12/3/2005

لأنهُ رفض أن تكون كرامتهُ سواراً مرهوناً في معصم جلاّده ، ولأنهُ إرتكب جريمة ” حُب الأرض ” والتي يُعاقب عليها القانون ، ولأن يداهُ كانت قد زرعت الطيبة في قُلوب أبنائه والآخرين ، ولأنهُ فلسطيني المولد والأصل والهوية ، فقد كلفهُ كل ذلك خمسةٌ وعشرون عاماً من عُمره ولا زال يدفع السنة تلو السنة ، ولأن الشمس تُشرق كل يوم رُغم أنف المُحتل فإن جلاّدهُ تلذذ في إمتصاص سنوات شبابه ، وها هو يتلذذ في إمتصاص سنوات هرمه أيضاً .

اليوم : الخميس ، التاريخ : 21/8/1980 ، الساعة : 6:30 صباحاً ، المكان : مدينة يطا جنوب الخليل والهدف : محمد إبراهيم محمود أبو علي والمُلقب بأبو علي يطا .

في اليوم والتاريخ والسّاعة المذكورين أعلاه ، إستيقظت عائلة المُعتقل أبو علي يطا على أعداد هائلة من جُنود الإحتلال الإسرائيلي وهي تُحاصر المنزل من كل ناحية ، فالمطلوب في نظرهم كان أخطر من صدام أو إبن لادن .

حُشودٌ مُدججة بالسّلاح هاجمت منزل فريستها تماماً ككلاب الصيد لتُلقي القبض عليه مُتلبساً غارقاً في حُب أرضه ووطنه ، جاؤوا كي يعصبوا عينيه كي لا يرى طفليه الاّ بعد خمسة وعشرين عاماً ، وليكبلوا يديه كي لا يضعها على ” بطن زوجته ” قبل أن يرحل ، حيثُ أنها كانت حاملاً في شهرها السابع ، فحُرم إبن الرابعة والعشرين من عُمره حين إعتقل من أن يسمع كلمة ” أبي ” من الجنين الذي لم يولد بعد ، فلم يُعط السّجان فُرصةً لأبو علي أن يُشاهد طفلهُ الذي جاء الى الدُنيا كي لا يرى والدهُ في إنتظاره ، فالجيش الذي لا يُقهر لم يكن قاسياً على الأب فقط !! بل لم يتوان للحظة واحدة في إعتقال الزوجة ” الحامل ” أيضاً والتحقيق معها مُدةً زادت عن سبع ساعات مُتواصلة ، ولولا أنها كانت حاملاً في شهرها السابع لما تأخر جلاّد زوجها في إعتقالها هي الأُخرى !!

الإحتلال الإسرائيلي لم يكتف بهدم أُسرة بأكملها وذلك بإعتقاله للوالد !! بل عاد في اليوم التالي ، أي يوم الجمعة 22/8/1980 وقام بهدم المكان الذي كان الحنين والشّوق فيه يجمع الوالد بأبنائه وزوجته ، فقد قامت قوات الإحتلال الإسرائيلي بهدم منزل ” أبو علي يطا ” والمُكون من طابقين والذي كان يأوي بين جُدرانه ستة عشر نفراً .

وتناثر كُل شيء .. وتوقفت عقارب الزمن في ذلك اليوم بالتحديد ، فقد سقطت آخر أحلام الطفل إبراهيم والطفلة فلسطين أبناء المُعتقل مع آخر حجر من حجارة المنزل والذي كان أبو علي يلتمس في الخفاء خُطوتهُ وقُبيل شُروق الفجر كي يذهب الى عمله داخل إسرائيل وليجمع المال وحبّات العرق عائداً لأبنائه مع حُلول الظلام حاملاً كسرة الخُبز ورشفة الماء بالإضافة الى بعض المال الذي بنى منهُ البيت حجراً حجر ، مُستعيناً بالوقت والصبر معاً ، وما أن إكتمل المنزل حتى أصابت السّعادة قلب الجلاّد الذي كان فرحاً في مُشاهدته لحجارة البيت وهي تهوي .

ومنذ ذلك اليوم وأُم إبراهيم – زوجة المُعتقل – تقتسم الصّبر على البلاء هي وولدها الوحيد إبراهيم والذي لم يتجاوز عُمرهُ آنذاك العام ونصف العام ، وطفلتها فلسطين ثلاثة أعوام ، حتى الجنين الذي كان في بطنها قد أصابهُ شيئاً من المسؤولية وهو لم يتنفس عبير الحُرية بعد .

وبعد عام واحد على إعتقال الجيش الإسرائيلي لأبو علي يطا ، وتحديداً في 20/10/1981 ، أصدرت المحكمة العسكرية الإسرائيلية برام الله حُكماً بالسجن ” مدى الحياة ” بحق الرجل الذي خضع لست عمليات جراحية وهو داخل السجن ، خمسة منها في عينيه والسادسة هي عملة قسطرة للقلب ، وحسب ما أفادت به التقارير الطبية فإن المُعتقل أبو علي يطا يُعاني من عجز بنسبة لا تقل عن 50% في عينيه .

لقد إنطبق على أبو علي الحكمة التي تقول ” مشوار المئة ميل يبدأ بخُطوة ” ولكن تلك الحكمة قد إنطبقت عليه بأُسلوب آخر ، فبالنسبة لأبو علي فمشوار ” مدى الحياة ” قد بدأ في أوج سنين شبابه وعُمره ، فحين إعتقل أبو علي يطا كان عُمره آنذاك 24 عاماً ، وها هو اليوم يدخُل في عامه الخمسين ، حيثُ وبعد رحلة طويلة في سُجون الإحتلال ، ها هوُ يقبع اليوم في سجن بئر السبع جنوب الخليل .

بعد أن صدر الحُكم الجائر على الرجل الثائر ، كانت الزوجة أُم إبراهيم قد شدّت الرحال الى بيت والدها لتعيش عندهُ مُدة خمسة عشر عاماً كاملة ، كانت خلالها قد أنجبت طفلتها ” ليلى ” والتي عجز والدها المُعتقل حتى عن مُجرد تسميتها .

يا لهذا الزمن كم فيه من حكايات غريبة .. ويا لهذه الدُنيا كم تعُجُّ بالقصص العجيبة ، فكيف تكون يتيماً ووالدك على قيد الحياة !! وكيف تكبرُ وتكبرُ بعيداً عن أحضان الوالد ودفئه وحنانه !! فأي عقل يُصدق كل تلك التناقضات في سُنن الحياة ؟؟ ولكن وبالنهاية هذا وبالفعل ما حدث مع الأطفال الذين صاروا اليوم كبار ، إبراهيم وفلسطين وليلى ، فإبراهيم والذي إكتفى بنيله لشهادة الثالث الإعدادي كي يتفرغ وبشكل كامل للعمل بهدف رعاية والدته وشقيقتاه ، قد تزوج وأنجب الحفيد الذي حمل إسم جدّه ” محمد ” آملاً أن يلتقي الإسمان معاً في يوم من الأيام ، هذا بالإضافة الى زواج إبنته فلسطين ، والتي حضر حفل زفافها كُل قريب وبعيد .. ولكن !! قد تعذّر حُضور شخص واحد فقط وليس بإرادته .. ألا وهو والدها ” السجين ” طبعاً .

تقول أُم إبراهيم ” زوجة المُعتقل ” أبو علي يطا ، لقد تُوفي والد زوجي وهو داخل المُعتقل ، فبذلنا ما إستطعنا ولم نُوفر أي شيء يكُن ، بُغية أن تسمح لهُ سُلطات الإحتلال أن يُلقي ولو حتى نظرة الوداع على والده قبل أن يُدفن .. ولكن !! دون جدوى ، فالحُكومة الإسرائيلية والتي تدّعي الحفاظ على الإنسانية وإنتهاجها الديمُقراطية وإتباع حُقوق الإنسان ، قد رفضت السماح لزوجي أن يُلقي نظرة الوداع على والده .

سمير حسن أبو علي ، إبن عم المُعتقل ، قضى ستة عشر شهراً داخل السُجون الإسرائيلية ، عشرةً منها برفقة إبن عمه وزوج شقيقته ورفيق دربه في العمل ، المُعتقل أبو علي يطا ، فيقول سمير وبعد تنهيدة طويلة شعر الجميع أنها خرجت من أعماقه ، ما أطيب أبو علي ، لم يتوان ولو للحظة واحدة فقط في تقديم أي مُساعدة تُذكر ومهما كان شكلها لأي زميل لهُ داخل السجن ، فقد كان قوياً مؤمناً بعدالة قضيته ، يشدُّ على أيدي زُملائه وخاصّةً الجُدد منهم ، حيثُ يقول سمير : أذكر أننا تحدثنا طويلاً وكثيراً طيلة عشرة أشهر كاملة ، ولكن ما لستُ أنساه أبداً حين قال لي : ليضيع عُمري كلهُ خلف القُضبان فلا بئس .. ولبيقى وطني .

في حين قالت أُم إبراهيم : إن عُقوبة زوجي كانت أكبر بكثير وبغض النظر عمّا كان قد فعل ، ففي كُل يوم هُنالك شُهداء وأرامل ويتامى .. جرحى وبيوتٌ تُهدم وشجرٌ يُقطع وأرضٌ تُصادر .. فمن يُعاقب كُل هؤلاء ؟؟ ومن يُصغي إليّ ؟؟ ومن يُعوضني ويُعوض أبنائي عن 25 عاماً من الحرمان ولا زالوا ؟؟ من يُعوضني عن أربع سنوات كاملة مُنعتُ فيها من زيارة زوجي ولا حتى بأي شكل من الأشكال ، فقد كانت إدارة السجن قد منعتني من زيارة زوجي من العام 2000 وحتى أواخر العام 2004 .

والله ما كانت أُم إبراهيم هي التي تتفوه بهذا الكلام ، بل وكأنّ الإرادة بعينها كانت تجلس أمامي وتملأ الغُرفة إصراراً وتأكيداً على الصبر حتى ولو لآخر لحظة في حياتها ، فالمرأة التي حافظت على أبنائها وعملت على تربيتهم وصبرت مُدّة 25 عاماً على غياب زوجها ولا زالت تستمد الصبر من الصبر ، وكافحت وناضلت وجاهدت في سبيل أطفالها .. والله ما كانت تلك المرأة الاّ إمرأة فلسطينية.

وفي النهاية، كان أبو علي يطا ولا زال حتى يتم الإفراج عنهُ ، أقدم سجين على مُستوى مُحافظة الخليل ، والثالث على مُستوى الضفة الغربية وغزة ، كان قد أرسل بهدية بمناسبة زفاف إبنه الوحيد ” إبراهيم ” بتاريخ 29/10/1998 ، وذلك بدلاً من أن يحضر حفل الزفاف بنفسه ، فلو أنهُ إستطاع الحُضور لكان بالنسبة لولده أكبرهدية .

وفي نهاية المطاف ، أن تُقلّب في صفحات القصص الفلسطينية المأساوية ، فإنّك حتماً لن تنتهي أبداً ، فقصةُ أبو علي يطا ليست إلاّ مُجرد دمعة في مُحيط من الدُموع ليس إلاّ ، فمن يعيشُ كثيراً يرى ويسمع كثيراً، إحتلالٌ بدأ واللهُ وحدهُ أعلم متى سينتهي !! تماماً كقصة أبو علي ، فمتى سيُفرج عن أبو علي يطا بعد رُبع قرن من الإعتقال ؟؟ أقدم سجين على مُستوى الخليل والثالث على مُستوى فلسطين ؟؟ متى؟؟

نادي الأسير الفلسطيني