30/8/2007

1. يصادف هذه الأيام مرور سنة كاملة على مشروع العقيد القذافى المعروف ب “حاميها حراميها” والذى طلب فيه، فى بداية سبتمبر 2006، من جميع القائمين على أجهزة الدولة الرسمية وشبه الرسمية من قادة “اللجان الثورية” وأمناء “اللجان الشعبية” و”القيادات الشعبية” وكبار”ضباط الجيش” و”الرفاق” والقائمين على الأجهزة الأمنية الرسمية وشبه الرسمية ومتنفذين آخرين.. طلب فيه منهم إعداد “تقرير ذمة” شامل يدوّن فيه، كل على حده، الحسابات المصرفية داخل وخارج ليبيا بما فيها الأسهم والأصول فى اسواق المال وفى الشركات التجارية الأجنبية. ويشمل التقرير أيضا، حسب تعليمات العقيد القذافى، العقارات وممتلكات الأبهة من مجوهرات وسيارات فاخرة الى آخره… وقد حدد العقيد القذافى نهاية ديسمبر 2006 كحد معقول لإعداد هذا الإقرار وتقديمه الى الجهات المسؤولة.

2. وقد رحبت الرابطة، برغم شكوكها فى امكانية تنفيذ مثل هذا المشروع للاتصاله المباشر بمستقبل “القطط السمان” .. رحبت فى حينه بهذا المشروع باعتباره مشروعا يمكن ان يساعد فى خلق مناخ للشفافية والمسائلة واللتان تعتبران أهم عناصر مقاومة الفساد الذى مانفك ينخر فى الجسد الليبي والذى لايمكن ان يتحقق فى ظله أي قدر من احترام حقوق الإنسان الإقتصادية والإجتماعية والسياسية لليبيين ومن التنمية بصفة عامة والتى بجب أن يكون الإنسان فى ليبيا وسيلتها وهدفها. وقد انعكس انعدام الشفافية وغياب المسائلة اول مانعكس فى الإستيلاء، من الناحية العملية، على مقدرات الدولة وأجهزتها من طرف شلة من الأشخاص ليس لهم صفة رسمية فى الدولة من “لجان ثورية” و”لجان مؤتمرات شعبية” و”ضباط أمن” و”ضباط جيش” قدامى وفى الخدمة و”رفاق” ومتنفذى قبائل واشخاص آخرين غير معروفين. وقد سخرهؤلاء الأشخاص، خاصة وأنهم لا يخضعون لقوانين المحاسبة والمسائلة للدولة باعتبارهم محصنون سياسيا والكثير منهم لاينتمى حتى لأجهزة الدولة الرسمية ، إمكانيات ليبيا المادية والإقتصادية لصالح مشاريعهم الخاصة وذلك بعد إحكام طوق عازل على الشفافية عن طريق السيطرة والتحكم فى أهم مكوناتها وهي الصحافة الحرة ومنظمات المجتمع المدنى المستقلة.
لقد انعدمت الشفافية، فى ظل لجم الصحافة وتغييب المجتمع المدنى النشط وانعدمت المسائلة فى غياب القضاء المستقل، واستشرى الفساد كنتيجة طبيعية لهذا الوضع الشاذ والذى بدوره أدى الى تأثيرات وخيمة على جميع قطاعات الحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية. وتسبب الفساد على وجه الخصوص فى عرقلة وإفشال مشاريع التنمية وتقييد التجارة وتشويه حجم وتكوين نفقات الدولة.
وقد تسبب الفساد أيضا فى إضعاف النظام المالى وإفقار شريحة مهمة من المجتمع بينما خلق ودعم الرشوة والصفقات التجارية السرية والمشبوهة والإرتفاع غير المسبوق فى عدد الشباب الباحث عن عمل والإرتفاع الفاحش فى الأسعار. وقد شجع الفساد على الإتجار فى المخدرات وفى البشر والعمليات الإحتيالية المختلفة مثل التنصل من دفع الضرائب المستحقة وغيرها. وقد تسبب الفساد أيضا فى الزج فى دهاليز السجون بأولئك الذين تجاسروا على المجاهرة بمعارضتهم للفساد وأوكاره واضطرالمئات الأخرون الى الفرار خارج وطنهم طلبا للنجاة من بطش المفسدين.

3. يطرح عدم الجدية الذى تناولت بها الأجهزة التنفيذية مشروع “إقرار الذمة” المهم عدة تسائلات وأهمها لماذا لم تظهر نتائجه حتى بعد سنة كاملة من بدئه.. وهو المشروع الذى حدد العقيد القذافى شخصيا مدته بأربعة شهور وهي مدة كافية، بكل المقاييس، لإعداد الإقرارات وتسليمها الى الجهات المعنية لدراستها وإعداد تقرير شامل بنتائجها لنشره على الرأي العام للإستفادة منه فى مكافحة انتشار “فيروس” الفساد الذى طال كل المرافق والمؤسسسات الى ان اصبح اهم عامل فى إعاقة وربما إفشال اي مشروع جاد للإصلاح والتحديث والتنمية. إن السؤال المهم الذى يطرحه عدم تنفيذ هذا المشروع الذى يمثل بداية مهمة، برغم محدوديته، على طريق مكافحة الفساد والحد من انتشاره.. يطرح إشكالية هيكلة الدولة ومسؤولية أخذ القرارات فى مؤسساتها وهل أصبحت الأجهزة المسؤولة أساسا عن انتشار الفساد، وفى مقدمتها الأجهزة التنفيذية والأمنية، من القوة بحيث تختار ما تريد تنفيذه وتجمد مالايتماشى مع مصالح بعض أفرادها حتى لو كان ذلك على حساب التعليمات الصادرة عن العقيد القذافى الذى تعتبر توجيهاته بمثابة تعليمات لها أولوية التنفيذ بمقتضى بنود “وثيقة الشرعية الثورية”. هل يمكن ان يكون تمويه المشروع عمل يقصد من وراءه إفراغ تعليمات العقيد القذافى من محتواها وإفشال مشروعه لمكافحة آفة الفساد والذى يعتبرنقيضا للديموقراطية واحترام حقوق الإنسان ولا يمكن له ان ينمو ويعيش إلا فى مناخ دكتاتورى لا يسمح فيه بأي هامش لحرية الرأي والتعبير ويمنع فيه تكوين الجمعات المستقلة ولا يجيز القضاء العادل والمستقل. يبدو ان هذا هو “الإنجاز” الحقيقى الذى نجحت فى تكريسة فئة المفسدين طوال العقود الماضية الى جانب “نجاحها الباهر” فى الإستلاء والإستحواذ على المال العام وعلى ميكانيزمات مراقبته أيضا وأسست، تارة تحت ستار”حماية الثورة من التهديدات الداخلية” وتارة تحت ذريعة “خطرالمؤامرات الأجنبية”، لدولة الفساد التى انهت الرفاه العام الذى هو حق أساسي لمواطني دولة نفطية مثل ليبيا واستبدلته برفاه الأقلية التى تماطل اليوم فى الكشف عن حجم ثرائها غير المحدود والذى لا يتناسب البته مع دخلها المشروع.

4. لا بد أن يكون واضحا للجميع ان السبب الرئيسى فى إفشال مشروع العقيد القذافى ب”إقرار الذمة” يكمن أساسا فى كون الذين عهد لهم بتنفيذه هم انفسهم ظالعون في الفساد بسبب الحصانة التي يتمتعون بها بفعل مراكزهم داخل وخارج السلطة برغم ان هذه الحصانة لا تستند الى اي نص أوسند قانونى داخل مؤسسات الدولة أو ضمن هيكلها وهي مرتبطة مباشرة بالارادة السياسية التى أدارت جميع مرافق الدولة بمافيها المال العام لعقود دون محاسبة او مسائلة واللتان تعتبران اهم ركائزمكافحة الفساد. وقد ترتب على غياب المحاسبة والمسائلة آثارا مدمرة على الناس حيث استنزفت الموارد اللازمة للخدمات، تحت سمع وبصر الدولة، مثل خدمات الصحة والتعليم والإسكان والمواصلات وقوض القضاء المستقل وسيادة القانون وشحّت الإستثمارات وأضعفت الثقة فى نظام الدولة الذى بدوره ضاعف من انتهاكاته لحقوق الإنسان وقمعه لشعوره بعدم رضى الناس على أدائه والذى صوره المفسدين على كونه مؤامرة من “القوة الرجعية” وذلك بغية تمسكهم بمواقعهم حتى ولوكان ذلك على حساب الإحتقان وعدم الإستقرار السياسى والإقتصادى والإجتماعى وحرمان الناس من أبسط حقوقهم.

5. يعتبرمشروع “حاميها حراميها” المشار إليه اعلاه، برغم أهميته كاعتراف رسمى بانتشار الفساد على نطاق واسع،.. يعتبرمشروعا متواضعا بالقياس بحجم الفساد وتاثيراته الإقتصادية والإجتماعية والسياسية المدمرة على المجتمع والدولة. وليست الرابطة متاكدة من الهدف المرجو من ذلك المشروع وما إذا كان القصد منه مهادنة المفسدين ام أنه بداية لسياسة حقيقية لمكافحة الفساد.
وإذا ما كان الهدف الأخير هو المقصود فإن مكافحة الفساد يتطلب مشروعا متكاملا تتداخل فيه جميع حيثيات الحكم الرشيد بما فى ذلك التقيد بالإحترام التام لحقوق الإنسان وارساء قواعد استقلال القضاء وسيادة القانون والصحافة الحرة وحرية انشاء منظمات مجتمع مدنى مستقلة. ويتطلب الحكم الرشيد التحلى بالأخلاق ومراعاة القيم والمبادئ الأخلاقية التى تضبط السلوك وتوخى النزاهة ومطابقة الأقوال بالأفعال وتقتضى نزاهة النخبة السياسية ان يفوا بمسؤولياتهم تجاه الناس وان يمتنعواعن استعمال السلطة لتحقيق مآرب شخصية وان يمنحوا الأولوية للمصلحة العامة وان يحرصوا على الشفافية والمحاسبة والمسائلة.
أما فيما يخص حقوق الإنسان فهي تتعرض للإنتهاك حيث يستشرى الفساد ( قاعدة عامة تخص ليبيا وجميع الدول) ذلك أن انتشاره يفرض تقييد الحقوق المدنية والسياسية (تقييد القضاء،
منع حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير،إلغاء المجتمع المدنى المستقل الى آخره..) بغية تسهيل تمكين فئة المفسدين من الإستلاء على موارد الدولة التى تحولها عن مسار استثمارها فى الشأن العام الى المشاريع الخاصة لأعضاء الفئة والتى تكون بذلك قد حرمت الدولة من الموارد الضرورية للوفاء بالتزاماتها نحو الناس فى مجال احترام حقوقهم الإقتصادية والإجتماعية والثقافية. وتود الرابطة فى هذا المجال التنبيه بأن مشاريع التنمية التى اعلن عنها أخيرا والتى قدرت قيمة استثماراتها باكثر من 100 مليار دينارا يمكن أن تساهم فى تفاقم الفساد وآثاره المدمّرة إذا لم تتخذ الإجراءات الضرورية لوضع آلية مراقبة ومسائلة مهنية وغير مخترقة للتاكّد من ان الأموال لا تحوّل عن الغرض الذى خصّصت له لأي سبب كان وبأن المواد والخدمات المقدمة هي نفسها المتعاقد عليها. ويجب ان تشمل الرقابة الشركات الأجنبية والمحلية على السواء للتأكد من عدم لجوئها الى الفساد عن طريق إغراء موظفين عمومين للقيام أو عدم القيام بعمل يمكن أن يسبب خسارة للمشروع اوللدولة أو لهما معا

. 6. أصبحت ليبيا رسميا، منذ 7 يونيو 2005، طرفا كامل العضوية فى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التى تنص مادتها الخامسة على “ان تقوم كل دولة(ليبيا) طرف بوضع أو ترسيخ سياسات فعالة منسقة لمكافحة الفساد تعززمشاركة المجتمع المدنى وتجسد سيادة القانون وحسن إدارة الشؤون والممتلكات العمومية والشفافية والمسائلة”. وبدون الدخول فى تفاصيل الإتـفاقية فإن هذه المادة وحدها تلخض كل ما فى حاجة ليبيا إليه فى مجال مكافحة الفساد. فهي فى حاجة الى منظومة مؤسساتية متكاملة المعالم ومترابطة قادرة على ضمان الشفافية والمحاسبة والمسائلة. وقد أجمع خبراء مكافحة الفساد بأن هناك شروط يجب الإيفاء بها وتوفيرها إذا ما كنا جادين حقا فى مسعانا لمكافة الفساد والحد من انتشاره.

ويمكن تلخيص هذه الشروط فى حدودها الدنيا بالنسبة لليبيا كالآتى:

  • إصلاح المنظومة القانونية لكفالة استقلال القضاء وإنشاء جهاز قضائي فعال ومستقل ليحظى بالمصداقية ويتاح اللجوء إليه من طرف الناس باطمئنان.
  • العمل على إنشاء مكتب للمظالم تكون مهمته معالجة الشكاوى التى يتقدم بها أعضاء المجتممع المدنى بشان أوجه القصور فى عملية صنع قرارات الدولة والتحقيق فى المشاكل التى تقع داخل مؤسساتها.
  • العمل على إنشاء وكالة مستقلة لمكافحة الفساد تكون مهمتها التحقيق فى الشكاوى التى تتلقاها مباشرة من الناس والتى تتضمن مزاعم إساءة استعمال السلطة والمعاملة غير العادلة واختلاس الأموال العامة لتسليط الضوء على مبدأ المسائلة والنزاهة والمساهمة فى زيادة الوعي العام بالفساد وآثاره المدمّرة.
  • الإعلام الحروالمستقل سلاح فتاك للفساد لأن أكثر ما يخشاه الفاسد هو الفضيحة على صفحات الجرائد أو على شاشات التلفزيون. ولتمكين وسائل الإعلام من القيام بمهامها لا بد من سن قوانين لكفالة الحق فى الحصول على المعلومات المتوفّرة لدى أجهزة الدولة وإجبارها على إعلام الناس بالسياسات العامة بما فيها إجراءات اعتماد الميزانية العامة والإبلاغ عن الإيرادات والمصروفات فى حينها وذلك بغية نشروإرساء الشفافية والمساءلة وتأمين الرقابة بواسطة مؤسسات مستقلة من وسائل الاعلام بكل انواعها.
  • تعزيز مشاركة منظمات المجتمع المدنى المستقلة فى منع الفساد ومحاربته وفى إذكاء وعي الناس فيما يتعلق بوجود الفساد وأسبابه وجسامته وما يمثله من خطر وذلك لتعزيز الشفافية فى عملية اتخاذ القرار وتشجيع إسهام الناس فيه ومنع التسامح مع المفسدين. ويجب ان يشمل تعزيز منظمات المجتمع المدنى دورها المهم فى حماية حرية التماس المعلومات المتعلقة بالفساد وتلقيها ونشرها وتعميمها والى رفع مستوى إسهامها فى برامج توعية عامة تشمل المناهج المدرسية والجامعات ومؤسسات جماهيرية أخرى.
  • تعميم مفهوم الوظيفة العومية على كل من أؤتمن على المصلحة العامة وليس فقط على المال العام وإعداد مدونات أو معايير سلوكية من أجل الأداء الصحيح والمشرف والسليم للوظييفة العمومية. ولا بد من وضع تدابير تيسرقيام الموظفين العموميين بإبلاغ السلطات المعنية عن أفعال الفساد عندما يكتشفون مثل هذه الأفعال أثناء أداء وظائفهم.
  • العمل على وضع معايير وإجراءات تستهدف صون نزاهة القطاع الخاص بما فى ذلك وضع مدونة قواعد سلوك من أجل ممارسة نشاطاته على وجه صحيح ومشرف وسليم ومنع تضارب المصالح وأيضا من أجل ترويج استخدام الممارسات التجارية الحسنة والنزيهة بين المنشأت التجارية وفى العلاقات التعاقدية بين تلك المنشأت والدولة.
  • اتخاذ التدابير القانونية اللازمة لتعزيز تعقب وحجز العائدات غير المشروعة بما فى ذلك العائدات التى احيلت الى اشخاص (الورثة مثلا) آخرين بعد وفاة المسؤول الفاسد فى الحالات التى يتعذر فيها القيام بملاحقة قضائية جنائية.

7. هذه باختصار بعض الأسلحة التى يمكن استعمالها فى مكافحة الفساد والحد من انتشاره. إلا ان الإرادة السياسية تظل أهم سلاحا لما لها من امكانيات قانونية ومادية وبشرية تمكنها من الرصد الدقيق للفساد والإنقضاض عليه فى اي وقت تقرره. والى ان يحين ذلك الوقت سوف يستمر الفساد فى نخر الجسد الليبى غير عابئ بمصير الناس وحقوقهم ولابالدولة وخراب مؤسساتها.