ماذا يعني أكثم نعيسة في سورية؟ دونكيشوت آخر ولكن أمام طواحين لا مرئية، هذه المرة، ليصارعها. مخيلة أكثر فكاهة وعمقاً من عبقرية سرفانتس أبدعت هذه الشخصية في كتاب شيق من سلسلة الرواية السورية. إنه لسرد لا يضاهى في تاريخ الرواية العالمية حيث يقنعنا الراوي قناعة، لا يرقى إليها الشك، بوجود مادي لتلك الطواحين لكنها تبقى لا مرئية وسيف أكثم نعيسة لا يني يضرب في الهواء. إنها لتقانة مدهشة إذ يبقى الراوي غائباً رغم السرد المتدفق فلا هو مؤلف هذه الرواية ولا هو إحدى شخصياتها. طواحين محكمة الصنع وداخلة في تماسك شديد في منظومة حيث يقف أمامها أكثم نعيسة بحركة عصبية لا تتوقف وبفقدان كامل للتوازن النفسي قبل الجسدي.
يعتقد بعض القراء ذوي النوايا السيئة أن الراوي ما هو إلا مهندس منظومة الطواحين هذه، لكنهم يظلون عاجزين عن تفسير علاقته بمجمل السرد وإقحام أكثم نعيسة فيه بهذه الطريقة غير المقنعة. إذا ما افترضنا أن شخصية حقوقية ينبغي أن تدرك سلفاً لا مرئية هذه الطواحين فكيف له، من منطلق النزاهة الفنية، أن تدخل في السرد وتصل إلى النهاية المحتومة، حيث تقبع في السجن مصابة بالشلل النصفي؟ أم إن تفسير ذلك يكمن في جرأة أكثم نعيسة الدونكيشوتية؟ من ناحية أخرى، كيف يكون الراوي هو مهندس منظومة الطواحين ثم لا يخفي الرواية، التي بين أيدينا،
كما أخفى طواحينه عن الأنظار فلا ترى بالعين المجردة كأبجدية يرد ذكرها في أساطير الجن؟ ليس لدى أصحاب نظرية الراوي هذه أجوبة لتسد سيل التساؤلات الآنفة الذكر.
حسناً. فلنستمع إلى القراء الشكلانيين. فهم يرون أن الراوي وإن جعل طواحينه الخرافية هذه غير مرئية أمام أبصار من يقرؤون الرواية، لكن أكثم نعيسة، بوصفه شخصية رئيسة بدونها تفقد الحبكة خيوطها، بمقدوره رؤية تلك الطواحين بالعين المجردة ورصد آليتها شديدة التعقيد بمخيلته الشريرة. إلى هنا، ننشد هؤلاء بأن يفسروا لنا طبيعة زمن السرد. هل هو فيزيقي أم ميتافيزيقي؟ بتعبير آخر، هل سيغادر أكثم نعيسة السجن منتصراً، رمزياً، على الطواحين التي كان يصارعها؟ أم سيخرج من الرواية نفسها مهزوماً، في الواقع، ليصبح عندئذ هو الراوي وليضعنا أمام الأمر الواقع ونحن محتارون في حقيقة كل من الراوي والرواية؟
رغم ذلك، تبقى الفكاهة والعمق، اللذان كانا موضوع حديثنا، يحتاجان منا إلى تحليل كل منهما إلى عناصره الأولية. الفكاهة: ناشط في حقوق الإنسان يفتقر إلى أبسط تلك الحقوق وأكثرها إلحاحاً في بقاء الناشط ناشطاً في مجاله ألا وهو حق الوجود خارج ستة جدران تضيق حتى على التنفس دون أي مبرر دنيوي أو إلهي، ولا نقول “قانوني” لأننا لا نفهم بالفعل معنى هذه الكلمة. فقد استطاع قراء غربيون للرواية تأويل هذا الحق بأنه “حق كل فرد في الحياة والحرية وسلامة شخصه” كما جاء في المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
العمق: أكثم نعيسة اختار أن يكون الدونكيشوت، عفواً، ناشطاً في حقوق الإنسان بين منظومة طواحين لا مرئية تتألف، مثلاً لا حصراً، من حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي تعمر أكثر من حياته. ولم يذكر لنا الراوي سوى حربين استمرت الأولى ستة أيام عام 1967 والأخرى بضعة عشر يوماً عام 1973. هذا أولاً.
ثانياً، محكمة أمن الدولة.
وقد تساءلنا مراراً، كقراء للرواية، ما العلاقة الفنية بين المطالبة بحقوق الإنسان وبين أمن الدولة؟ أم إن أمن الدولة لا يقوم إلا في غياب حقوق الإنسان؟ ثالثاً، نظرية الحزب الواحد حاكماً للدولة والمجتمع. ألم يتم في فن الرواية إتلاف تقانة البطل الأنموذج منذ أن كتب دوستويفسكي “الإخوة كرامازوف” قبل أكثر من مائة عام؟ لماذا يتم تهميش الشخصيات الأخرى في السرد كالنعيسي والماركسي والمحمدي والسعادي لصالح العفلقي؟ فهل الأخير قديس والبقية ممسوسون؟ رابعاً، الدستور المصاب بانفصام الشخصية. تعلمنا، نحن قراء الرواية، من دوستويفسكي انقسام وعي الراوي على ذاته ولم نسمع بما يسمى “انفصام الدستور” بين حالة الصلابة وحالة الميوعة. ما أغرب أمر الدستور هذا! يكون صلباً تجاه رياض سيف لكونه فقط “حاول تغييره” (ما عمل النائب في أروقة السلطة التشريعية إن لم يكن على احتكاك بقوانين البلاد ودستورها؟)، وفي الوقت ذاته، كم كان مائعاً عندما قام شخص آخر بتغييره فعلاً لكي يصبح رئيساً للجمهورية.
———————–
* شاعر وأديب صيني كان يقيم في سورية منذ عشرين عام ونيف ويكتب بالعربية
أُبعد منذ فترة ٍ قصيرة عن سورية بناء ً على أوامر المخابرات العسكرية ودون
ذكر الأسباب , يقيم الآن في تركيا كلاجىء سياسي