15/8/2006

يبدو أن التلوث البيئي من القضايا التي لم تزل علي هامش اهتمام المسئولين والمواطنين علي حد سواء , ففي ظل السعي الدائم لتوفير لقمة العيش يصبح الحديث عن التلوث ترفا لا مجال له … فالمواطن المصري مهموم بغلاء الأسعار والبحث عن فرصة عمل وتوفير الحد الأدنى لمتطلبات الحياة وهي بالفعل أمور أساسية لازمة لاستمرار الحياة … وبالتأكيد فإن التقصير في توضيح حجم التلوث ومخاطره أدي إلي تلك اللامبالاة التي نتعامل بها مع تلك القضية الخطيرة التي لا تهدد حياة الإنسان فحسب بل كل مظاهر الحياة من حيوان ونبات , ومن المضحك أن الحديث عن التلوث البيئي لا يصبح في صدر المشهد المصري إلا في شهري سبتمبر وأكتوبر من كل عام وذلك مع زحف السحابة السوداء علي مدينة القاهرة …

ودائما ما تنتهي الضجة الإعلامية بإنجلاء تلك السحابة … وكأن التلوث البيئي أصبح موسميا ويتلخص في تلك السحابة التي تعد من وجهة نظرنا مظهرا صغيرا من مظاهر التلوث بالمقارنة لمصادر التلوث الهائلة والدائمة والتي لا يلتفت إليها أحد بالرغم من أن تقرير الصحة العالمية الأخير ذكر أن 25% من الأمراض وأيضا حالات الوفاة في العالم تحدث نتيجة تلوث البيئة وأن نحو 13 مليون شخص يلقون حتفهم سنويا ثلثهم من الأطفال دون الخامسة بسبب هذا التلوث ولأن الحال في مصر أكثر سوءا …. ولكي يصبح الأمر أكثر وضوحا وتحديدا فقد قامت أولاد الأرض بعمل رصد لدرجة التلوث وأسبابها في مدينتين … الأولي هي القاهرة الكبري عاصمة مصر أما الثانية فمدينة ميت غمر والقري التابعة لها كجزء من الريف المصري وهما وإن كانا حالتين فإنهما تعطيان دلالة واضحة عما تتعرض له مصر بأسرها من مخاطر التلوث البيئي …

فقد كشف تقرير لجهاز شئون البيئة أن مصادر تلوث الهواء في القاهرة الكبري تتمثل في سبعة مقالب للقمامة عمومية و 20 مقلبا عشوائيا تقوم بحرق المخلفات البلدية بالإضافة إلي 4 مصانع للأسمنت و 750 مسبكا و 70 محجرا و 110 كسارات حجارة و 53 فاخورة و 73 فرنا جيريا و 530 مصنعا للطوب 1206 مصانع تعدين ومعملين لتكرير البترول وخمس محطات لتوليد الكهرباء وما يزيد عن 12 ألف منشاة صغيرة و 269 مكمرة فحم وقد أكدت بعض الدراسات أن أحد أهم الأسباب للسحابة السوداء هو تراكم الملوثات التي تملأ هواء القاهرة علي مدار ال 20 عاما الماضية بسبب تزايد أعداد السيارات من 400 ألف سيارة عام 1980 إلي 1.3 مليون سيارة عام 1998 بخلاف السيارات الوافدة إليها من المحافظات المختلفة وأن عددا كبيرا من تلك السيارات متهالكة ولا تعمل محركاتها بكفاءة لحرق البنزين أو الجاز مما يسبب مضاعفة الملوثات الهوائية من العوادم الخارجة منها كأول أكسيد الكربون وأكاسيد الكبريت والنيتروجين والهيدروكربونات وأكاسيد الرصاص , وقد أكدت الدراسة أن حرق المخلفات البلدية تمثل 36% من أسباب التلوث والإنبعاثات الصناعية تمثل 32% وعوادم المركبات وتمثل 26% أما حرق المخلفات الزراعية والمتهم بها الفلاح المصري فلا تزيد عن 6 % وهو الأمر الذي يؤكد براءته من التهمة الظالمة التي طالما يلصقونها به بأنه المتسبب الأول في تلوث هواء القاهرة ويؤكدون هذا الزعم بأن السحابة السوداء لا تظهر إلا بعد حرق قش الأرز .

أما في مركز ميت غمر والذي يقع في جنوب محافظة الدقهلية ويبلغ إجمالي مساحته 245 كليو متر مربع مما يشكل 7.6% من مساحة محافظة الدقهلية , وتبلغ الكثافة السكانية بالنسبة للمساحة 2350 نسمة لكل كيلو متر مربع , وينقسم مركز ميت غمر إداريا إلي مدينة ميت غمر و 41 قرية و 66 كفر ونجع تابعين لها , وحسب آخر الإحصائيات الصادرة عن مجلس الوزراء وصل عدد سكان المدينة والقري التابعة لها 755900 نسمة يسكن منهم في المدينة وحدها 122650 نسمة بينما يسكن في القري 453250 نسمة , وتبلغ مساحة الأراضي الزراعية 49239 فدانا بما يمثل حوالي 84.41% من إجمالي مساحة المركز

وتعتبر مدينة ميت غمر من أهم المدن الصناعية ” القديمة ” في مصر وتميزت بأنها مدينة الصناعات الصغيرة وذلك علي الرغم من وجود صناعات أخري مثل الغزل والنسيج والصناعات الخشبية , والصناعات الصغيرة تعد من أكثر الصناعات تلويثا للبيئة وخطرا علي صحة الإنسان والحيوان والنبات , ويصل عدد المصانع والورش الحرفية في مركز ميت غمر إلي 1633 مصنعا وورشة يعمل بها 7665 عاملا بخلاف العمالة غير الدائمة والتي تقدر بحوالي 3 آلاف عامل ليصل إجمالي قوة العمل في القطاع الصناعي إلي ما يزيد عن 10 آلاف عامل , كما يوجد في مركز ميت غمر 45 مصنعا للطوب منها 33 مصنعا بالقرى و 12 مصنعا بالمدينة ويبلغ عدد عمالها 664 عاملا , أما مصانع الألومونيوم فيصل عددها إلي 56 مصنع منها 39 مصنعا في المدينة وحدها و 17 مصنعا في القري , وتمثل مسابك الرصاص أخطر مصادر التلوث في ميت غمر ويعاني العاملون في هذه المسابك من هذا التلوث الخطير وتخيم علي المدينة سحابة سوداء تحمل الموت أينما حلت

وقد أثبتت الدراسات والقياسات العلمية الخاصة بمستويات التلوث الناتجة عن مسابك الرصاص أن تركيز الرصاص في الهواء وصل إلي 215 ملي جرام لكل متر مكعب في حين أن الحد الأقصى 20 ملي جرام لكل متر مكعب بزيادة قدرها 1075 % عن المسموح به , كما زاد تركيز الزرنيخ إلي 1.9 ملي جرام لكل متر مكعب في حين أن النسبة المسموح بها 2و ملي جرام أي بزيادة 950 % , وزاد تركيز الانتيمون إلي 9و ملي جرام في حين أن النسبة المسموح بها 5و ملي جرام لكل متر مكعب , أما أكاسيد الكبريت فقد وصلت إلي 556 ملي جرام في حين أن الحد الأقصى المسموح به 60 ملي جرام لكل متر مكعب , وزاد أول أكسيد الكربون إلي 1100 ملي جرام والمسموح به 250 ملي جرام لكل متر مكعب , وزادت الأتربة العالقة إلي 1308 ملي جرام في حين أن النسبة المسموح بها 100 ملي جرام لكل متر مكعب , ومن هذا يتضح أن الزيادة في تركيز الملوثات الناجمة عن مسابك الرصاص هي زيادة قاتلة , فالرصاص الزائد عن النسبة المسموح بها يؤدي إلي تكسير كرات الدم الحمراء وقلة نسبة الهيموجلوبين مما يؤدي إلي فقر الدم المعروف بالأنيميا , وأكثر الناس عرضة لأثر الرصاص هم الأطفال من عمر 1 – 3 سنوات وإذا وصل التركيز الرصاص إلي 6و جزء في المليون في دم الأطفال فإنه يؤدي إلي التسمم والموت المؤكد .

ولا يختلف الحال كثيرا بل ربما يزداد سوءا مع التلوث الناتج عن مصانع الطوب في مركز ميت غمر والتي تبلغ 45 مصنعا حسب التقارير الرسمية التي لم تتضمن عدد المصانع التي لم تحصل علي ترخيص مما يؤكد أن عدد هذه المصانع أكثر من ذلك ولو افترضنا صحة هذا الرقم فإن كل مصنع يحتاج إلي 10 طن مازوت يوميا مما يعني أن تلك المصانع تقوم بحرق ما يقرب من 450 طن مازوت يوميا والذي ينتج عنه دخان كثيف أسود محمل بغازات سامة من بينها غاز ثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين وأول أكسيد الكربون ….

وهذا الغاز الأخير بعد من أخطر أنواع الغازات علي صحة الإنسان فهو يكون مع الدم مركبا صلبا يقلل من كفاءة الدم في نقل الأكسجين وعندما تزداد نسبته في الهواء يتسبب في انسداد الأوعية الدموية محدثا الوفاة , أما غاز ثاني أكسيد الكبريت فإن زيادة تركيزة تؤدي إلي الموت السريع كما يؤدي إلي تهيج الأنسجة المخاطية والعيون ويسبب حساسية للأجزاء الرطبة من الجلد كما أنه له تأثير ضار علي الصدر ومثير للسعال والربو الحاد والمزمن وتلف الأنسجة الرئوية بالإضافة إلي الاحتقان في الحلق والبلعوم وضيق التنفس , ويؤثر غاز ثاني أكسيد الكبريت علي زيادة حموضة التربة مما يؤثر علي الكائنات الدقيقة في التربة الزراعية والتي تعمل علي تهوية التربة كما يؤثر علي قدرة النباتات علي النمو , كما أن ثاني أكسيد الكبريت له تأثير قاتل علي الحيوانات

وتصل نسبة تركيز أكسيد الكبريت في مركز ميت غمر إلي 556 ملي جرام في حين أن النسبة المسموح بها 60 ملي جرام لكل متر مكعب , وبالتأكيد فإن تلوث الهواء من أخطر أنواع التلوث نظرا لأن الإنسان يتنفس بمعدل 22 ألف مرة في اليوم الواحد وهو ما يعني أن مصانع الطوب من أخطر أنواع مصادر التلوث خاصة وأن تلوثها لا يقف عند حد الغازات السامة الناتجة عن حرق المازوت بل إن الغبار الناتج عن تلك الصناعة لا يقل خطورة , فقد أظهرت الدراسة التي قمنا بها أن العاملين في صناعة الطوب الأحمر يتعرضون نتيجة لاستنشاقهم الغبار بالنزلات الشعبية المزمنة حتى وصلت نسبة الإصابة بينهم إلي 13.4% , كما ظهرت حالات التحجر الرئوي علي الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 40 عاما والذين يعملون لفترة زمنية لا تقل عن 15 سنة في بيئة العمل المتربة

أما عن تأثير الغبار علي النبات فإنه من المعروف أنه كلما زاد الغبار علي أوراق النبات فإنه يسد المسام ويقلل من كمية الأشعة الواصلة إلي الأوراق وبالتالي تقل عملية التمثيل الضوئي ويقل إنتاج النبات وقد يذبل ويموت . تلك كانت بعض مظاهر التلوث والتي تختزلها الحكومة في السحابة السوداء , بالرغم من أن الكثير من الباحثين أكدوا أن ظاهرة الانعكاس الحراري أو الاحتباس الحراري التي تؤدي إلي عدم استقرار الظروف المناخية وضعف حركة الهواء في هذا الوقت من العام تؤدي إلي ظهور السحابة السوداء في شهري أكتوبر ونوفمبر من كل عام حيث تتركز الملوثات في طبقات الجو فيشعر بها الإنسان , ولأن ظاهرة الاحتباس الحراري ظاهرة مناخية جديدة علي مصر لم تظهر إلا في السنوات العشر الأخيرة فإن ذلك ساهم في ظهور السحابة السوداء , وبمعني أدق أنه لو كان حرق قش الأرز يتم في شهري فبراير ومارس علي سبيل المثال فمن المؤكد فإن السحابة السوداء لم تكن تظهر علي الإطلاق وبالرغم من أن وزير البيئة صرح أكثر من مرة أن ظاهرة السحابة السوداء سوف تنتهي خلال خمس سنوات فنحن نؤكد أن هذه الظاهرة لن تنتهي ما لم نقم الحكومة بدور حقيقي وفعال لإنهائها

فالفلاح المصري يرغم علي حرق قش الأرز لأن قش الأرز في الحقول يصبح مرتعا للآفات التي تهدد زراعة البرسيم والقمح وهو ما يصيب الفلاح بخسائر فادحة في الوقت الذي تبخرت فيه وعود الحكومة عن توفير المكابس وتدوير قش الأرز في صناعة الأعلاف والأسمدة والورق , وكلها وعود نسمعها كل عام مع مطلع شهر أكتوبر وتتبخر مع انتهاء السحابة السوداء أما الأخطر فهو عدم تفعيل قانون البيئة رقم 4 لعام 1994 والذي أصبح حبرا علي ورق وخاصة بالنسبة للمصانع التي لم توفق أوضاعها بيئيا حتى وصلت خسائر مصر من تلوث الهواء 6.4 مليار جنيها سنويا كما جاء في أحد تقارير البنك الدولي ….

” لذا فإن أولاد الأرض تؤكد أن التلوث البيئي لا يمكن اختزاله في ظهور السحابة السوداء وأنه يجب علي رئيس الحكومة بأن تكون قضية التلوث البيئي في صدر أولويات حكومته مما يحتم عمل برنامج متكامل لحماية البيئة مع توفير الإمكانيات المادية والبشرية لتنفيذ هذا البرنامج , بما يضمن القضاء تماما علي كل المشاكل البيئية وذلك تطبيقا لحق أصيل من حقوق الإنسان وهو الحياة في بيئة نظيفة خالية من التلوث ….