24/3/2005

مرة أخرى تؤكد الحكومات العربية عجزها عن اتخاذ مواقف جادة تجاه قضية الإصلاح السياسي والقضايا الحيوية الأخرى للعالم العربي. فقد فشلت القمة العربية بالجزائر، حتى في مراجعة ما أقرته قمة تونس العام الماضي، على ضوء الإخفاقات المتوالية طوال العام في أغلب الدول العربية على صعيد الديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلا عن عجزها عن اتخاذ موقف مسئول من قضايا حيوية تمر بمنعطفات حاسمة مثل لبنان والسودان والعراق وفلسطين.

لقد أخفقت القمة العربية والجامعة العربية في الجزائر في الاضطلاع بمسئوليات المنطقة، معلنة بشكل صريح بأن أمور العالم العربي يجب أن تترك لمجلس الأمن أو الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، مثلما هو جارٍ بالفعل في قضايا لبنان ودارفور والعراق وقضايا الإصلاح.. وغيرها.

عقدت قمة الجزائر في أجواء تشهد حراكا غير مسبوق للرأي العام في عدد من العواصم العربية، وحركة ديناميكية من الفاعليات السياسية والمدنية والحقوقية، للشروع بالإصلاح الديمقراطي وتوفير ضمانات لحماية حقوق الإنسان. فقد شهدت الشهور الأخيرة مجموعة من المؤشرات تنم عن تطور إيجابي في حركة المجتمعات العربية من أجل قضية الإصلاح، فهناك تحرك شعبي هائل في لبنان، ومشاركة شعبية واسعة في الانتخابات العراقية، وعودة نبض الحياة إلى الشارع السياسي المصري، واعتصام أمام البرلمان السوري للمطالبة بإنهاء حالة الطوارئ، ومطالب متزايدة بالإصلاح في بعض دول الخليج، وبإرساء العدالة والسلام في السودان بعد اتفاق السلام التاريخي. لكن الفجوة لازالت هائلة بين الحكومات وما تطالب به المجتمعات.

وإذا كان هناك نجاح يذكر لقمة الجزائر فهو أنها جسّمت بذاتها هول هذه الفجوة. فعلى الرغم من أن القمة العربية السابقة بتونس خصصت لأول مره في تاريخ الجامعة العربية لقضية الإصلاح السياسي، إلا أنها اكتفت بمجموعة بيانات إنشائية احتوت على نوايا ووعود، دون التزامات عملية بالإصلاح الديمقراطي في إطار خطة زمنية، ولذلك سقط موضوع الإصلاح بشكل كلي من جدول أعمال اجتماعات وزراء الخارجية العرب التالية لها في سبتمبر ومارس الماضي، رغم أنها كانت تستهدف متابعة قرارات القمة السابقة، فهي لم تجد ما تتابعه. ولم تختلف عن ذلك قمة الجزائر، بل جاءت أكثر ضعفا، لا ينجح في التخفيف منه مشروع البرلمان العربي الهزيل.

في مواجهة الإصلاح والمصلحين
الآن وبعد مرور عام على القمة العربية بتونس، لم تحدث استجابة جوهرية لمطالب الشعوب بالإصلاح، فالحكومات تستمر في مناوراتها وتحايلها. وبينما أقدمت بعض الحكومات على خطوات محدودة وجزئية جدا، لامتصاص الضغوط الخارجية والداخلية المتزايدة، فإنه في أحيان أخرى حدث تراجع وقمع حكومي لمطالب الفاعلين المدنيين والسياسيين. ففي الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شهدتها الجزائر ، وبواسطة الدور الذي يقوم به ما يعرف بالمجلس الدستوري، تم غربلة المرشحين للرئاسة عبر إقصاء بعض المرشحين الذين كانوا منافسين جادين محتملين للرئيس الحالي، هذا فضلا عن التجاوزات الخاصة بحرية الرأي والتعبير.

وفي البحرين يستمر النظام في تجاهل وجهة نظر المجتمع المدني بخصوص الإصلاحات السياسية والدستورية المطلوبة، فضلا عن استمرار التحرشات الأمنية من حين لآخر بدعاة الإصلاح، ومنظمات حقوق الإنسان، كما حدث في واقعة إغلاق مركز البحرين لحقوق الإنسان واعتقال مديره عبد الهادي الخواجه. كما تعمل الحكومة البحرينية على إصدار قوانين جديدة مقيدة للحريات كقانون الجمعيات السياسية، وقانون التجمعات العامة.

وفي تونس يتواصل قمع حرية التعبير، والانتساب إلى الجمعيات والتجمع السلمي، وقد شهدت تونس في 2004 انتخابات رئاسية وبرلمانية مسرحية، وسط شروط دستورية وقانونية استحال معها إجراء انتخابات حرة وتنافسية، وفي ظل مناخ استبعادي يقيد الحق في الترشيح، ولا يكفل الحق في حرية التعبير والصحافة والتجمع، وفي وقت يتواصل به اضطهاد واعتقال المعارضين السياسيين.

وعلى الرغم من خطوة التعديل الدستوري في مصر، الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية بين أكثر من مرشح، إلا أن البيئة السياسية والتشريعية المتعسفة والقيود على حق الترشيح والأسابيع المعدودة المتاحة للحملة الانتخابية لا تسمح بحدوث انتخابات رئاسية تعددية حقيقية، وخاصة في ظل سريان حالة الطوارئ، والسيطرة الحكومية الاحتكارية على وسائل الإعلام خاصة المرئية والمسموعة، والقيود التعسفية المفروضة على نشاط الأحزاب السياسية والمجتمع المدني. كما لم يحدث تقدم في سوريا، حيث تنعدم أشكال المشاركة السياسية الحقيقية ويستمر الحكم بقانون الطوارئ، ويتواصل تكميم المجتمع المدني وقمع دعاة حقوق الإنسان كما جرى على سبيل المثال لا الحصر في القبض على أكثم نعيسه رئيس لجان الدفاع عن حقوق الإنسان وتحويله لمحكمة أمن الدولة بسبب تنظيم اعتصام أمام البرلمان وحملة لجمع التوقيعات، لإنهاء حالة الطوارئ المستمرة منذ 41 عاما.

وفي لبنان لم يجر الانتباه للتواجد العسكري والهيمنة المخابراتية السورية على الحكم في لبنان، إلا بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وأصبحت لبنان على مقربة من تدخل دولي.

وفي ليبيا جرى إلغاء ما يعرف بمحكمة الشعب الاستثنائية، التي اشتهرت بالنظر في القضايا السياسية، لكنها خطوه هامشية للغاية أخذاً في الاعتبار الوضعية المتدنية جدا لحقوق الإنسان في الجماهيرية الليبية. وفي السعودية أقبلت السلطات على مبادرة متواضعة لاجراء انتخابات لاختيار نصف أعضاء المجالس البلدية، والتي تمت بدون مشاركة نسائية ، لكنها سعت إلى إضعاف أنصار المطالب الإصلاحية عبر مواجهات أمنية لتحجيم نشاطهم، ولم يكتف النظام بحبس بعض دعاة الإصلاح، بل أعلن مجلس الوزراء السعودي في سبتمبر 2004 أن الحكومة تنوي تنفيذ القوانين التي تمنع على الموظفين العموميين والعسكريين نقد سياسات الحكومة بشكل مباشر أو غير مباشر، أو الدخول في حوار مع الإعلام المحلي أو الأجنبي، أو المشاركة في اجتماعات يقصد بها معارضة سياسات الدولة.

من ناحية أخرى يستمر جدار الصمت العربي على المأساة الإنسانية في إقليم دارفور والتواطؤ مع الحكومة السودانية، في الوقت الذي اعترف فيه المجتمع الدولي بفظاعة ما ارتكب في حق المدنيين الأبرياء من قتل واغتصاب جماعي، ورغم الترحيب باتفاق السلام الموقع أخيرا بين حكومة الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان، الذي أنهى سنوات طويلة من الحروب بين الشمال والجنوب، فإن أي اتفاق سلام بدون الوصول لحل سلمي للنزاع الحالي في دارفور، والتوتر في شرق السودان، يضع حقوق الإنسان في مقدمة أولوياته، لن يكون أكثر من مجرد مسكنّ مؤقت لأزمة الاستقرار والتنمية في السودان.

في المغرب تستحق تجربة هيئة الانصاف والمصالحة الإشادة كأول تجربة في العدالة الانتقالية وتسوية ملفات الماضي للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في العالم العربي، رغم بعض النواقص التي تعتريها وخاصة في إثارة المسئولية الفردية والجنائية لمرتكبي الانتهاكات. كما هناك أيضا التقدم المحرز في إطار تعديل قانون الأحوال الشخصية، والذي أضاف مكتسبات هامة للمرأة المغربية. لكن القلق يساورنا من انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكب في إطار حملة السلطات المغربية على الإرهاب، منذ تفجيرات الدار البيضاء في مايو 2003.

على صعيد الحماية الإقليمية لحقوق الإنسان، تتجاهل الحكومات تطوير دور الجامعة العربية في هذا المجال، فعلى الرغم من تبني قمة تونس للميثاق العربي المعدل لحقوق الإنسان، ورغم ما يعتريه من شوائب ونواقص كبيرة، لم تصدق عليه سوى دولة واحدة، مما يجمد أي دور محتمل للميثاق، حتى بالصورة المتواضعة التي اعتمدته قمة تونس.

تهميش المجتمع المدني
ومن ناحية أخرى تتجاهل الحكومات العربية أي دور محتمل للمجتمع المدني في علاقته بجامعة الدول العربية وقضية الإصلاح، فهناك قيود مشددة على منح وضع المراقب للمنظمات غير الحكومية داخل الجامعة، ولا يسمح للممثلين عن المجتمع المدني بالمشاركة بصفة مراقب في القمم العربية، فقد تقدم المنتدى المدني الأول الموازي للقمة العربية -الذي عقده مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في بيروت في مارس 2004، بالتعاون مع منظمة الدفاع عن الحقوق و الحريات (عدل) والمنظمة الفلسطينية لحقوق الإنسان وبالتنسيق مع الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، وبمشاركة 52 منظمة حقوق إنسان في 13 دولة عربية- بطلب حضور وفد من ممثلي المجتمع المدني بصفة مراقب في قمة تونس، ولكن لم يستجب للطلب، كما ترفض الدول المضيفة للقمم العربية عقد مؤتمرات موازية للمجتمع المدني، كما حدث في تونس العام الماضي والجزائر هذا العام.

فقد تقدم مركز القاهرة بطلب للحكومة الجزائرية للسماح بعقد المنتدى المدني الثاني في الجزائر، ولكن جرى تجاهل الرد، وطرد وفد من الرابطة التونسية لحقوق الإنسان ذهب للجزائر للتفاوض نيابة عن المنظمين في عقد المنتدى الموازي، مما يجعل الخيار الوحيد أمام مؤسسات المجتمع المدني أن تعقد اجتماعاتها الموازية للقمم العربية في العواصم الأوروبية! المفارقة الأخرى أن الحكومات العربية تقبل حضور والتحاور مع المجتمع المدني فقط، عندما يكون هناك وسيط أجنبي، كما جرى مؤخرا في منتدى قمة الثمانية من أجل المستقبل، واجتماعات دولية أخرى.

جدير بالذكر فقد سبق للمنظمات غير الحكومية أن نوهت في مناسبات عديدة بمطالب الإصلاح في العالم العربي، وقد لخصت وثيقة “الاستقلال الثاني” الصادرة عن المنتدى المدني الأول الموازي للقمة العربية الذي عقد في بيروت في مارس 2004، الخطوط العريضة للإصلاح السياسي الشامل، وإصلاح جامعة الدول العربية والدور الذي يلعبه المجتمع المدني في إطارها. كما توصلت مجموعة من المنظمات غير الحكومية والفاعليات المدنية في 15 دولية عربية، اجتمعت في القاهرة في يوليو 2004 -بدعوة من مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان والمنظمة المصرية لحقوق الإنسان ومجلة السياسة الدولية- لأولويات الإصلاح في العالم العربي، حيث طالبت بمجموعة من الإجراءات التي تساعد على تنمية قوى الإصلاح، كبادرة تثبت جدية نوايا الحكومات العربية تجاه عملية الإصلاح، وهي إطلاق حرية امتلاك وسائل الإعلام وتدفق المعلومات، وإطلاق حرية إنشاء وإدارة الأحزاب والنقابات والمنظمات غير الحكومية، وإطلاق حريات التعبير وخاصة الحق في التجمع والاجتماع، ورفع حالة الطوارئ-حيثما تكون سارية- وإلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية.

للإطلاع على النص الكامل لوثيقتي “الاستقلال الثاني” و”أولويات وآليات الإصلاح في العالم العربي” نرجو زيارة موقع المركز على شبكة الانترنت www.cihrs.org