15/12/2004

* بقلم / عبد الناصر عوني فروانة
www.palestinebehindbars.org

هَدموا البيوت ولم تُهدم إرادتنـا … قَتلـوا الأجنة في البطون ولَم تُقتـل عَزيمتنا .. حَطَّموا جماجم أطفالنا ولم تُحطَّم عدالة قضيتنا … اقتلعوا الأشجار من جذورها ولم نُقتـلع من أرضنا .. سـَلبوا النوم من عيوننا ولم تَُسلب أحلامنا .. انتزعونا من أحضان أُسرنا ، وانتزعوا منا فلذات قلوبنا ، ولم تُنتزع منا آمالنا… فهي باقية فينا نستمد منها قوة صمودنا .

ومهما نجح الإحتلال في توسيع دائرة القتل والدمار هذه ، فإن دائرة الحقد والكراهية له تتسع هي الأخرى ، وتتسع معها دائرة المقاومة ضده وضد وجوده ، لتُغذي بذلك جيلاً لم يكبر بَعد على الكراهية لكل ما هو اسرائيلي .. والطفل الفلسطيني اليوم وبمجرد أن يفتح عيونه على الدنيا يكون قد تعلم أبجديات الحرب والدمار ، وإن كتبت له الحياة يكون قد تهجى مفردات الإحتلال والإعتقال ، وتبقى أشكال المعاناة في ذاكرته لزمن طويل ، ومع السنين يكبر ويكبر بداخله الحقد والكراهية للإحتلال ومؤسساته ، ويدفعه دوماً للتفكير بالإنتقام ، وبالتالي يبقى الصراع قائماً إذا ما بقىّ الإحتلال جاثماً على أرضه ومغتصباً مقدساته …

ولم يكتفِ الإحتلال بما مارسه ويمارسه من سياسة الإبادة والقتل الجماعي والتهجير ومصادرة الأراضي وهدم البيوت وغيرها من الأساليب العنصرية ، بل لجأ أيضاً الى بناء عشرات السجون والمعتقلات ، في الوقت الذي لم يسعوا فيه لبناء جسراً واحداً للمحبة والتعايش السلمي ….

فلم تعد هناك بقعة في فلسطين إلاَّ وأن أقيم عليها سجنٌ أو معتقلٌ أو مركز توقيف ، تختلف من حيث الموقع الجغرافي وتتحد من حيث الظروف والهدف وأساليب التحقيق ، والسجان في جميعها هو واحد وتُسيره عقلية واحدة ، وزجوا بها مئات الآلاف في ظروف قاسية ولا إنسانية قلما شهدها أو سمع عنها العالم ، واستخدموا فيها أساليب تعذيب دموية ومحرمة دولياً ، و ليس كل من تَعرض للتعذيب نجا من الموت ليُحدثنا عما تعرض له ، وليس كل من نجا قادر على أن يحدثنا عن ما تعرض له ، لكن هناك الكثير مِمَن نَجوا تحدثوا وبمرارة عما تعرضوا له ، وهناك من لا زالوا متأثرين من ذلك رغم مرور سنوات طوال على تحررهم ولا يتسع المجال هنا للحديث عن تلك التجارب والمعاناة لكنهم سيبقون شواهد حية على وحشية التعذيب في دهاليز الزنازين ومسالخ التحقيق .

و لم تعد هناك عائلة فلسطينية واحدة لم يذق أحد أفرادها مرارة السجن ، كما لم يَبقَ هناك فلسطيني لم يعانى مرارة الإعتقالات والمداهمات الليلية … والإحتلال في كل الأحوال هو السبب … والمقاومة هي نتيجة طبيعية ، وإذا زال السبب فلا وجود للنتيجة !!

والأسرى جزء لا يتجزأ من شعبنا الفلسطيني فانخرطوا في صفوف النضال وقدموا الغالي والنفيس ، وتركوا عائلاتهم وأطفالهم وأحبائهم وقادوا معارك المقاومة والشرف فكان لهم في سجل التاريخ والمقاومة سطوراً مضيئة .

وحتى خلف القضبان لم ترهبهم السلاسل ولا قساوة السجان ، فخاضوا معارك عدة من أجل الكرامة والعزة ، و هم ليسوا أرقام وأعداد مجردة ، فهم ليسوا سبعة آلاف ونصف … ولا هم 600 ألف حالة اعتقال على مدار سني الإحتلال .. فهم ليسوا كذلك، ولن يكونوا كذلك يوماً !!

إنهم تاريخ وتاريخ رائع ، مشرق ومميز أُختزل بقضية اسمها الأسرى ، قضية عمرها عقود من الزمن .. فلكل أسير قصته بل قصصه وحكاياته ، ولكل معتقل أحلامه وطموحاته ، ولكل أسير أماً لها دموعاً ذُرفت لتكتب بها عشرات القصص ، وللأسرى أصدقاء وجيران اشتاقوا لرؤيتهم وعانوا من فراقهم ، للأسرى أشقاء فرقتهم الأسلاك الشائكة ومزقت أوصالهم جدران السجون ، وحتى في السجن الواحد فرقتهم الجدران والأسلاك ، وللآباء الأسرى أطفالاً حرمتهم القضبان من الإستمتاع ولو للحظات بدفء أحضان آبائهم ، ومرت السنون ليتعانق الأبناء والآباء خلف القضبان …

فالأطفال كبروا وكبر الجرح معهم … ولم تضمد جراحهم إلاّ إذا تحرر كافة الأسرى وأزيلت آثار الإعتقال وتوابعه من أذهانهم … أما نحن جيش الأسرى المحررون وبالرغم من مرور سنوات على تحررنا إلاّ أننا نحيا في السجن ويحيا السجن فينا ولا زلنا أسرى للسجن وعاداته ، للسجن ومفرداته ومصطلحاته ، للسجن وذكرياته الممتعة والمؤلمة ، للسجن وآلامه وعذاباته.

وبسبب كل هذا فالأسرى … قضية لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها ، وأنا على ثقة مطلقة بشعبنا الفلسطيني ، فشعب كهذا أنجب هؤلاء العظام لا يمكن أن ينساهم ولو لبرهة واحدة … كما لايمكن لأية قيادة فلسطينية أفرزها و يفرزها هذا الشعب أن تتجاوز هذ القضية ، وعلى الأسرى وذويهم والأسرى المحررين أيضاً أن يكونوا واثقين من ذلك ، ومنذ نشأة السلطة الوطنية وتحديداً بعد إنشائها لوزارة الأسرى والمحررين حدث تطور نوعي ومميز تجاه الأسرى والمحررين من حيث الإهتمام بهم والخدمات التي تقدم لهم ولذويهم ، وهذا يسير بمنسوب تصاعدي نأمل أن يتوج بالإفراج الشامل عن كافة الأسرى ، والأخ محمود عباس ” أبو مازن ” رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، هو واحد من القيادات التاريخية لشعبنا الفلسطيني ، ومن تَشرفوا بلقائه أخبروني بأنه رجل يكن كل الإحترام والتقدير للأسرى وللأسرى المحررين ونضالاتهم ومخلص لقضاياهم ومتمسك بحقهم في الحرية ، ولقد سمعته مراراً عبر وسائل الإعلام يُؤكد على تَمسكه بقضية الأسرى .

وبالرغم من ذلك أناشد الأخ أبو مازن وضع قضية الأسرى والأسرى المحررين على سلم أولويات منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية في المرحلة المقبلة والعمل الجاد والحثيث من أجل الإفراج عن كافة الأسرى ، ووقف معاناتهم ومعاناة ذويهم المتواصلة ، ولا سيما أولئك الذين أمضوا سنوات طوال خلف الأسر ، والمرضى وكبار السن والأطفال والأسيرات ، وعدم السماح بتكرار ما حدث في أوسلو من أخطاء .
فنحن شعب تواقون للسلام ، ولكن لا يمكن للسلام أن يتحقق دون الإفراج عن كافة الأسرى وإغلاق هذا الملف ، وإزالة كافة آثاره ، فالأسرى بوصلة الأمن والإستقرار في المنطقة ، وحينها فقط يمكن الحديث عن السلام والتعايش السلمي ، السلام العادل والشامل … ودون ذلك لن يكتب لأي اتفاق النجاح .

* أسير محرر أمضى عدة سنوات في السجون والمعتقلات الإسرائيلية .