11/11/2008

ظلت مصر لقرون عديدة في الصدارة في مجال رعاية الصحة النفسية. فقد كان يوجد في القاهرة أحد أول مستشفيات الطب النفسي. ومن الأمور الموثـَّقة أن ذلك المستشفى كان معروفاً بمعاملته الإنسانية للمرضى النفسيين، وبمدى ما يتيحه لهم من أنشطة ترفيهية. وفي العصر الحديث، كانت مصر، من بين بلدان الإقليم، هي أحد مركزين، ثانيهما السودان، لمشروع منظمة الصحة العالمية، المعروف باسم (( إستراتيجية توسيع رعايـة الصحـة النفسيـة )) (1975-1981)، ذلك المشروع الذي أَعَدّ البرنامج المبدئي لإدماج الصحة النفسية في الرعاية الصحية الأولية. وتم إعداد البرنامج الوطني للصحة النفسية في مصر في أكتوبر 1986. وتم إعداد برنامج وطني منقَّح للصحة النفسية في أعقاب حلقة عملية للمراجعة عُقدت في عام 1991. ولدى مصر أحد أربعة مراكز متعاونة مع المنظمة في مجال الصحة النفسية في إقليم شرق المتوسط.

لكل ما سبق دلالة علي أننا أصحاب رياده في هذا المجال ، لكن الحال الذي نحياه الأن يثبت لنا عكس ذلك تماماً ، وانطلاقا من هذا المبدأ كانت هناك ضرورة ملحة لتعديل قانون الصحة النفسية رقم 141 لسنة 1944 بما يتوافق مع تطور أساليب العلاج ونتائجها الإيجابية .

وبعد مطالبات عدة في هذا الشأن استغرقت سنوات طويلة فقد تقدمت وزارة الصحة والسكان بمسودة مشروع قانون مأخوذة من القانون البريطاني، لكنها قوبلت بالرفض في المرة الأولي، لكونها لا تتوافق و طبيعة المجتمع المصري، ولكنها عدلت حتى تلائم المصريين في طبيعة حياتهم».

حيث جاءت المسودة كصورة كربونية مترجمة حرفياً للنص البريطاني وهو ما جعل القانون مجرد حبر علي ورق يصعب تطبيقه لاختلاف المجتمعين إلي أن شكلت وزارة الصحة لجنة لوضع القانون الجديد ضمت أطباء الصحة النفسية والأمانة العامة للصحة النفسية وتم وضع القانون بالشكل الذي يتوافق مع عاداتنا وتقاليدنا» وبالفعل تم صياغة التصور النهائي لمشروع قانون الصحة النفسية، الذي سيتم رفعه من خلال مجلس الوزراء إلي مجلسي الشورى والشعب، تمهيداً لإقراره والعمل به.

وذكرت الوزارة أن مشروع القانون اهتم بأن يكون شاملاً للصحة النفسية بصورة عامة، ولم يقتصر علي حجز المصابين بآفة عقلية فحسب، كما تضمن مشروع القانون مد نطاق تطبيقه إلي جميع المستشفيات النفسية، وشمل جميع المرضي، الذين يتلقون العلاج بهذه المستشفيات، سواء كان دخولهم إليها إرادياً أو لا إرادياً.

واستحدث مشروع القانون النص علي إنشاء صندوق للصحة النفسية للمساهمة في تطوير ودعم علاج المرضي النفسيين، ولتوفر الاستقلال المادي لمجالس الصحة النفسية، الموكل إليها رعاية حقوق المرضي النفسيين، علي أن يتم تمويل هذا الصندوق من مصادر متعددة هي «ما يخصص له في ميزانية الدولة، الهبات والوصايا والتبرعات، رسوم شهادات التسجيل للمستشفيات المنصوص عليها في المادة (١) من هذا القانون، بما لا يزيد علي عشرة آلاف جنيه عند التسجيل أو عند التجديد وتحدد اللائحة التنفيذية الشروط والإجراءات اللازمة في هذا الشأن، رسوم استخراج الشهادات والتقارير الطبية التي تحدد بقرار من وزير الصحة والسكان بما لا يجاوز (عشرة جنيهات) عن الشهادة أو التقرير».

ويضم هذا القانون سبعة أبواب، يتعلق الباب الأول منها بنطاق تطبيق أحكام هذا القانون، الذي يتسع ليشمل جميع المستشفيات النفسية، كما يضم مجموعة من التعريفات التي يتكرر استعمالها بمواد ونصوص مشروع القانون، بهدف الإيضاح والتيسير، حيث ينص علي أن أحكامه تسري علي «المستشفيات المتخصصة في الطب النفسي سواء كانت حكومية أو خاصة، أقسام الطب النفسي بالمستشفيات العامة والعيادات الخارجية الخاصة بها.

مشيراً إلي أنه لا يجوز إنشاء أو إدارة مستشفي خاص بعلاج المرضي المصابين بأمراض نفسية إلا بناء علي ترخيص من وزارة الصحة والسكان بعد التسجيل بالمجلس القومي للصحة النفسية، وفقاً للإجراءات والشروط التي تحددها اللائحة التنفيذية لهذا القانون، علي أن تصدر شهادة بهذا التسجيل ويتم تجديدها كل خمس سنوات وتحدد بقرار من وزير الصحة والسكان الاشتراطات والتجهيزات الواجب توافرها في مستشفيات الصحة النفسية.

ويتكون الباب الثاني من فصلين، الأول خاص بإنشاء المجلس القومي للصحة النفسية وتحديد اختصاصاته ونطاق صلاحياته، ويجوز للمجلس أن يستعين بمن يراه من ذوي الخبرة والتخصص، دون أن يكون له صوت معدود في المداولة، ويعين المجلس أمانة فنية تابعة له، كما يعين سكرتارية لكل من المجلس والأمانة.

ويتولي المجلس القومي للصحة النفسية الإشراف علي تطبيق أحكام هذا القانون ويختص بمباشرة «مراقبة حجز وعلاج المرضي النفسيين والتأكد من تمتعهم بالضمانات والحقوق المنصوص عليها في هذا القانون، الإشراف علي عمل المجالس المحلية للصحة النفسية ونظر التظلمات المقدمة من قراراتها».

ويتعلق الفصل الثاني من الباب الثاني بإنشاء المجالس المحلية للصحة النفسية واختصاصاتها ونطاق صلاحياتها، بينما ينقسم الباب الثالث إلي ثلاثة فصول، الأول يتناول حالات الدخول «الإرادي» للمريض النفسي إلي المستشفي، أهمها «يحق لكل مريض نفسي بلغ الثامنة عشرة من عمره طلب دخول أحد مستشفيات الصحة النفسية دون موافقة الأهل.

كما يحق لهذا الشخص طلب الخروج في أي وقت، إلا إذا انطبقت عليه شروط الإدخال اللاإرادي، وفي هذه الحالة تتبع الإجراءات المقررة في هذا الشأن، ويحق للطبيب النفسي المسئول أو من ينوب عنه أن يمنع مريض الدخول الإرادي من مغادرة المستشفي مدة لا تجاوز ٧٢ ساعة إذا رأي أن خروجه من المستشفي يشكل خطراً جسيماً وحالاً علي سلامته وحياته أو علي سلامة وحياة الآخرين أو علي الممتلكات، أو إذا رأي أنه غير قادر علي رعاية نفسه بسبب جسامة المرض النفسي.

ويتناول الفصل الثاني: حالات الإدخال اللاإرادي، وأهمها أنه «لا يجوز إدخال شخص لا إرادياً أحد مستشفيات الصحة النفسية إلا إذا توافرت الشروط الآتية:

  1. قيام دلائل واضحة علي وجود مرض نفسي شديد تمثل أعراضه خطراً جسيماً وحالاً علي المريض أو علي الآخرين أو علي الممتلكات.
  2. أن يكون الدخول لازماً للعلاج أو لمنع تدهور متوقع للحالة النفسية.
  3. وجود علاج يناسب الحالة بالمستشفي.

ويجب إبلاغ كل من الأهل، ومدير المستشفي، ومكتب الخدمة الاجتماعية، والمجلس المحلي للصحة النفسية بقرارات إدخال المريض لا إرادياً. وتحدد اللائحة التنفيذية النماذج المستخدمة لإدخال المريض النفسي لاإرادياً.

وكذلك يجوز للطبيب النفسي المسئول أن يدخل مريضاً دون إرادته أحد مستشفيات الصحة النفسية وذلك طبقاً للشروط المنصوص عليها في المادة «١١» لمدة لا تجاوز أربعة أسابيع، وذلك بناء علي طلب كتابي من «أحد الأقارب حتى الدرجة الثالثة، وأحد ضباط قسم الشرطة التابع له محل إقامة المريض، وغيرهم، وذلك إذا تلاحظ لأي منهم أن هذا الشخص يعاني من مرض نفسي، ويجب علي مقدم الطلب أن يصطحب معه الشخص المطلوب إدخاله لاإرادياً إلي المستشفي.

ويتناول الفصل الثالث حالات الإيداع بقرارات أو أحكام قضائية، والذي يوضح أنه في حالة صدور قرار أو حكم قضائي بالإيداع بأحد مستشفيات الصحة النفسية ينتدب المجلس المحلي للصحة النفسية لجنة ثلاثية من الأطباء المقيدين لديه لفحص حالة المودع طبقاً لمضمون القرار أو الحكم.

ويتعلق الباب الرابع بعلاج المرضي سواء كان إرادياً أو لاإرادياً، كما يتضمن المعايير والاشتراطات الخاصة بتطبيق الخطط والأوامر العلاجية، حيث يؤكد التزام الطبيب النفسي المسئول بعدم إعطاء أي علاج لمريض الدخول اللاإرادي دون الحصول علي موافقته المسبقة المبنية علي إرادة حرة مستنيرة، وإذا امتنع مريض الدخول اللاإرادي عن تناول العلاج الموصوف له يحق للطبيب النفسي المسئول إلزامه بالعلاج، علي أن يستوفي الطبيب إجراءات العلاج اللاإرادي قبل الشروع في ذلك.

ويقول «في حالة تقرير احتياج المريض النفسي للعلاج الكهربائي يتعين الحصول علي موافقته الكتابية الصريحة المبنية علي إرادة حرة مستنيرة، بعد إحاطته علماً بطبيعة العلاج الكهربائي والغرض منه وآثاره الجانبية والبدائل العلاجية المتاحة، وذلك طبقاً لما تحدده اللائحة التنفيذية لهذا القانون».

ويضيف «إذا رفض المريض النفسي تلقي العلاج الكهربي رغم ضرورة إعطائه له، يفرض عليه هذا العلاج بعد الحصول علي تقييم طبي مستقل، مشدداً علي عدم جواز إعطاء علاج كهربي دون أن يكون المريض تحت تأثير مخدر عام وباسط للعضلات».

ويشمل الباب الخامس حقوق المرضي النفسيين، بما فيها سبل الشكوى وتقديم الالتماسات من قبل المرضي أو ذويهم أو وكلائهم، حيث تشير أبرز مواده إلي أن المريض النفسي الذي يعالج بأحدي المؤسسات المنصوص عليها في المادة «١» يتمتع بعدة حقوق، أهمها «تلقي العناية الواجبة في بيئة آمنة ونظيفة، حظر تقييد حريته علي خلاف أحكام القانون، الإحاطة علماً باسم ووظيفة كل أفراد الفريق العلاجي، الذي يرعاه بالمستشفي، رفض مناظرته أو علاجه بمعرفة أي من أفراد الفريق العلاجي، حماية سرية المعلومات التي تتعلق به وبملفه الطبي وكذلك خصوصياته ومتعلقاته الشخصية ومكان إقامته بالمستشفي».

ويتناول الباب السادس إنشاء صندوق للصحة النفسية ومصادر تمويله وكيفية الصرف منه، حيث يوضح أن هذا الصندوق ينشأ بديوان عام وزارة الصحة والسكان، ويديره مجلس إدارة يشكل بقرار من وزير الصحة والسكان.

ويحتوي الباب السابع علي العقوبات التي تطبق علي مخالفة أحكام القانون، منها أنه يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنتين وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد علي عشرة آلاف جنيه أو بأحدي هاتين العقوبتين كل طبيب أثبت عمداً في تقريره ما يخالف الواقع في شأن الحالة النفسية لشخص ما، بقصد إدخاله المستشفي أو إخراجه منها ، وكل من حجز أو تسبب عمداً في حجز أحد الأشخاص بصفته مصاباً بأحد الأمراض النفسية في غير الأمكنة والأحوال المنصوص عليها في هذا الشأن.

انتقادات مشروع القانون الذي تقدمت به وزارة الصحة والسكان

1- مشروع قانون الصحة النفسية الجديد لا يتناسب مع المجتمع المصري ويرجع ذلك إلي أن القانون يعد بالنسبة للوضع في مصر مستحيل التطبيق من الناحية العملية ، حيث ينص القانون علي أحقية المريض النفسي في العلاج والخروج وقتما يشاء وبدون ضغط من الأهالي ، كما أن القانون يعرض الأطباء النفسيين للسجن في حالة علاج المريض بالقوة ، هذا من ناحية بينما علي الجانب الأخر نجد رفض الأهالي قبول المريض النفسي بعد تماثله للشفاء

أما بسبب الفقر الذي يعتبر السبب الرئيسي الذي من اجله يترك الأهالي المريض لسنوات في المستشفيات دون زيارة خوفاً من أن يطالبهم أحد بدفع مصاريف مالية ، والأمر الثاني فيتعلق بنظرة المجتمع إلي المريض النفسي الذي يعتبره بمثابة أفه سوف تلقي بظلال التدمير صوب حياتهم المستقلة، لذلك يجب إبعاده عنهم ، وهذه النظرة لن تتغير بين ليلة وضحها بل تحتاج إلي سنوات ليست بالقليلة لتغيرها ، حيث لابد من تدريب المرضي النفسيين علي كيفية مواجهة المجتمع عقب الخروج من المستشفي ، والعمل علي تغيير ثقافة التعامل مع المريض النفسي علي المستوي المجتمعي .

فالمستفيد الوحيد من هذا القرار هو المستشفيات الخاصة التي سوف تستقبل هؤلاء المرضي ، خاصة الذين ينتمون لأسر وعائلات ثرية ، أما المرضي الفقراء فسوف يكون مصيرهم الشارع بسبب عدم قدرة ذويهم علي تحمل نفقات علاجهم في المستشفيات .

2- هل من المعقول أن يقوم القانون بتحديد المدة التي يجب أن يبقي فيها المريض في المستشفي ، والتي حددها مشروع القانون بحد ادني 6 أسابيع وبحد أقصي 6 أشهر علي الرغم من أن الأمراض النفسية ليست جميعها ذات طبيعة واحدة ، لذلك فالعلاج منها يختلف من حالة إلي أخري ولا يجوز تحديد مدة معينة لعلاج كافة الحالات ، حتى وأن كان خروج المريض من المستشفي بعد المدة التي حددها مشروع القانون سوف يتم أقرار العمل به فلا بد من التشديد علي ضرورة إنشاء بيوت للتأهيل لتؤهل المرضي الذين امتثلوا للشفاء وغابت عنهم الأعراض المرضية، فالمريض العقلي حال تناوله لعلاجه يصبح في حالة صحية جيدة ، لكنه لا يصبح قادراً علي التعامل مع المجتمع ومن ثم فهو بحاجة إلي التأهيل النفسي والتعامل بطريقة مختلفة عن الوقت الذي تظهر عليه أعراض مرضه، وبالتالي فإن إنشاء بيوت التأهيل لهم ستكون خطوة مهمة ، ولكن يجب أيضا أن تكون تلك البيوت متخصصة في التعامل مع كافة الحالات أي يشترط التخصص لصحة هذا الأمر ، وكذا يجب توعية الأهالي أيضا بكيفية التعامل مع المريض النفسي .

3- وجوب أن يكون الإشراف والرقابة علي الشروط الصحية والعلاجية في المستشفيات النفسية بصورة مفاجئة من قبل المجلس القومي والمجالس المحلية للصحة النفسية علي أداء تلك المستشفيات وألا يكون هناك فريق إشراف ثابت لكل محافظة، لأن هذا سيؤدي إلي تكرار مظاهر الرشاوى والمجاملات التي كانت تحدث في السابق .

4- تشديد العقوبة المنصوص عليها في الباب السابع من القانون لتصبح الحبس مدة لا تجاوز خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد علي عشرة آلاف جنيه أو بأحدي هاتين العقوبتين لكل طبيب أثبت عمداً في تقريره ما يخالف الواقع في شأن الحالة النفسية لشخص ما، بقصد إدخاله المستشفي أو إخراجه منها ، وكل من حجز أو تسبب عمداً في حجز أحد الأشخاص بصفته مصاباً بأحد الأمراض النفسية في غير الأمكنة والأحوال المنصوص عليها في هذا الشأن بدلا من الحبس مدة لا تتجاوز سنتين كما نص عليها مشروع القانون ، أي لابد من تغليظ العقوبة ليعد ذلك بمثابة رادع لكل ما يخالف أحكام القانون في هذا الشأن .

إعداد
أحمد نصر عبد العظيم
محام وباحث بالمعهد
المعهد الديمقراطي المصـري
Egyptian Democratic Institute