12/12/2006

تجيء الذكرى الثامنة والخمسون لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لتضع البشرية كلها أمام أسئلة هي بمثابة حد السيف ، ذلك أن المرحلة الراهنة لعلها أن تكون حاملة طابعاً انتقالياً إلى واحد من مصيرين اثنين ، يتمثل أولهما في أن العالم يودّع منظومة الحقوق ، التي كافح البشر من أجلها على امتداد قرون من الزمن ، أما المصير الثاني فقد يتجلى في انفتاح هذا العالم على عصر جديد يقوم على إعادة الاعتبار للمنظومة المذكورة ، وبالطبع لا نعني أن ذلك – في شقيه الاثنين – سيحدث بين ليلة وضحاها ، وإنما هو في تقدير مجموعة من مراكز البحوث قد بلغ المنعطف الحرج الذي يعبر عن نفسه بكمّ هائل ومّطرد من الانتهاكات التي تصيب حقوق الإنسان في جلّ العالم على أيدي دول و مجموعات ونظم سياسية متعددة ، بل لعل مزيداً من التدقيق في واقع الحال هذا يظهر حالة نوعية جديدة من تلك الانتهاكات قد نصطلح عليها بمقولة “الاستباحة المعلنة الصريحة” وهذا الحال يفصح عن نفسه بتحّول عميق يخترق النظم السياسية لينُنتج بديلاً جديداً عنها يمثّل – في آن واحد – إمتداداً لهذه النظم وقطعاً معها ، فهو امتداد لها لأنها هي التي أنتجت المقدمات الأولى الضرورية “لنظام بوليسي” يستفرد السلطة السياسية والقادة الحزبيين والتكوينات الحزبية ، إضافة إلى مجموعات المجتمع المدني وحقوق الإنسان.

أما أن يكون” البديل الجديد” للنظام البوليسي حالة من حالات القطع معه ( أي مع هذا الأخير ) فهذا يُفصح عن نفسه في أن ” الجديد ” المعني لا يجد خصومه ماثلين في أولئك السياسيين والقادة الحزبيين والتكوينات الحزبية ومجموعات المجتمع المدني و حقوق الإنسان فحسب وإنما في المجتمع الذي يحكمه كله ، وهذا ما جعلنا نرى فيه ( في النظام الجديد ) نظاماً كلياً شاملاً لكل قطاعات المجتمع بمن فيه من ” خصوم ” و فئات و شرائح و طبقات …إلخ لا تجد نفسها في خصومة مباشرة معه ، وقد أنتج ذلك وضعية خطيرة تمثّلت في أن النظام الأمني المذكور اكتشف – بحكم مصالحه المفتوحة على كل الموبقات و الانتهاكات – أن إفساد المجتمع برمته هو بمثابة صمّام أمان يحول دون سقوطه ومن ثم ، كان ذلك قد أفضى – خصوصاً مع استتباب “مرحلة النفط السياسي” التي جاءت مع السبعينات بتدفقها النفطي وما أنتجه من سيولة مالية هائلة راحت توظّف في خدمة النظام المذكور.

ومع تعاظم تلك الاتجاهات راح يتضح أن المطلوب يتمثل في إسقاط الرهانات التي قد تؤدي إلى إعادة بناء المجتمعات تطويراً وتحديثاً و دمقرطة ، مما كان قد حمل في ثناياه خطاباً إلى الشعوب المعنية عليها بموجبه أن تكف عن الحلم بعلاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية و قضائية ..إلى يمكن أن تحمل لها آمالاً جديدة.

لقد هيمن ثالوث النظام الأمني الجديد : تعميم أجهزة المخابرات وثقافة الرعب ، وتحويل المال – كل المال – باتجاه الفساد والإفساد وتدمير كرامات الناس رجالاً و نساءاً بتحويل الأوليات إلى عاهرات نتيجة النزول عن خط الفقر ، وبتحويل الآخرين إلى ما يشبه القوادين يحققون المناصب والمكاسب من المتاجرة بمنظومة القيم المنهارة الأمر الذي يسهم في زيادة الفقر في أنحاء العالم و يغذي الصراعات المحلية ويساهم في زيادة الإنفاق العسكري بدلاً عن توزيع الإنفاق على الرعاية الاجتماعية والصحية والتنمية المستدامة والبحث عن مصادر نظيفة للطاقة الأمر الذي يؤدي من حيث النتيجة لتغذية وتجيش التطرف والإرهاب كنتيجة للفقر وغياب الديمقراطية وازدواجية ممارستها لا سيما من دول القرار وتعاظم الثقافية الظلامية الإقصائية.

لقد ولدت الإستراتيجية الأمنية في المجتمعات العربية لتدشّن عصراً جديداً مؤسـساً على الإلزام السوسيوثقافي والسياسي والقمعي والقائل ” بضرورة إفساد من لم يُفسـد بعد ، بحيث يصبح الجميع ملّوثين ومُدانين تحت الطلب” وهكذا تحل الذكرى الثامنة والخمسون الجديدة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقد أصبح العالم مُستباحاً على صعيد حقوق الإنسان ، لقد جاء النظام العالمي الجديد ليجد حليفين عظيمي التأثير له في مهمته غزو العالم تحت راية الدعوة إلى ” القرية الكونية الواحدة ” التي اتضح عبر تفكيك حيثياتها أنها هي المصطلح الآخر ( المُقعم بالنفاق الإيديولوجي ) للمصطلح الأعظم الذي هو ” السوق الكونية السلعية الواحدة ” أما الحليف الأول المتمثل بالنظام الأمني الأخطبوطي ( العربي فيما نعنيه هنا الآن ) فنكتشف الخيوط التي تفضي به إلى التواطؤ مع النظام العالمي المذكور في الهجوم الشامل على مراكز حقوق الإنسان أفراداً وفئات و مجموعات و شعوب ، وتتم الصفقة بين الفريقين بحيث يُخرج ” الداخل الوطني ” من الرهان نهائياً ليظل هذا الرهان على الخارج وحده، ويظهر الحليف الثاني المتمثّل في الأصولية الإسلامية “بشقها الظلامي” ليغلق الدائرة ، إذ ها هنا يُرفع هذا الحليف الثاني إلى مستوى الوسيط الحصيف بين الفريقين السابقين.

إن الأصولية المذكورة تبني إستراتيجيتها الأساسية على اختراق الحريات الأساسية للإنسان في النسق الديني الإسلامي ذاته ، كما بين هذا النسق والأنساق الدينية والمدنية الأخرى ، و يتم ذلك تحت راية مركبة ملتبسة ما بين حقوق إنسانية مخترقة في الداخل المتحالف مع الخارج ” الأميركي خصوصاً” من طرف ، و ما بين خارج يسعى إلى فك الحصار عن داخل مُحاصر منه ومن النظام الأمني الداخلي في آن واحد.

هكذا تأتي الذكرى المجيدة للإعلان العالمي في ظروف محلية ( عربية ) ودولية أقل ما يُقال فيها إنها المشروع المطالب باستباحة حقوق الإنسان على نحو يؤسـس للعودة إلى عالم الغاب أو ما قبله كما كان بعض المفكرين في القرن التاسع عشر يتنبؤن.

الدكتور طيب تيزيني
المنظمة السورية لحقوق الإنسـان
سواســـية