22/1/2008

يبدو المشهد السياسي العربي والإقليمي – وربما العالمي – أكثر مأساوية بالداخل والخارج بشكل انتهت معه المجتمعات المحلية ذاتها إلي حالة من التفسخ والتشتت تسمح بمزيد من الانقسام الداخلي – في حدود كل قطر علي حدا – والقليل من الاتفاق والاتحاد بين الأقطار العربية وحكوماتها للوصول إلي حالة تسمح بمواجهة تحديات الألفية الثالثة بما تحمله من متغيرات جبرية للعولمة وأطماع متعاظمة للكبار تغلب علي طابع العلاقات الدولية وتتغلب علي فتات الدول القومية و بقايا الأنظمة السياسية التي افتقدت مبررات وجودها بمرور الوقت وتنازلها عن شرعيتها ومشروعيتها بما تمارسه من قمع بحق شعوبها .

الأمر لا يختلف كثيرا في العراق عنه في غزة ، ولا في السودان عنه في لبنان ، فنظام صدام الذي زال بمجرد تنازله عن دوره في حماية الحدود العربية الشرقية وغزوه الكويت ، باتت الفرق الفلسطينية المتناحرة في طريقها إلي مصيره بعد أن فقدت مقاومتها هويتها عقب صعود ” حماس ” ، ربما المفارقة الوحيدة أن نظام صدام المتهم بالديكتاتورية بدا للبعض أكثر ليبرالية عقب ظهور عمليات القتل المتواصلة بين السنة والشيعة وتباين مواقف الفرق الكردية من الانفصال بالشمال وثرواته عن ” بغداد ” لتواجه مصيرها وحدها أمام مطامع الأتراك ومطامحهم في حصار المد الكردي لجنوب دولتهم … ،

ومع غياب القائدين في البلدين – صدام بالعراق وياسر عرفات بفلسطين – باتت الأمور أكثر سوءا – رغم ما سجله المختلفون حولهما من مآخذ – ، فلم يحلم عراقي واحد بسهولة ضياع ثروات بلاده أو حياته بين أطماع الغرباء وتواطؤ الموالسين لهم بدعوي نشر الديمقراطية في العراق ، كما لم يستعب فلسطيني حقيقة أن الديمقراطية التي أتت ب ” حماس ” للسلطة عقب انتخابات نزيهة حسدت البلدان العربية أهل الأراضي المحتلة عليها ، لن ترضي عنها إسرائيل التي تتحدث حكوماتها المتعاقبة عن تداول السلطة وحرية ” المحتل ” ذاته في اختيار من يحكمه ، ربما حملت حكومة تل أبيب بداخلها أمنية أن تأتي حكومة فلسطينية علي هواها كما الحال في بغداد ، وهو ما تعبر عنه عمليات القتل المستمرة للفلسطينيين إما عقابا لهم علي انتخاب ” حماس ” أو تأكيدا لهم علي ضعفها وعدم قدرتها علي المقامة بعد توليها السلطة ، وعليه تفاقمت الأزمة الإنسانية في قطاع غزة مع حالة الصمت والعجز الدوليين عن التحرك لإيقاف الجرائم المتكررة بحق المدنيين والتي لا تبتعد عن مفهوم جرائم الحرب في توصيفات القانون الدولي .

وفي لبنان لم نعد نفهم ماذا يريد اللبنانيون أنفسهم ، والأغرب أن حالة الانشقاق التي تجتاح صفوف القوي والتيارات السياسية هناك لم تحضر أو تتأكد إلا بعد انتصار حزب الله للبنانيين والعرب علي إسرائيل ، ربما قال محللون بهزيمة لبنان ” الكيان ” لما لحقه من خراب وتدمير برأت القوي الدولية ساحتها منه وسعت رؤوس الأموال متعددة ومتعدية الجنسيات للتحرك نحو كعكة ” إعادة الإعمار ” به كما الحال في العراق ، إلا أن ساحة القتال أكدت هذا الانتصار الفريد الذي تلته هزيمة سياسية عربية غريبة انتهت بالشتات اللبناني الذي لم تفلح الجامعة العربية ذاتها في إزالته ، رغم أن أيام ما بعد الحرب أثبتت الارتباط الفريد لحزب الله بدولته وولائه لوطنه ، رغم كثرة أحاديث المحللين عن تحالفه مع إيران بدعوي الارتباط العقائدي للشيعة .

وكان موقف الحكومة المصرية من الوضع المتفجر في السودان جيدا إلي حد ما ، ربما عالج النظام بحكمة غياب الوجود السياسي في جنوب وادي النيل المهمل من قبل حكومة القاهرة بعد قيام حركة يوليو 1952 ، فلم تكن حالة الانفصال المؤقت والمشروط بين شمال السودان وجنوبه أصعب من أن يحتويها رجال الحكم في مصر ، مع الارتباط العضوي بين شعبي وادي النيل ، ولم يكن إقليم مثل ” دارفور ” معضلة أمام السياسة المصرية وعقولها حتي يصل الأمر به إلي استقدام قوات دولية رغم أنف حكومة الخرطوم بعد إفساد – أو فشل – مهمة القوات الإفريقية في صون أمنه ، وكم انتظرنا ومعنا الأشقاء السودانيون قرار الرئيس مبارك بإرسال قوات مصرية تنتمي لذات البيت لصون أمن السودان وحماية ثرواته التي تنبع منها أسباب الحياة في مصر ذاتها ، وكم نترقب مزيدا من القرارات الداعمة لحق السودان ذاته في الاستفادة بخبرات المصريين في تنمية أقاليمه الداعية للانفصال بإيعاز من الخارج .

إن المجتمعات لا تنمو أو تنضج دون حماية قانونية لأفرادها ، وتطبيقا علي المشهد الإقليمي فقد تجمد القانون الدولي وعجز عن صون السلام والأمن داخلها ، فجرائم الحرب المتكررة في العراق وفلسطين لم تمنعها الاتفاقات والمواثيق الدولية التي لا يعترف بها حامل السلاح ، ويأس التذكير بنصوص مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين ، من كثرة الجرائم بحق أبناء تلك المجتمعات التي باتت تحارب محتلا أجنبيا وحكما محليا في ذات الوقت ، مع إنكار الأول ” قواعد لاهاي ” والمواد 33 – 146 – 147 من اتفاقية جينيف الرابعة المقننة لأعراف الحروب ، وتجاهل الثاني إعمال مباديء الديمقراطية وصون كرامة المواطن وأمنه وسلامته .

إن حماية السلام المجتمعي بما يحمله المفهوم من معاني تنطبق علي الواقع الإقليمي والمحلي لأمر يشغل ” ماعت ” بشكل باتت معه أفكاره الداعية لنبذ العنف ودحض أسباب نمو حركات الإرهاب تتوافق سيرا مع الحركات المحلية والعالمية المؤيدة للسلام ، وتنطلق مبرراته من خشية تفشي حالة الغليان في المجتمعات المحلية العربية والعالمية ، فغياب الديمقراطية التي باتت أبرز أسس ومطالب الشعوب الباحثة عن الحياة ، لا يمكن تفسيره بمعزل عن تلك الظروف المحيطة في زمن تسمع فيه صرخة الطفل الجائع بالجنوب في آذان الشمال ، واستغاثة ضحية التعذيب بسجون الديكتاتوريات في آذان نشطاء العالم الحر ، ومع هذا وذاك تبرز الحاجة إلي صياغة علاقة مجتمعية عالمية أوسع نطاقا وأعمق فكرا تستوعب حاجة البشر إلي التعايش والتلاقي والتكامل دونما حدود ، وتتزايد مسئوليات مفكري العالم ومنظري مستقبله للبحث عن ” طريق ثالث ” لحقيقة البشر ومبررات وجودهم ، طريق ينعم فيه الإنسان المواطن بسمة العالمية التي تمكنه من التواصل مع أشقائه في الإنسانية في أقاصي البلاد ، أسلوب جديد في بناء العلاقات الدولية علي أساس التكامل بين الشعوب الحرة في اختيار من ينوب عنها ويمثلها أمام العالم ويرفع إسهاماتها في حضاراته …. ،

ربما كانت حركات السلام العالمية ودعوات النشطاء ضد الحرب ومنظمات مكافحة الفقر والجوع وتكتلات مكافحة الجريمة والفساد ودعوات مناهضة العنف والعنصرية والتمييز وجمعيات الدفاع عن ضحايا الاعتقال والتعذيب – أبرز مظاهر الرفض لتغييب السلام داخل المجتمعات المحلية – ، لكنها تمثل في الوقت نفسه حالة من الغضب الشعبي العالمي علي انهيار منظومة ” حقوق الإنسان ” التي ابتعدت أغلب الأنظمة والحكومات عن التعاطي معها لتكسب حب الشعوب لها .. واحترام التاريخ لإنجازاتها .. وإنا لمنتظرون …