13 يناير 2004

بيان صحفي
أحرز المغرب إنجازا غير مسبوق في العالم العربي في مجال احترام حقوق الإنسان والشعب المغربي، وذلك بتشكيل هيئة للإنصاف والمصالحة تضم عددا من المعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان والضحايا، وتقوم بتقييم شامل لجرائم حقوق الإنسان في المغرب خلال نحو نصف قرن، وإنصاف ضحايا هذه الجرائم، والمساهمة في ترسيخ مصالحة بدأت بالفعل منذ سنوات بين الشعب والنظام الملكي المغربي. وقد قام الملك محمد السادس بتنصيب هذه اللجنة رسميا الأربعاء 7 يناير الماضي. الأمر الذي يعتبر واحدا من أهم التطورات في مجال احترام حقوق الإنسان في العالم العربي في نصف القرن الأخير، فضلا عن كونه ترسيخا لعدة تطورات هامة جرت في المغرب في هذا الاتجاه خلال نحو عقد من الزمان، فتحت خلالها آفاق التحول الديمقراطي في المغرب، بعد أن ظلت مغلقة منذ الاستقلال.

جدير بالذكر أن المغرب عانى لنحو نصف قرن من ارتكاب جرائم جسيمة ضد حقوق الإنسان، شملت أعمال عقاب جماعي لقطاعات عريضة من الشعب المغربي، واعتقال تعسفي واسع النطاق، فضلا عن السجون السرية، والتعذيب والاغتيال والمقابر السرية والاختفاء القسري، وأحكام الإعدام للسياسيين، واضطهاد وقمع المعارضة الحزبية والسياسية والحركة النقابية والاتحادات الطلابية ومنظمات حقوق الإنسان وحرية الصحافة، وتزوير الانتخابات والتلاعب بالقضاء، ومطاردة المعارضين في خارج البلاد، والاعتداء عليهم، والتجسس على أنشطة المهاجرين، واستخدام القانون والبرلمان لتحصين هذه الجرائم من المحاسبة.

بدأ التغيير في المغرب منذ نحو عقد من الزمان، وذلك بالإفراج عن المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين وتكليف حزب المعارضة الرئيسية بتشكيل الحكومة برئاسة منفي هارب محكوم عليه بالإعدام –وهو الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي أحد أهم رواد حركة حقوق الإنسان في العالم العربي- ثم تشكيل هيئة للتحكيم وتعويض ضحايا الاعتقال (عالجت نحو خمسة آلاف ملف) ورفع القيود عن كشف حقائق الماضي الأليم بكل وسائل النشر والتعبير الفردي والجماعي، ومراجعة عدد من أبرز القوانين المنافية لمعايير حقوق الإنسان، ووضع قوانين جديدة، وإجراء انتخابات تتصف بالنزاهة، وتمكين منظمات حقوق الإنسان من مراقبتها، ومن القيام بدورها بحرية مقارنة بغيرها في العالم العربي.

إن هذا التطور الهام هو ثمرة التفاعل بين تضحيات الشعب المغربي، والنضال الصلب للنخبة السياسية والثقافية المغربية، وكفاح منظمات حقوق الإنسان، ونخبة حاكمة أدركت حدود السلطة والقوة، وامتلكت البصيرة وصلابة الإرادة السياسية للسير في طريق التغيير.

بالطبع لا يمكن القول إن الهيئة تلبي كل توقعات وطموحات الحركة الحقوقية والسياسية المغربية، نظرا لاقتصار تحديد المسئولية عن جرائم الماضي على المؤسسات، دون الأشخاص، وبالتالي صعوبة ملاحقة الجلادين، بما يحقق المعنى الحقوقي الأشمل للإنصاف والمصالحة. فضلا عن عودة شبح بعض ممارسات الماضي، وذلك في إطار ملاحقة مرتكبي تفجيرات الدار البيضاء، والتعاون الأمني مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، وتعرض بعض الصحفيين للسجن. غير أن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان يعتقد أن هذا التطور يعكس مكتسبات حقوقية للشعب المغربي لا يمكن التقليل من شأنها، نظرا للاستجابة للمطالب الأساسية للضحايا، خاصة وأن محاكمة المسئولين في جرائم مشابهة لم يمكن تحقيقه في بلدان أخرى، باستثناء جنوب أفريقيا. كما أنه لا يوجد عائق دستوري أو قانوني يحول دون أن ينقل الضحايا الملفات إلى ميدان القضاء، أو ملاحقة المنظمات الدولية والمغربية للجلادين قضائيا عند وجودهم خارج المغرب.

إن الحوار الحر والسجالي المفتوح الجاري علنا في المغرب بكل الوسائل حول بشاعات الماضي ومخاوف الحاضر وآفاق المستقبل، هو في حد ذاته أحد أهم ضمانات المستقبل، ومدرسة لإعداد نخبته.

وأخيرا فإن هذا التطور هو درس في السلوك السياسي، من الضروري أن تتأمله وتدرسه الحكومات بعمق، وكذلك النخب السياسية الحاكمة وغير الحاكمة في العالم العربي.