9/6/2005

سددت التوصيات الصادرة عن المؤتمر القطري العاشر لحزب ” البعث ” ضربة موجعة لجميع الأصوات التي بقيت تراهن حتى اللحظة الأخيرة على أن الرئيس السوري ” يمتلك مشروعا إصلاحيا حقيقيا ” لإخراج البلاد من مستنقع الوحل الذي تخوّض فيه منذ سنوات طويلة .

وإذا كانت المراهنات ، التي جاء أهمها من بعض أطراف المعارضة التي تسعى لاهثة للحصول على كسرة خبز ، مهما كانت صغيرة ، من بقايا الفتات على طاولة السلطة ، فإن الضربة التي سددها بشار الأسد وحزبه قد استهدفت أهم مطلبين من مطالب هؤلاء ، أي موضوع ” الاحتكار الدستوري ” للسلطة و قوانين الطوارئ ، بما ينطوي عليه هذا الأخير من أبعاد تتصل بالحريات العامة .

فعلى الصعيد الأول كان الأبرز في تركيبة القيادة القطرية الجديدة للبعث هو ” انتخاب ” رئيس ما يسمى بمجلس الشعب ورئس الوزراء ” بصفتيهما الاعتباريتين ، وليس بصفتيهما الطبيعيتين .

الأمر الذي يعني تأكيد بقاء السلطتين التشريعية والتنفيذية في أيدي البعث . هذا كيلا نتحدث عن الرأس الأكبر للسلطة التنفيذية ( بشار الأسد ) .

وعندما تكون السلطتان التشريعية والتنفيذية محتكرتين بالكامل بموجب ” طابو دستوري ” ، يصبح الحديث عن التعددية الحزبية والسياسية نوعا من اللغو هو أقرب إلى البلف أو الاحتيال السياسي أو الضحك على الذقون ، إذا ما استخدمنا التعبير الشعبي ، منه إلى أي شيء آخر .

وإذا كانت واحدة من توصيات المؤتمر المتصلة بهذا الجانب قد أشارت إلى إصدار قانون للأحزاب ، فإن هذه التوصية قد ولدت بوصفها جثة أو جيفة ، ذلك لأن أي قانون للأحزاب ، ومهما كان ” متسامحا ” و ” كريما ” ، سيبقى محكوما بهذا التكريس المتجدد لاحتكار السلطة ، أي ” شرعنة ” حرية العمل السياسي ..

لكن داخل قفص محكم الإغلاق ! ولم يكن تنصيب مدير إدارة المخابرات العامة هشام الاختيار ( بختيار) إلا الإطار الذي يكمل الصورة ، أو الرسالة الأهم التي أراد النظام توجيهها لمن يهمه الأمر .

ليس لأن هذا الرجل يعتبر واحدا من أكبر رؤوس الإجرام الدموي في تاريخ سورية الحديث ، أو لأن اسمه ارتبط بأكبر عمليات الفساد ( ورشات تزوير العملات الأجنبية ليست سوى الجزء الناتىء من جبل الجليد ) ، بل لأنه كان على مدى سنوات طويلة ، أي منذ أصبح رئيسا لفرع المخابرات العسكرية في دمشق ( فرع المنطقة ) ، عضوا في اللجنة الأمنية العليا المسؤولة عن تقرير وضع المعتقلين السياسيين وعن الاتصال بالمعارضين و ” التفاوض ” معهم ، وبشكل خاص الإخوان المسلمين .

ومن شبه المؤكد أن ” ملف إدارة شؤون المعارضة ” سيسند إليه وسيكون من نصيبه فور توزيع المهمات على أعضاء القيادة القطرية الجديدة .

وليس بدون مغزى ، في هذا السياق ، أن بختيار نفسه ( وفقا لتقرير خاص حصلنا عليه وسننشره خلال يومين ) قدم مشروعا متكاملا لـ ” فبركة معارضة شرعية ” على قياس السلطة تكون نواتها الأساسية من البعثيين أنفسهم بعد إلغاء قانون أمن البعث الصادر في العام 1979 المتعلق بازدواجية التنظيم الحزبي .

وبمعنى آخر : شرعنة العمل السياسي في صيغة ” منابر” أشبه ما تكون بـ ” المنابر ” التي أطلقها السادات ، مع فارق واحد هو أن الهيكل الأساسي لـ ” المنابر السورية ” سيكون من البعثيين الذي سيغيرون جلودهم ، التنظيمية وحسب ، بأوامر السلطة .

وعلينا أن نضع” التفريخات ” السياسية التنظيمية ” المعارضة ” التي حصلت مؤخرا داخل سورية وخارجها ، لا سيما في باريس ، داخل هذا الإطار .

حيث أقدم عدد من عملاء المخابرات السورية ، على إنشاء تنظيمات وهياكل سياسية بأوامر مباشرة من بختيار وجماعته ، وبشكل خاص بهجت سليمان ، بعد أن أعطي الضوء الأخضر لهم باستخدام جميع الشعارات ، مهما كانت متطرفة ، شريطة التأكيد على ” شرعية رئاسة بشار الأسد وتمييزه عن باقي أركان النظام ” و ” التنديد بأي شكل من أشكال الاستقواء بالخارج ” .

ولن يكون مفاجئا لنا أن يقدم هؤلاء قريبا ، بأمر السلطة وبالتنسيق معها ، على تنفيذ حركات استعراضية داخل وخارج البلاد ، ولاسيما في فرنسا ، من شأنها ” تعزيز مصداقيتهم لدى الجهمور ” !

من الواضح إذا أن النظام قد حدد خياره النهائي ، وحدد حجم ” العظمة ” التي بإمكانها أن يلقي بها لأولئك الذين يلهثون على بابه منذ خمس سنوات ، و أوجد الآليات التي يستطيع ، كما يعتقد ، أن يعيد إنتاج نفسه من خلالها بصورة أقل قبحا على الصعيدين الداخلي والخارجي :

ـ السماح بحرية مقيدة للعمل السياسي أشبه ما تكون بـ ” مخطط تقريد سياسي ” ، أي إطلاق حرية ” النطوطة ” وممارسة ألعاب السيرك والبهلوانيات السياسية ، كما القرود ، داخل قفص ؛

ـ إطلاق عدد من التغييرات الاقتصادية التي تسمح باستكمال وتسريع عملية تبييض الأموال العامة المسروقة ، والتي بدأت مع مرسوم الاستثمار رقم 10 الذي كان وراء إصداره عدد من أكبر لصوص وبارونات النهب لتمكينهم من غسيل أموالهم في مشاريع سرعان ما تبين أن تسعة أعشارها وهمي ولا وجود له إلا على الورق .

ولا بأس ـ في هذا السياق ـ من الإقدام على بعض الحركات الاستعراضية كاعتقال ومحاكمة بعض القطط السمان ، لكن دون الاقتراب من الحيتان والديناصورات الكبيرة

ـ حل جزئي لقضية المكتومين الأكراد ، من خلال إعادة الاعتراف بحق قسم منهم ، وليس كلهم ، في الجنسية . وهذا كاف بحد ذاته لتفسيخ وتفتيت الأحزاب الكردية وتحييد أغلبيتها خارج ساحة الصراع ، طالما أن معظمها لم يتجاوز أفقه وبرنامجه السياسي حدود هذه النقطة . وعلينا أن نفهم ” الانفجار الإعلامي ” الذي حصل مؤخرا بين القوى بعض الأحزاب الكردية ( على خلفية المظاهرات المنددة بتصفية الشيخ الأنواري معشوق الخزنوي ) في هذا الإطار .
إذ إن بعض القوى الكردية ترى في محمد منصورة حليفا استراتيجيا أقرب إليها من رياض الترك أو علي صدر الدين البيانوني أو فاتح جاموس !

ذلك هو خيار السلطة .
أما خيار المعارضة ، إن كان لها من خيار ، أو كانت تستطيع أن تختار أصلا ، فلن يتجاوز حدود إسراع معظمها ، وتحديدا أولئك المتعيشين على مجموعة من الخرافات والأساطير المتعلقة بالهجمة الإمبريالية ـ الصهيونية و ” المصلحة الوطنية والقومية ” ، إلى تلقف العظمة التي سترميها السلطة لهم ، بغض النظر عن سماكة اللحم الذي سيبقيه هشام بختيار عليها ، طالما أن البعض في هذه المعارضة حلمه الأقصى ، وبرنامجه الإصلاحي الأكبر ، هو الاستيلاء كرسي على صفوان قدسي في جبهة النظام ” الوطنية التقدمية ” ، بغض النظر عما إذا كان هذا الكرسي منصوبا على خازوق أم لا !