5/3/2006
قد تعطي الأرقام دلالات واضحة لحالة ما ولكنها في المقابل تغفل التفاصيل الدقيقة التي هي في الحقيقة أعمق أثرا وصدقا من كل ما يذكر من أرقام …!
تشير دراسات وأبحاث منظمة العمل الدولية التي أجريت في عدد من دول العالم أن عدد الأطفال العاملين في دول العالم الثالث والذين تتراوح أعمارهم ما بين خمسة أعوام حتي أربعة عشر عاما يزيد عن 250 مليون طفل , 61% منهم يعملون في قارة آسيا , و 32% في قارة أفريقيا , و 7% في أمريكا اللاتينية , وأن غالبية هؤلاء الأطفال يعملون في المناطق الريفية في الزراعة , أما في المدن فيعملون في التجارة والخدمات وعدد قليل يعمل في المصانع والورش وأعمال البناء والخدمات المنزلية , و 5% فقط من الأطفال يعملون في الصناعات التصديرية , وفي مصر تشير التقارير الرسمية أن عمالة الأطفال تمثل 7.6% من إجمالي قوة العمل , وقد اختلف الباحثون في أسباب تلك الظاهرة وأرجعوا التسرب من التعليم أهم تلك العوامل علي أساس أن أكثر من 120 ألف طفل يتسربون من التعليم كل عام , غير أننا ومن خلال البحث المتواصل أتضح لنا أن 80% من أسباب عمالة الأطفال تعود إلي انحدار المستوي المعيشي للأسر المصرية وسقوط 48% من الشعب المصري تحت خط الفقر وهو الأمر الذي دفع بهؤلاء الأطفال إلي سوق العمل في سن مبكرة لمساعدة أسرهم , أما الأسباب الأخري مثل تسرب الطفل من التعليم أو الإنفاق علي نفسه أو تعلم صنعة فلم تتجاوز نسبتها 20% من عدد الأطفال العاملين ..!وقد قدر العدد الإجمالي للأطفال العاملين في مصر بحوالي ثلاثة ملايين طفل …!
5/3/2006
وقد يبدو من الغريب انه بالرغم من الشعارات التي تطلقها الحكومة ليلا ونهارا من أنها تحارب ظاهرة عمالة الأطفال وتجرم مرتكبيها نجدها تغمض العين علي أشد الأماكن قسوة واستغلالا للأطفال ونقصد بالطبع تلك المحارق التي تلتهم الصغار ليل نهار وما من رقابة أو عقاب , ففي ربوع مصر تنتشر أفران الطوب التي تنتصب مداخنها حتى السماء , وعلي سبيل المثال فإن في قرية عرب أبو ساعد التابعة لمركز الصف بالجيزة يوجد أكثر من 275 مصنعا , وفي مزغونة مركز العياط يوجد ما يقرب من 250 مصنعا , أما في ميت غمر بمحافظة الدقهلية فقد وصل عدد أفران الطوب إلي ما يقرب من ثمانين مصنعا , وفي زفتي وكفر الزيات بمحافظة الغربية يزيد العدد عن 150 مصنعا , تلك المحارق يعمل بها عشرات الآلاف من الأطفال دفعتهم ظروف أسرهم القاسية إلي العمل بها , وبالرغم من أن معظمهم يصاب بحساسية الصدر والتهاب الرئة نتيجة لتعرضهم لبودرة الطوب ” والطفلة ” والدخان الناتج عن حرق المازوت إلا أن ذلك يتضاءل إذا عرفنا أن الكثير منهم يصاب بالكسور نتيجة ما يحملونه من طوب والبعض منهم يموت حرقا …!
يقول صبحي جمال لباحثي أولاد الأرض لحقوق الإنسان ” عمري 8 سنوات أعمل هنا من ثلاثة أشهر , أحمل ” الطفلة ” وأضعها في الخلاط من الساعة السابعة صباحا وحتى السابعة مساء مقابل 30جنيها أسبوعيا , أذهب إلي قريتي بالفيوم مرة كل شهرين ساعات كثيرة الطوب يقع علينا … مرة ننكسر … ومرة ننجرح في الأسبوع الماضي مات واحد منا كان شايل ” العصفور ” وعليه 50 قالب طوب , كان ماشي فوق سقف الفرن بالحمل اللي عليه فوقع وسط النار … وأبوه استلم الجثة ورجع بها الصعيد …! بس أنا لازم أشتغل لحد ما أوفر ثمن قيمة إيجار شقة … إحنا عايشين في أوضة واحدة أنا وأخواتي الخمسة …!
أما علي صابر الذي كان يرتدي قميصا متهرئا وبنطلونا لا يخلو من ” الرقع ” وقد هدة الإعياء ولاح وجهه كملامح شيخ في الستين فيقول ” عمري 9 سنين … أخواتي الخمسة لا يجدون من يعولهم بعد “أن مرض والدي وأصبح عاجزا عن العمل , أمي ماتت من سنتين وأختي الكبيرة مش ممكن تشتغل عشان تاخد بالها من أخواتي والبيت وأبويا , الشغل صعب في مصنع الطوب ساعات باتحرق .. وريحه المازوت اللي بيولعوا بيها الفرن وحشة قوي , وكمان البودرة بتاعة الطوب بتبهدل جسمنا علشان هدومنا خفيفة , ومانقدرش نشتكي عشان ريس الأنفار ميزعلش … هوه مايهموش غير الإنتاج ولو حد من العمال أنصاب يتعالج في الأوضة اللي بينام فيها ويخصموا ثمن العلاج من أجرته , صاحب المصنع مالوش دعوة حتى لو مات …! ”
ويضيف أحمد سعيد الذي إلتقينا به في جولتنا ولم نتعرف علي ملامح وجهه من التراب الأحمر الذي يغطيه قائلا ” عمري 10 سنين شغال هنا في المصنع أشيل الطوب ” الأخضر ” إلي الأفران , وبعد حرقه أشيله من جديد وأحمله علي سيارات النقل , لا أزور أهلي في سوهاج إلا في الأعياد , أعطي والدي ما جمعته من فلوس تساعده في المعيشة , أقضي السنة بطولها في العمل بالنهار , وفي آخر الليل أنام في حجرة صغيرة بلا سقف مع 15 طفلا آخرين حالهم من حالي , الحجرة ليس بها مياه ولا دورة مياه , والأكل نشتريه كل أسبوع من سوق ” الصف ” ونطبخة علي نار أفران الطوب , ساعات نشتري لحمة مستوردة أو فرخه مرة كل أسبوع , كل خمسة من العمال يشتركون في دفع ثمنها ويأكلون مع بعض “.
ومن أطفيح جاء محمود شعبان ليعمل في مصنع الطوب يقول محمود لباحثي أولاد الأرض لحقوق الإنسان ” عمري 12 سنة , أعمل في هذا المصنع منذ عام , جئت إلي هنا بعد أن تركنا والدي ولم نعرف له مكانا , أسرتي مكونة من 7 أفراد , خمسة أخوة وأمي , وليس لديهم أي مورد للرزق سوي عملي في المصنع , أجري تحصل عليه أمي كل أسبوع بالكامل , أعمل في المصنع علي الخلاط وقد أسقط بداخله في أي لحظة كما حدث مع أحد العمال ومات … لكنني لا أستطيع ترك العمل علي الخلاط لأحصل علي أجر أكبر , ولا يمانع صاحب المصنع لأنه يريد إنتاج أكبر لا يقل عن 20 ألف طوبة في الوردية الواحدة وإلا سنعاقب بالخصم في نهاية الأسبوع ” .
أما حسن علي من قرية جرزة بالعياط فقد وقف معنا وهو يرتعد من أن يراه صاحب العمل أو رئيس الأنفار … كأن جسده النحيل يحكي عن المأساة وعيناه الوجلتين تكاد تطفر بالدموع وهو يقول ” عمري 11 سنة , ساعات العمل طويلة وأعمل ورديتين ” 16 ساعة ” أحمل الطوب علي ظهري وأصاب بالكسور والجروح وعندها أذهب إلي البيت لأستريح من العمل وبعد أن أعالج أعود مرة أخري إلي المصنع , صاحب العمل لا يعالج أحدا ومن يموت ليس له دية …!”
وتزداد الصورة قتامة إذا علمنا أن أصحاب المصانع لا يقومون بالتأمين علي الأطفال , أما التفتيش من مكاتب العمل فلا وجود له , فمن يصاب أو يموت لا تعويض له أو مساعدة …!
العجيب في الأمر أن المادة 55 من قانون التأمينات الاجتماعية رقم 79 لسنة 1975 والتي تنص علي أن يكون معاش العجز الكامل أو الوفاة لمن لا يتقاض أجرا من هذه الفئات عشرة جنيهات شهريا فقط ويسري في هذا الشأن حكم المادة 51 الفقرة الثانية حيث يزداد المعاش 5% كل خمس سنوات حتى بلوغ المؤمن عليه سن السنتين , أي أنه لابد أن يصاب الطفل بعجز كامل أو يموت حتى يحصل هو وأهله علي عشرة جنيهات, وبالقطع فإن هذا القانون يسري علي الأطفال العاملين في أفران الطوب لأنهم في نظر مديريات التفتيش يعملون بلا أجر أو غير موجودين من الأساس …!
” من جانبنا … فإن أولاد الأرض تطالب وزيرة القوي العاملة أن تقوم إدارات التفتيش بحصر كامل للأطفال العاملين بأفران الطوب والتأمين عليهم وحظر عملهم في الأعمال الخطرة مع إلزام صاحب العمل بالتأمين الصحي عليهم , كما تطالب أولاد الأرض رئيس الحكومة بتعديل قانون التأمينات الاجتماعية رقم 79 لسنة 1975 وزيادة الحد الأدنى لمعاش العجز الكامل لهذه الفئات , كما تطالب وزارة الضمان الاجتماعي ببحث شامل لأسر الأطفال ومساعدتهم ورفع مستوي معيشتهم للحد من ظاهرة عمالة الأطفال التي تعد بحق وصمة عار في جبين الإنسانية …!