13/9/2005

الفقراء لا يعرفون غير لون الحداد , وفي كل قري مصر أصبح الحزن طقسا يوميا وكأنه أنين ناي ممتد بلا انقطاع وما حدث في قرية دلاص ببني سويف في يوم التاسع من شهر سبتمبر حين سقطت مقطورة جرار زراعي عليها 17 من أطفال القرية في المصرف الزراعي ليلقي 13 منهم حتفهم غرقا .

لم يكن هذا هو الحادث الأول ولن يكون الأخير , فلقد تسببت سياسة الحكومة التي أغفلت الأطفال العاملين بقطاع الزراعة إلي سقوط الكثير من الضحايا ..

أرغمتهم ظروف الحياة القاسية للخروج إلي العمل في الحقول أحيانا يشتلون الأرز وتارة يجمعون لطع دودة ورق القطن أو يرشون المبيدات ومع موسم الحصاد يقومون بجني لوزات القطن البيضاء

ويحدث كل ذلك تحت قيظ الشمس وفي هجير الصيف ومع بدايات الشروق وحتى حلول المساء لقاء ثلاثة جنيهات يوميا هي في الحقيقة خطوة نحو تحقيق الحلم , وحلم أطفال القري قميصا وسروالا وحذاء جديدا وكل ما يلزم من كتب وكراريس وأقلام للعام الدراسي الجديد , أحلام صغيرة لكنها مستعصية وصعبة المنال علي أطفال كتب عليهم أن يحرموا من طفولتهم وأن يدفعوا الثمن أما موتا بالمبيدات وتحت عجلات الجرارات

وقد يبدو الأمر أشد ضراره وقسوة حين يصبح هؤلاء الأطفال مسؤولين عن إعالة أسرة فقدت عائلها , أو إصابة المرض بالعجز عن العمل توفير متطلبات الحياة , وقرية دلاص محافظة بني سويف مثل كل القري ماتت في حقولها الزنابق وداست سنابل واقع لا يرحم براعمها قبل أن يشتد عودها وتصبح قادرة علي التجلد والاحتمال .

حين ذهبنا إلي قرية دلاص في بني سويف لم تفاجئنا أخاديد الحزن في وجوه الناس وسحابات الكآبة … شئ ما قد تلمحة في العيون ربما لم تجده في ملابس الحداد .

هذا التسليم العاجز بالمكتوب والقدر , النظرات الزائفة المنكسرة الحيرى والشفاه التي تتمتم بآلية غير واعية … قدر الله وما شاء فعل كنا نود أن نقول للنساء المتشحات بالسواد أن الله لم يقتل أطفالنا ولم يخلق الحقول لتصبح أفخاخا لهم …

ولكنة عجزنا عن مقاومة تلك السياسات التي أتاحت أن يمتلك بعض الناس كل شئ وألا يمتلك السواد الأعظم من شعبنا أي شئ , فكان من الطبيعي أن يقضي بعض الأطفال أيام الصيف علي شواطئ مارينا وأن يموت الكثير من الأطفال من المعاناة وقيظ الشمس

وبالتأكيد فغبن تلك المأساة ستظل قائمة ما لم توفر الحكومة الحياة الحرة الكريمة لتلك الأسر التي سقطت تحت خط الفقر مما أرغمهم علي دفع أطفالهم إلي سوق العمل قبل الأوان .

يقول كتاب جرائمنا السوداء أنه في يوم التاسع من سبتمبر سقط كل من : عيدة صابر ” 16 سنة ” وإيمان أحمد حميدة ” 15 سنة ” ونعمة عزمي محمد ” 13 سنة ” وشقيقها محمد عزمي ” 12 سنة ” ونادية صابر عباس ” 16 سنة ” ومحمد صابر حسين ” 15 سنة ” ونورا عبد الله حميدة ” 10 سنوات ” ومديحه حسين حميدة ” 25 سنة “وخالد عبد الحليم حافظ ” 14 سنة ” وهناء حسين عبد العزيز ” 13 سنة ” وشقيقتها مرفت حسين ” 10 سنوات ” وأحلام جمعة محمدين ” 13 سنة “وسيدة محمد سيد ” 35 سنة ” , أما المصابين فهم هدية جمعة محمد وإيمان محمد سعد ومحمد وحيد جودة .

يقول عزمي محمد والد الضحيتين محمد ونعمة لباحثي أولاد الأرض لحقوق الإنسان ” أنا أعمل باليومية ولولا ضيق ذات اليد لما خرج أولادي للعمل بثلاثة جنيهات في اليوم حيث يبدء عملهم منذ الخامسة صباحا بعد صلاة الفجر وحتى المغرب ماذا أقول … حسبي الله ونعم الوكيل … حسبي الله ونعم الوكيل ” .

وتضيف الحاجة أم هاشم أحمد جارة المتوفية مديحه حسين ” كانت مديحه أرملة وتعيش بمفردها في منزل بسيط تركه لها زوجها المتوفى منذ سنوات وترك لها 5 أطفال تعولهم في المراحل التعليمية المختلفة وليس لها مصدر رزق إلا العمل في جني القطن ” .

ويؤكد ربيع عبد الحفيظ لباحثي أولاد الأرض لحقوق الإنسان ” أن هؤلاء الأطفال كانوا يعملون في جني القطن وأن الفرد فيهم كان يتقاضي 3 جنيهات عن اليوم الواحد والكبار منهم 5 جنيهات وأن اغلبهم كان يعمل لتوفير مصاريف المدارس ” .

أما عبد الحليم حافظ المصاب بعجز لإصابته منذ 20 عاما في حادث وتم بتر قدميه ويجلس علي حصيرة داخل منزلة وليس لدية كرسي متحرك ويحمل في عنقه 5 أولاد تتراوح أعمارهم بين 10 , 20 عاما فيقول عن ابنه ” خالد ” الذي لقي مصرعه ” حصل خالد علي الإعدادية ورفض أن يكمل دراسته ليساعده علي العيش

كان طيبا , وكنت أعتمد عليه في توفير مصاريف البيت لي ولأخوته , اليوم لست أدري إلي أين أذهب , ومن سيسأل عنا بعد موت خالد “.

وتقول والدة الضحية أحلام ” أن ابنتها برغم صغر سنها هي التي كانت تصرف علي البيت وتخرج إلي العمل لأن والدها متوفى منذ أكثر من عامين , تركت المدرسة حتى تستطيع ان تساعد أختها الطالبة في كلية الآداب وشقيقها في المرحلة الإعدادية ” .

ويقول محمد عبده عن الضحية عيدة صابر ” لقد تركت ستة أشقاء وأمها بعد موتها بدون دخل , فقد كانت تعمل في الحقول بأجر لمساعدتهم في المعيشة منذ وفاة والدها حتى أنها أجلت الزواج إلي بعد دخول المدارس حتى تشتري لأشقائها مستلزمات المدارس ” .

أما والد الضحيتين إيمان ونورا والذي وجدناه جالسا علي كرسي متحرك وقدمه اليمني مبتورة , يقول لباحثي أولاد الأرض لحقوق الإنسان وهو يحاول أن يخفي دموعه ” كان زفاف إيمان الخميس القادم اشترينا لوازم الفرح واتفقنا مع عريسها علي موعد الزفاف كانت إيمان ونوره تساعداني في المعيشة عن طريق العمل في جمع محصول القطن والطماطم , من أين احصل علي قوت يومي أنا وزوجتي بعد وفاتهما ” .

كانت أم الضحيتين جالسة تبكي قالت لنا وهي تجهش بالبكاء ” نورا الشقيقة الصغرى لأيمان ودعتني صباح يوم الحادث وأيقظتني من النوم , لم يحدث ذلك من قبل , ولم أكن أتوقع أن تكون هذه القبلة الأخيرة ” .

أما خالة الضحية سيدة محمد سيد فتقول ” سيدة متزوجة منذ 10 سنوات وزوجها مريض ” نفسي ” وكانت تقول الأسرة , في يوم الحادث خرجت ومعها ابنها محمد وحيد لجني القطن , لها ابنتان في المدرسة الابتدائية , وزوجها عندما علم بوفاتها أصيب بحالة إغماء شديدة ولم يتمكن من الخروج في جنازة زوجته ”

ويحكي محمد عبده عن المتوفية نادية صابر عباس قائلا ” كانت نادية تعول نصف دسته من الأشقاء وأما عجوزا كما كان لها 4 بنات وولدان , الأولاد جميعهم في المدارس وكانت تعمل في الحقول من أجل الإنفاق عليهم وتوفير مصاريف المدارس , أسرتها لا تتوقف عن الصراخ حزنا عليها فلم يعد لهم من يعولهم بعد وفاتها ” .

هكذا بدت لنا قرية ” دلاص ” التابعة لمركز ناصر بمحافظة بني سويف وهي تودع أبناءها وقد ظللتها سحابات قاتمة .. سحابات فشلت الشمس برغم وهجها وسطوعها الدائم في هذا الصيف أن تبددها , مقطورة جرار تنفصل فجأة وتسقط في المصرف لتقتل 13 من ركابها … هكذا في لحظة مات أطفال في عمر الزهور … كان ذنبهم الوحيد أنهم ولدوا لأناس فقراء …!

” من جانبنا … فإن أولاد الأرض لحقوق الإنسان تري أن مأساة أطفال قرية ” دلاص ” ستتكرر ما لم نعالج أسبابها وأول تلك الأسباب وأهمها هي سقوط الكثير من الأسر المصرية تحت خط الفقر , وأنه لذلك يجب أن تنتهج الحكومة سياسة تتسم بالعدل الاجتماعي وأنه إلي حين تطبيق تلك السياسة ” .

” فإن أولاد الأرض لحقوق الإنسان تطالب وزير التأمينات الاجتماعية بعمل حصر شامل لتلك الأسر ومنحها معاش استثنائي يوفر لها حياة معقولة , كما تطالب السيد رئيس مجلس الشعب بعمل تشريع جديد يحظر عمالة الأطفال ويجرمها حتى لا تتكرر تلك المأساة .