي إن الإعلام العربي يبحث عن تشريعات إعلامية تُناسب مصالح كل سلطة عربية. هذه الوثيقة (القانونية) تحمل داخلها أسباب فشلها، لأنّ تعارضها وتناقضها المتوقعين، سيعملان في كل الاتجاهات وسيقننان الخلافات الإعلامية العربية، وهو ما قد يدفع في النهاية المحطات العربية إلى تأسيس مراكزها ومكاتبها وتسجيل شركاتها في أوروبا، هروبا من قانون الطوارئ الإعلامي العربي الذي اتفق عليه وزراؤنا الإعلاميون والذي صيغ بمصطلحات فضفاضة تذكرنا بقوانين الأحكام العرفية السائدة في عدد من الدول العربية (هيبة الدولة، والسيادة الوطنية، والنظام الاجتماعي والاقتصادي…) هذه الصيغة تعطي الحرية للسلطات التنفيذية بتفسير نصوص الوثيقة كما تريد للبطش بكل وسيلة إعلامية لا تراعي مصالح الدول والسلطات وبكل صحفي يجري وراء الحقيقة!!

أحمد الخليل