17/5/2008

أباء وأمهات خلف جدران أسمنتية بعيدون عن أولادهم وعن أزواجهم وزوجاتهم ، أولادهم محرومون من الحنان من مسحة الأب الحاني وحضن الأم الحنون ، غيّبتهم السجون وباتوا يعيشون على أمل اللقاء ، يحلمون مع مرور ذكرى ميلاد ولد من أولادهم وهم في الأسر بآلاف الأحلام ، أحلام غاية في الصعوبة مجبولة مع أمنيات بقرب تحقق هذا الحلم ،يتمنوا ان لا ينهضوا من حلمهم؛ حلم في عناق الولد وتقبيل الابنة وتعويض الزوجة .

إنها ضريبة الأسر ضريبة الاعتقال ، أطفال وشيوخ خلف قضبان الأسر لا يعرف ذويهم للنوم سبيل ولا للراحة طريق ولا للبسمة مكان، هذا حال من اعتقلت بنيته وطفلته التي لطالما تراقصت على صدره ، هذا هو حال أحلام التميمي التي اعتقلت ولم تبلغ من العمر 20 عاما وتركت خلفها قلب أم وأب يموت في كل يوم ألف ألف مره .

الصورة الأخيرة للشيخ سعيد بلال:
لمس اليد أثناء زيارة الأسير لذويه أمنية صعبة مستحيلة بعيده لا يمكن أن تتحقق ، وتصوروا معي أن أقصى أمنيات أسير حكم مدى الحياة تكمن في التقاط صوره مع أمه أو أبيه الذين تجاوزا السبعين وهو لا يعلم هل سيتمكنون من زيارته مره أخرى أو أن الموت سيزورهما كما حدث مع أولاد الشيخ سعيد بلال الذي سمح له بالتقاط صورة مع أولاده الثلاثة المعتقلين من سنوات طويلة والمحكومين مدى الحياة ولقي ربه بعدها بأيام وبقيت الصورة الأخيرة الذي ضم فيها الشيخ أولاده تحمل بين طياتها عشق الولد لحضن أبيه .

ما شعور من لم يلتقي بولديه إلا بعد 25 عام وخلف القضبان؟
اقسم بالله أنها حدثت ،هذه القصة أيضا تصلح لتكون فلم سينمائي، ولكن بظني لن تستطيع أن توجد من هو قادر على إخراجها على حقيقتها فالمشاعر تحس وتستشعر لا تصور ، قصه فخري ألبرغوثي أسير منذ عام 1978 نعم قبل 30عاما.. لم أخطئ بكتابة الرقم فالرقم صحيح والحكاية صحيحة أيضا، هادي وشادي قررا بعد يأسهما من كل التنظيمات والحكومات أن يعملا لإخراج والدهم وعمهم نائل وقبل أن يتم الحلم اعتقل الشابين وساقتهما الأقدار إلى حيث أبوهم ودخل هادي وشادي إلى زنزانة والدهم بعد 25 عام وارتمى الفتيه في حضن أبوهم وأجهش الجميع بالبكاء والصراخ نعم لقد بكى سعيد ألعتبه المعتقل منذ 32 عام وبكى نائل ألبرغوثي المعتقل منذ 30 عاما وكذلك وليد دقه وأبو علي يطا وأبو علي سلمه بكى كل القدماء من هول المنظر بكوا لأن مشاعرهم لم تمت ولم تستطع سنوات السجن الطويلة من قتلها ، قد تتجمد حينا من الدهر لكن القلب الذي حوى بين جنابته حب الوطن لا يموت ، بدأ الفتيه بشم رائحة الأب الذي أعياه الزمن ، وغيرت ملامحه رطوبة المكان وقسوة الشتاء، لم يصدق الوالد الذي أمضى 30 عاما من عمره في السجون يحلم بعناق ولديه أن يعانقهما وهو في الأسر لم يحلم بذلك أبدا ،على الجانب الأخر لا نريد أن ننسى مشاعر الأم التي فقد زوجها قبل 30عاما وها هي تفقد ولديها بعد 25 عام ، ما هو شعورها بعد أن أصبحت وحيدة بلا زوج أو ولد حتى الأولاد التي أمضت عمرها في تربيتهما ذهبا ولا تعلم متى العودة ستكون .

عرس ابنة أقدم الأسرى أبو علي سلمه:
ولدت “سناء” وهو في الأسر وكبرت وزُفت إلى زوجها عروسا من دون أن يكون أباها الأسير احد المدعوين لحضور حفل زفافها ،27 عام هي التي مضت على اعتقال أبو علي سلمه وهو ذاته عمر ابنته سناء ، أمضى هذه السنوات الطويلة وهو يتخيل نفسه ببدلته السوداء يودع ابنته، ويقول لعريسها هذه ابنتي غبت عنها طويلاُ في السجون وهي أمانة في عنقك هي أغلى ما املك, لا هي كل ما املك ، ولكن للأسف زفت سناء إلى زوجها وأباها ما زال أسير زنزانة وأحلام بدأت قبل عقود ولم تنتهي بعد.

ولاء ترفض وليد خالد:
بكل بساطة أنت لست بابا وترفض أن تتحدث معه ليس هذا وحسب بل لا تريد النظر إليه وتغضب من أمها لأنها تتحدث معه ، والسبب أنها ولدت وهو في الأسر ومضت السنوات وما زال رهين محبسه حاول استمالتها ببعض الحسنات التي اشتراها لها من مقصف السجن، بعد عناء وافقت ورضيت أن تنظر إليه ، وبدأ يصب عليها الوعود لما أروح سأشتري لك يا بابا ما تريدين وساخذك إلى كل مكان لم يستطع أن يكمل وعوداته فالنصف ساعة انتهت وحتى يحين موعد الزيارة القادمة ستكون الطفلة نسيت كل شيء وحتما أنه سيعود من جديد لاستمالتها وكأنه لم يفعل شيء هذا ما قاله وليد خالد والذي أمضى خمس سنوات في الاعتقال الإداري ورزق بابنته وهو في الأسر وخرج ووجدها قد كبرت وعاد واعتقل ليرزق بطفلة أخرى وهو في الأسر وليعود ليدفع ضريبة المشاعر من جديد .

بابا ساكن في الجوال:
أما يقين ابنة الأسير فازع صوافطه والتي لم تتجاوز العامين فتعتبر والدها ينام في داخل التلفون فالأسير الذي اعتقل وحرم من ابنتيه وحول للاعتقال الإداري في سجن النقب حاله أفضل من حال باقي الأسرى حيث يتواجد في قسمه جهاز نقال يستعمل في السر والخفاء يتحدث من خلاله مع ابنته ويداعبها ويدللها ولكن تقول لوالدتها إن أبي ينام في البلفون ، وإذا ما غضبت يقين من أمها فأول ما تقوم بفعله الذهاب للجهاز النقال وتبدأ تشتكي لوالدها الذي تظن انه نائم في البلفون وتنهمر منها الدموع ، من دون أن يمسح عنها هذا النقال دمعه أو حتى رنه.

عائشة وغياب والديها وليد الهودلي وعطاف عليان:
قصة حقيقة تصلح أن تكون فيلم ، ومن المؤكد انه سيكون تراجيدي جدا وسيحصل على الأوسكار إن شاهده أي شخص لديه قلب او بقية من إحساس.

أم عائشة (عطاف) بإصرار وروح وقوه أضربت 16 يوم متتالية لتحصل على قرار بضم ابنتها لها ، وليصبح وليد الذي سبق أن اعتقل لمدة 12 عاما وحيدا أفرج عن الطفلة بعد أن وصل عمرها عامين وأخذت من حضن أمها الأسيرة بعد ان كانت تعيش في ظروف لا تصلح لحياة البشر فما بالك في الصغار ، وتخرج عائشه لحضن والدها الذي لم يمهله الاحتلال سوى أشهر قليله فأعاد اعتقاله لتصبح عائشة وحيده غير قادرة على تفسير ما يحدث سبب ترك والدها ووالدتها لها فهي لا تعرف بعد قيمة الأوطان ولا تجد لقصتها شبيه في أي مكان ، وتعجز الجدة التي لا تسعفها الدموع تفسير الحكاية لعائشة الوحيدة ، ويبقى وليد وعطاف يدفعون ضريبة المشاعر بقسوة لا يتحملها إلا العظماء .

إباء وأُسيد وأحلامهما التي لا تنهي:
تقول أم أسيد زوجة إبراهيم ماضي والذي أمضى أكثر من أربعه عشر عاما من عمره الذي لم يتجاوز ال37 في سجون الاحتلال ، منذ اعتقال إبراهيم وأنا أعاني من تكرار اعتقاله ومن كثر عدد اعتقالاته لا اعرف عددها رزقنا الله بطفلين ربيتهما من دون أن يعرفا والدهما إلا من خلال شبك الزيارة ، هذا أن سمح لنا أن نزور فخلال الأعوام الثلاثة الأولى لانتفاضة الأقصى منعنا من زيارته، وتضيف أم أسيد وتقول أولادي لا يعرفون تقاسيم وجه أبيهم إلا من خلال الصور ، يحبون النوم لعلهم يرون والدهم في أحلامهم، من الصباح تأتيني إباء لتقص علي حلمها الوردي وكيف أن أباها كان يقبلها ويلاعبها ، أما أسيد فهو يقلد شقيقته ولكن بطريقه أكثر استغلالا حيث يقول أن أبي أتاني في المنام وقال لي سأخبر أمك لتشتري لك هديه جديدة أو أي لعبه تريدها ،هكذا يعبر الاطفال عن المشاعر في بلاد فيها 11000 أسير وأسيره .

وللمرء أن يتخيل كيف تصبح الصورة هي الأب والأحلام هي الوسيلة في الحصول على الأماني ، وكيف يصبح الهاتف النقال هو الحضن الدافئ الذي على شاشته تذرف الدموع وتقدم الشكاوي.

العيد وبأي حال عدت يا عيد ناصر عبد الجواد:
تحاول جاهدة زوجة الأسير ناصر عبد الجواد أن تعوض أولادها غياب أبيهم ولكن ما لم تنجح فيه هو أن تحاول أن تنسيهم أباهم في يوم العيد ، فالوالد الذي أمضى أكثر من 13 عام خلف القضبان وعاد واعتقل بعد عام من خروجه من الأسر وقد رزق خلال هذه الفترة بابنه محمد ، تقول أم اويس أن لا طعم للعيد لدى أولادها منذ أن كانوا صغار فطوال عمرهم لم يتمكنوا من أن يحضروا عيد واحد مع أبيهم ينظرون إلى أبناء عمهم والى جيرانهم والنار تحرق قلوبهم فهم لا يستطيعون التنقل مع الوالد لا يحبون الخروج يوم العيد ويشعرون أنهم وحيدون ، لا يستطيع العم أو الخال مهما بلغ حنانهما أو حبهما للأطفال من أن يعوضوهم عن والدهم فالوالد لا يعوض، وتعود المشاعر لتقتل في الصدر قبل أن تخرج فهذه ضريبة الوطن.

عباس السيد لا يستطيع توديع أمه:
عباس السيد مهندس فلسطيني حكم 67 مؤبد أي ما يقارب 6700 عاما انتهت أحلامه بعد أن توفت والدته الذي لم يستطع أن يراها إلا مرتين خلال سنتين وفي المرة الاخيره نقلت له بسيارة إسعاف ودعها وكله أمل أن يفرج عنه ليقوم برعايتها وخدمتها إلا أن إرادة الله شاءت وقدرت وماتت من دون أن يلقى عليها نظرة وداع أو أن يشارك في تشيع جثمانها .

في الدول الأخرى (والمتقدمة منها) الأطفال الذين يعانون من أزمات أو حروب أو فقدان احد الوالدين تقدم لهم كثير من البرامج التي تعنى بالدعم النفسي أما في بلادنا فهم لا يحظون بأكثر من نظرة شفقه هذا أن وجدت أصلا .

أحلام أهل فلسطين (وأحلام الأسرى) ليست كأحلام أباء وأمهات وأبناء العالم، أحلامهم تختلف كثيرا , أحلامهم تولد خلف قضبان وتنتهي مع سماع صوت صراخ السجان أمور إنسانية بسيطة ، غدت لدينا ولدى أسرانا أحلاماً كبيرة غالية الثمن، صعبة المنال ولكنها أحلام وأمنيات فمن يملك منع الحلم والتمني؟؟؟ هكذا تكبت المشاعر وهكذا تحترق القلوب لوعة وشوقا وحبا للقريب البعيد وللأب الغائب والصديق المنسي .

أحاسيس كثيرة ومشاعر جمة حبيسة صدر أسير أو أسيره سواء كانت أم أو أب تنظر الفرج وتنظر اللقاء ، يحدوها الأمل لعل القادم أفضل ولعل غدا أجمل ولم تموت النفوس ما دام هناك أمل… وتوته توته ولم تنتهِ الحدوتة فخلف الأسر آلاف القصص والحكايا.

فؤاد الخفش
باحث ومتخصص في شؤون الاسرى الفلسطينين
0599255529