19/6/2008
العمل السياسى ليس خطابة فى المؤتمرات
أو وقوفا على سلم النقابات.
عفوا لكل من على رأسه ” بطحة ” أو يتصور أن النضال يكون باستدراج الفلاحين للإحتفالات فى قاعات النقابات .. بينما يصمُّ أذنيه عن مناشداتهم المتكررة قبيل كل معركة يخوضونها مع أجهزة الدولة وورثة كبار الملاك السابقين أو عصابات السطو المنظمة على الأراضى.
فالقضية التى تهمهم هى الأرض، وموضوع مقاومتهم هو الأرض وميدان صراعهم هو الأرض وليست الاحتفالات أو قاعات النقابات أو حتى ساحات المحاكم فالقرى تخلو عادة من منابر الخطابة.
• لقد امتنعت أغلبية الصحف التى ناشدها فلاحو عزبة محرم بالرحمانية بحيرة عن إرسال مندوبيها وقت الشدة وإبان تنفيذ أحكام ملفقة ليسوا طرفا فيها .. ولحظة إقحامهم ليكونوا طرفا فيها، بينما انهالت الاتصالات التيليفونية عليهم بعد أن انتهت الأحداث .
*فبعد أن كلفت رئيسة تحرير إحدى الصحف صحفيا تعرف أنه متوجه لتغطية الأحداث .. ألقت بما كتبه- وهو مركز وشامل ودقيق وحى- فى سلة المهملات ونشرت عن الموضوع أربعة سطور هزيلة نقلها صحفى آخر بالتيليفون.
*وتهرب صحفيو جريدة يومية كانوا فى العزبة قبل أربعة أيام واستمعوا لتفاصيل دقيقة عن الموقف وأدركوا حقيقة أبعاده ومخاطره المحتملة ولم ينشروا سطرا واحدا.
*وتجاهلت صحف أخرى الموضوع من أساسه واعتبرته حدثا مكررا يقع كل يوم ولا بريق له.
• ولم يحضر ناشط حقوقى واحد أو محام إلى العزبة إبان الأزمة ..
• لكن بعد انتهاء الأحداث هرع إليها من يدعو فلاحيها لحضور مؤتمر سياسى مساء الإثنين 23 /6/2008 بنقابة الصحفيين ولم يُعرف عنه فى يوم ما اهتمامه هو أو حزبه بقضايا الفلاحين.. ناسيا أن عمدة
قريتهم دعاهم قبل يومين إلى مديرية الأمن حيث تم القبض عليهم.
ولكى يتفهم هؤلاء جميعا مخاطر ما يقترفونه.. وأبعاد ما يحدث فى القرى نوجزه فى السطور التالية:
– فى وقت سابق كان دور أجهزة الدولة دورا داعما ومساعدا ومتواطئا مع جميع الطامعين فى أراضى الفلاحين، وكانت تغض الطرف عن جملة من التجاوزات والمخالفات لقواعد التنفيذ أو تزوير فى صيغ الأحكام..
– أما الآن فقد تحول دورها إلى دور مبادر وقائد ومنظم لعمليات سلب أراضي الفلاحين.
– بل واستحدثت للبلطجة دورا جديدا غير دورها فى الإنتخابات العامة وصد المظاهرات ووأد الإضرابات هو دورها فى التنفيذ العملى للأحكام الملفقة وتأديب الفلاحين والعدوان على الفلاحات، بينما يقتصر دور الشرطة فى كثير من الأحيان على إعلان تواجد الدولة فى مثلا هذه العمليات ويكون تدخلها فى الوقت الذى تفرضه الظروف.
– والقانون المعمول به فى مصر ليس المدون فى كتب القانون والوقائع والجريدة الرسمية.. بل هو ما يريده فى التو واللحظة الحلف المالك وممثلوه فى كراسى الحكم بالإضافة إلى نوابه فى الأقاليم وكذا الحكام المحليين والمتنفذين.
– وفى معسكر الفلاحين تتراكم مجموعة من الثغرات منها:
- الأمية بكل أنواعها خصوصا القانونية.
- غرق حتى الآذان فى الأوهام القانونية التى تصور لهم أن فى هذا البلد قانونا يتم احترامه والالتزام به .
- وأوهام أخرى عن اقتصار الفساد على عدد من الموظفين أو الحكام المحليين وفروع أجهزة الدولة فى الأقاليم.
- تدنى شديد فى الوعى السياسى والنقابى.
- تبعثرهم وضعف ترابطهم وسيادة منطق الحلول الفردية بينهم.
- ضعف المحامين المحليين الذين يتولونالدفاع عنهم فى قضايا الأرض .
وهذا يعنى أن قدرتهم على المقاومة مرتبطة بكل تلك الأمور ونهوضهم مشروط بتغييرها ، وتغييرها لن يتم بـ ” نضالات المثقفين” الاحتفالية أو بطبعتها الجديدة المسماة بالوقفات الاحتجاجية على سلم النقابات المهنية.
– والفلاحون لن يثقوا فى أية أحاديث تلقى على مسامعهم مهما كان إطراؤها لهم إلا إذا وضعت أيديهم على حلول عملية لقضاياهم ويكون فى استطاعتهم تنفيذها، ولن يثقوا فى أى إنسان يصيبه الصمم عند استغاثتهم و” يجرى نحوهم بالشوط بعد خراب مالطة ” والأمثلة كثيرة لكن مثال سراندو خير دليل:
• فبعد انتصار ساحق و مدوّ لفلاحى سراندو على جيش المرتزقة عام 2005.. وبرغم الثمن الباهظ الذى دفعه الفلاحون ومعاناتهم لشهور فى أعقابه.. تبخرت أغلب نتائجه من بين أصابعهم وتطايرت أهم دلالاته والتى نعنى بها الصمود ومقاومة فرض الإرادة عليهم، وما الأحداث المتناثرة الأخيرة التى وصل بعضها إلى مسامعنا إلا مؤشرا عما يعتمل تحت السطح ويدور بعيدا عن العيون ، فلم يتبق سوى أحد عشر فلاحا لا غير هم المتمسكون بأرضهم وبلاءاتهم الثلاث ( لا مساومة.. لا بيع .. لا شراء) أى لا مساومة على الأرض مع عائلة نوار الإقطاعية، ولا بيع لأى قيراط منها لتلك الأسرة، ولا شراء لما تحت أيدي الفلاحين من أرض ..
لماذا؟ لأن جميع فلاحى سراندو الذين كانوا مشتبكين فى صراع ضارى مع آل نوار- ماعدا هؤلاء الأحد عشر- إما تركوا الأرض بمقابل هزيل أو تركوا جزءا منها مقابل احتفاظهم بجزء آخر، أو حصلوا على ” خلو” وغادروها نهائيا،أو اشتروها من آل نوار والأسماء موجودة لكل من يهمه التيقن من ذلك.
وإذا ما تساءلنا عن السبب لوجدنا أنه يتلخص فى الآتى:
- افتقاد الفلاحين لأى جهد سياسى مبذول ممن يعتبرون فى حكم قادتهم أو مُرَشّدى حركتهم.
- عزلهم بعيدا عن أية جهود يمكن أن تساهم فى رفع وعيهم من آخرين.
- استغراق أغلبهم فى الأوهام القانونية.
- اقتصار الدور القانونى على القضايا الجنائية وترك الجانب الموضوعى لمحامين محليين أغلبهم محدود الإمكانيات.
- تحويل الفلاحين إلى مجرد مادة أو موضوع فى الاحتفالات السياسية التى تتم دعوتهم إليها.
- إخفاء أو عدم ذكر أية تداعيات سياسية سلبية تتفشى فى صفوفهم أو عدم البحث فى أسبابها والسعى لعلاجها، مثل موضوع رابطة الفلاحين وصندوقها اللذين تم الحديث عن تأسيسهما فى وقت سابق وتوقف بعد ذلك.
ولأن هذه العوامل مجتمعة قد استفحلت ونخرت فى عظامهم فقد بات الوضع فى عزبة سراندو سيئا تحسه وتشمه بمجرد دخولها ولم يقلل من وزنه – وإن خفف وطأته على نفوسنا- صدور الحكم القضائى من محكمة أمن الدولة العليا طوارئ فى 16/6/2008 ببراءة من أعيدت محاكمتهم الذى فاجأنا وأثلج صدورنا وغمرنا جميعا بالفرحة والبهجة.
وهكذا كان الاستغراق فى الجوانب القانونية والقضائية على حساب العمل السياسى المباشر فى صفوفهم بمثابة الخطيئة التى ارتكبت فى هذه العزبة برغم كل النوايا الحسنة التى استهدفتها معظم الجهود المبذولة.
وفى الوقت الذى ذاع فيه صيتها فى أوساط المثقفين.. ووصل حتى الاتحاد الأوروبى- الذى كان رد فعله هو مطالبة الحكومة المصرية بإعادة فتح التحقيق فى ملابسات وفاة نفيسة المراكبى – فوجئنا بأنه لم يتبق متمسكا بأرضه من الفلاحين سوى أحد عشر فلاحا وفلاحة.. ولم يفهم الكثيرون سببا لعدد من تصرفات آل نوار وعصابات السطو المنظمة على الأراضى التى استجدت مؤخرا فى سراندو فى الآونة الأخيرة.. لكن الأسباب الآن باتت واضحة.
ولذلك فإن النظام الحاكم راض تماما عن هذا النوع من ” المعارضة ومن العمل السياسى ” الترفيهى الذى لا يعدو قضاء وقت ممتع مع الأصدقاء والزملاء والإخوان وأحيانا مع العمال أو الفلاحين فى قاعات إحدى النقابات .. بعدها يذهب كل إلى سبيله.
بينما يضع فى القائمة السوداء كل من ينظمون إضرابا كإضراب 6 إبريل 2008 أو اعتصاما كاعتصام فلاحى سمادون أو يشاركون فى مقاومة سلب الفقراء مقومات حياتهم، ويستبعد من هذه القائمة كل المستنكفين وكاسرى الإضراب والمراوغين واللاعبين على الحبال والمتعاونين وحافرى الأنفاق وناسجى الصلات التحتية معه.
ولذلك إن كنتم جادين فى دعم الفلاحين فلتقدموا لهم تضامنا سياسيا على الأرض أو دعما قانونيا حقيقيا أو جهدا سياسيا يساعدهم على فهم ما يدور حولهم من أحداث.. ويضع فى أيديهم بعض أدوات خلاصهم من ذلك الهم المقيم.. أو فلتتركوهم بعيدا عن احتفالاتكم ونقاباتكم وأوهامكم.. والله يتولاهم إن لم يكن بعونه ودعمه .. فبرحمته.
بشير صقر