15/11/2005
أمير مخول
“المؤتمر العام للجماهير العربية ضد افة العنف والاحتراب الداخلي” والذي سيعقد نهاية الاسبوع في ام الفحم, هو حدث اهم ما فيه مجرد انعقاده, وذلك في حال شكل بداية لمؤتمر فعلي مستقبلي. واقصد باهمية انعقاده من باب وضع موضوع العنف المجتمعي على جدول اعمال لجنة الرؤساء نيابة عن لجنة المتابعة كموضوع شاغل وجدير بالبحث وهو بحد ذاته امر ايجابي. وفي المقابل يطرح التساؤل حول قدرة هذا المؤتمر على اثارة نقاش شعبي هادف ومولّد لحراك شعبي ومؤسساتي.
ودون التطرق الى الطاقم التحضيري المهني والمتحدثين الذين اكن لجميعهم التقدير والاحترام وكونهم ذوي تجارب مهنية عالية والتزام اجتماعي وطني, فان النقاش ليس معهم. وعلى العكس فانهم يقدمون جزءا من الصورة حول سعة الطاقات المهنية العالية داخل مجتمعنا كنقطة قوة للمجتمع الفلسطيني. وبما انني شاركت في بعض نقاشات اللجنة التحضيرية, فانني اؤكد ان النقاش هو من باب وجهة نظر مقابل وجهة النظر السائدة ونظرة الجهة المبادرة صاحبة القرار وكيفية تنظيم مؤتمرات تصبو الى التحلي بالصفة التمثيلية نيابة عن المجتمع الفلسطيني او الهادفة الى تنظيمه دون اشراكه.
وفي هذا السياق ايضا تاتي وثيقة مكافحة العنف, التي جاءت بشكل فوقي وخارج اي سياق واي مسار لتغيير السلوك المجتمعي. هذه الوثيقة لم تكن نتاج حوار مجتمعي ولا حزبي ولا مؤسساتي, بل مجرد نتاج عمل مكتبي. فهل من يوقع عليها ملزم او ملتزم بسلوكيات تتلاءم وقيم الوثيقة. انها وثيقة يستطيع كل فرد داخل مجتمعنا ان يوقع عليها ولكنها ذات الوقت لا تلزم اي فرد كونها ليست نتاج المجتمع بتفاعلاته وتفتقد الى الضوابط.
للاسف, يستطيع عمليا رجل يمارس العنف ضد المراة ان يوقع عليها, انسان متعصب عائليا او طائفيا يستطيع التوقيع عليها, انسان شارك في طوشة عشية انتخابات سلطة محلية او غداتها سيوقع عليها, فالجميع في حل من الالتزام. وسيوقع عليها الكثيرون الكثيرون المقتنعون بقيم مكافحة العنف المجتمعي. لكن بهذه التشكيلة ستفقد من قيمتها الاجتماعية.
متى تستطيع مثل هذه الوثيقة ان تنجح؟ اي ان تشكل معيارا اجتماعيا نتفق عليه ونلتزم به فعلا؟ انها تكون كذلك من خلال تنظيم المجتمع الفلسطيني ومن خلال مؤسساته المنتخبة. مثلا لو قررنا ان تكون لجنة المتابعة منتخبة مباشرة من الجماهير الفلسطينية فعندها بامكان مثل هذه الوثيقة ان تكون ملزمة للافراد والتيارات في عملية الترشيح والانتخاب, ضمن ضوابط ملزمة متفق عليها وشرط للمشاركة في بناء المؤسسات التمثيلية وانتخابها. وفي هذا السياق هناك اهمية لمواثيق الاخلاقيات في المؤسسات كونها ضوابط ملزمة في العضوية والمسار, وهذا البعد الجوهري تفتقده المبادرة طي البحث, خاصة انها تهدف ان تتحدث باسم المجتمع ككل او نيابة عنه.
روح المؤتمر ومنهاجيته فيها وللاسف استبعاد المشاركة الجماهيرية التي بغياب المؤسسات القيادية والتمثيلية المنظمة للمجتمع فان مثل هذه المشاركة هي الضمانة الوحيدة لمواجهة العنف خاصة الجماعي داخل المجتمع الفلسطيني. فمواجهة مظاهر العنف هي ممكنة الى حد ما وجزئيا فقط من خلال تنظيم المجتمع, وتنظيمه من خلال مؤسساته المنتخبة مباشرة من الناس مصدر شرعيتها, وليس من خلال تجميع الممثلين في المرافق المختلفة كما الوضع الان في لجنة المتابعة التي يتراجع دورها باستمرار. ناهيك عن التاكيد ان التغييرات الاجتماعية لم ولن تكون نتاج قرار صادر عن اجتماع او توصيات مؤتمر بدون حد ادنى من الاشراك الجماهيري باستثناء دور المستمعين. فالتغيير هي نتاج تطور واحيانا نتاج حالة عامة اجتماعية سياسية او شعبية قادرة ان تنتج هويات اكثر تطورا مما هو قائم, هويات تشد باتجاه الخارج او الخارجة عن المركز والقاعدة وليس تلك التي تشد باتجاه المركز لتحافظ على القاعدة.
واذ لا نستطيع حل الصرعات فعلا والقضاء على افة العنف في المجتمع يصبح المطلوب ليس حل الصراعات بل ادارتها والسعي لمحاصرتها ومنع تصعيدها ومعالجة تبعاتها وكلها ليست بالامر القليل. ولا يمكن ان نتوقع من انفسنا كمجتمع اكثر في المستقبل المرئي. فنحن نعيش في صراع ونتاج صراع ونتاج غبن تاريخي يعيد انتاج ذاته في محاولة تهميش ونزع انسانيتنا وتحجيم مستمر لافاق تطلعاتنا لنغوص في ما تدعي دولة اسرائيل احترامه – اي “تميزنا الثقافي”. واسرائيل عمليا “تحترم” ما تسميه تميزنا الثقافي او تعترف به فقط في حالات العنف المجتمعي الداخلي. مثل العنف ضد المراة وجريمة شرف العائلة والتعصب العائلي والطائفي والجهوي الذي يحتاجون اليه كدولة من اجل مواجهة هويتنا الجماعية الوطنية الانسانية وتحويلنا كما يسعون الى اقليات جهوية وكما يسعون تجاه كل شعبنا الفلسطيني بالقضاء على بنيتنا كشعب وكمجتمع. فالاحتراب الداخلي في جوهره يشكل ايضا اداة مراقبة وسيطرة من قبل الدولة لاننا كمجتمع سنرتبط بها اكثر وبالاصح سنرتبط باجهزتها بالذات التي تقمعنا, اي اجهزتها الامنية والقضائية.
جدير بلجنة المتابعة حتى بمستوى ادائها وتنظيمها الحالي, ان تعطي تصورا او تصبو لبلورة تصور جماعي لتنظيم المجتمع الفلسطيني, وليس الاستعاضة عن القرار السياسي الاهم المطروح اليوم حول تنظيم المجتمع الفلسطيني, بمهننة التعامل مع ظواهر تعيق بنيويا التقدم باتجاه تنظيم المجتمع. آفة العنف والاحتراب الداخلي تمس صلب مبنانا الاجتماعي من جهة وصلب علاقتنا بالدولة كبيئة عنيفة معادية وفعالة في خلق الاحتراب الداخلي وفي القمع الخارجي لنا. والمثل الاكثر فظاظة مؤخرا كان تدخل الدولة في قضية شهاب الدين في الناصرة التي تلاحقنا سنين طويلة كوننا لم نكن قادرين كمجتمع ان نجد لها حلا اهليا مجتمعيا في الوقت المناسب.
ومع فقدان الرؤية الحقيقة لدى قيادة لجنة المتابعة والقطرية والرسالة الواضحة, يأتي خطر التوجه التبشيري, ونقف امام تحدي تحاشي التبشيرية لانها سوف تبرر نهج “من باب القيام بالواجب” وانتهاء المسؤولية. تعني نهاية المسؤولية تجاه تبعات الموضوع. والتبشيرية هي زرع الوهم وتصويره كما لو كان حقيقة, وكي لا نتفاجأ غداة المؤتمر بموجة العنف القادمة.
اخفقنا جميعا كمؤسسات وحركات وقيادات في مواجهة الاعتداءات الطائفية في قرية المغار قبل اشهر, والحقيقة انه رغم الجهود الخيرة الكثيرة التي بذلت, لم نكن نملك القدرة كمجتمع على مواجهة مثل هذا التحدي ولا نزال كذلك. وعدم امتلاك القدرة لا يعني التبرير او الركون الى السلبية. بل ان مستوانا التنظيمي ومستوى اداء مؤسساتنا القيادية وتنظيم المجتمع القائم عاجز عن مواجهة هذا النوع من التحديات . لجنة المتابعة ليست قيادة بهذا المفهوم وليست قيادة ناتجة عن تنظيم المجتمع او ان مبناها كان مناسبا لمرحلة بلورتها اوائل الثمانينات , ولجنة الرؤساء والتداخل بين اللجنتين يضعف “المتابعة” بنيويا كون السلطات المحلية من ناحية معتمدة بنيويا على وزارة الداخلية الاسرائيلية من جهة ومن جهة مجتمعية في غالبيتها معتمدة على بنى المجتمع الابوي التقليدية وعلى الهويات الجهوية والفئوية المنبثقة عنها بما فيها تلك المولدة للعنف في تفاعلاتها وبالذات التعصب العائلي والطائفي.
التعصب الطائفي او العائلي اقوى من الحركة السياسية المنظمة, وقادر على التجنيد والتغذية الذاتية وانتاج ذاته اكثر من التجنيد الراشد, فهو مخترق للاجيال وللبلدة وهو ما يؤدي باجيالنا الصاعدة الى التفتيش عن “مصادر القوة” من خارج المجتمع ولا مصدر غير الدولة من خلال التجند للجيش والشرطة لنزداد عنفا داخليا.
ان دور لجنة المتابعة يجب ان يتمحور في محور البنى المولدة للاحتراب الداخلي وفي محور العلاقة مع الدولة المولدة للعنف ايضا تجاهنا وللعنف داخل المجتمع. اي بتفاعلات المجتمع الرئيسية الداخلية منها والخارجية والعلاقة بينهما. وغير ذلك ان تدعم المبادرات المؤسساتية العامة او التخصصية وتتبني مواقف تدين كل انواع العنف المجتمعي. اي ان تسهم في خلق بيئة مؤاتية للحركات الاجتماعية على تعدديتها والمناهضة للعنف المجتمعي بتجلياته المختلفة.
اما القيام بالدور الفعال والمستديم فانه موضوع جدير بان يؤخذ بالحسبان ضمن السعي الى بناء المؤسسات الجماعية واعادة بناء لجنة المتابعة وادماج موضوع العنف والاحتراب الداخلي والضوابط وذلك من خلال تنظيم انفسنا كمجتمع.