2/11/2008
* بقلم / عبد الناصر عوني فروانة
مليون ونصف المليون مواطن يعيشون في سجن هو الأكبر في العالم اسمه ” قطاع غزة ” ، ومحاصر من كل اتجاه براً وجواً وبحراً ، ” سجن كبير ” قلما سمعنا أو قرأنا عن مثيله في التاريخ ، وحقوق الإنسان فيه تُداس وتُنهك من قبل الإحتلال على مدار اللحظة ، والحقوق الأساسية والمواد الغذائية تقدم كلفتات انسانية بين الفينة والأخرى ، والحياة فيه مشلولة ، حافلة بالهموم ، محفوفة بالمخاطر والآلام ، ويبدو أن معاناتنا أصبحت جزء من حياتنا ، ولو أننا لم نتجرعها على درجات لما تمكنا من العيش في ” سجن غزة ” ، ومعتقلي قطاع غزة وذويهم ليسوا بمعزل عن هذا الواقع المرير ، ولكن معاناتهم مضاعفة .
فقرابة ( 900 ) أسير ممنوعين من زيارة ذويهم كعقاب جماعي ، ليس لشيء سوى لأنهم يقطنون قطاع غزة ، والمعاناة لم تقتصر عليهم فحسب ، بل تمتد لتطال الدائرة الإجتماعية الضيقة الخاصة بكل معتقل ، فلهؤلاء أمهات وآباء ، زوجات وأبناء ، اشقاء وشقيقات ، أحبة وأصدقاء وجيران ..الخ بمعنى أن العقاب الجماعي لا يقتصر على تسعمائة معتقل ، بل يشمل عشرات الآلاف من المواطنين الغزيين .
واذا عدنا للوراء عقد ونيف من الزمن ، سنجد بأن قضية الحرمان من الزيارات ليست بالقضية الجديدة ، فهي قديمة جديدة بدأت في العام 1996 ، حينما اصدرت سلطات الإحتلال آنذاك قانوناًَ يقضي بالسماح بالزيارات لمن هم من الفئة الأولى فقط كالأب والأم والزوجة ، بالإضافة للأبناء والأشقاء لمن هم أقل من 16 عاماً ، مما حرم ويُحرم الآلاف من الأهالي من الزيارة ، ومن ثم تصاعدت اجراءات المنع الفردي لمن يصنفون من ” الفئة الأولى ” من أطفال وآباء وأمهات وزوجات ، تحت حجج أمنية واهية وتحت ما يُسمى ” المنع الأمني ” ، وارتفعت قائمة الممنوعين تدريجياً في الضفة والقطاع والقدس أيضاً ، بل وبعض الأسرى لا يجدوا من ينطبق عليهم القانون ليتمكنوا من زيارتهم ، فظلوا بدون زيارات وبدون اجراء عقابي صريح ومعلن ، سوى أن القانون لا ينطبق على ذويهم .
ويا للمفارقة .. ففي الماضي كان ذوي الأسرى الفلسطينيين يتبنون الأسرى العرب ويقومون بزيارتهم .. واليوم وللأسف الشديد أهالي الضفة والقدس يتبنون أسرى قطاع غزة .. بل ومنهم من يتبنى أسرى من ذات المنطقة الجغرافية .
واستمر مسلسل الحرمان في التصعيد بعد تنفيذ خطة الإنفصال أحادية الجانب في سبتمبر 2005 ، حيث لا انتظام على الإطلاق لجدول الزيارات بالنسبة لذوي الأسرى من قطاع غزة ، فيما أصبحت نادرة بعد أسر الجندي ” جلعاد شاليط ” ، وارتفعت قائمة ” الممنوعين أمنياً ” بشكل غير مسبوق في تلك الفترة ، فيما وصلت الأمور ذروتها بعد أحداث حزيران 2007 حيث منع كافة ذوي معتقلي قطاع غزة وبشكل جماعي من زيارة أبنائهم الأسرى مدعية بأن ( ” اسرائيل ” ليست ملزمة بالسماح لسكان قطاع غزة بمن فيهم ذوي الأسرى بدخول مناطق نفوذها وزيارة أبنائهم المعتقلين في سجونها ) وأن القطاع ( كيان معادٍ يسيطر عليه تنظيم إرهابي، تسود بينه وبين إسرائيل حالة حرب )، وفي الضفة الغربية لم تنتظم الزيارات ، بل وتزايد عدد الممنوعين منهم تحت ما يسمى ” المنع الأمني ” .
بمعنى أدق فان الحرمان من زيارات الأهل بدأ عام 1996 كاجراء ممنهج في اطار سياسة منظمة ، وسار بشكل تصاعدي ، الى أن وصل ذروته في حزيران 2007 ولا زال يتصاعد بشكل فردي وجماعي .. تحت حجج مختلفة ، والأخطر أن سلطات الإحتلال تمنح هذه الإجراءات اللاقانونية ، غطاء قانوني وحصانة قضائية ، بما يعكس مدى الإنحطاط الأخلاقي واللإنساني للمؤسسة الأمنية والسياسية والقضائية الإسرائيلية في تعاملها مع حقوق الإنسان الفلسطيني بشكل عام والمعتقلين بشكل خاص.
ومن هنا أعتقد جازماً بأن ادعاءات ” اسرائيل ” باطلة ، وأسبابها المعلنة ما هي إلا ذرائع لمعاقبة الأسرى عموماً من كافة المناطق وليس معتقلي قطاع غزة فحسب ، واذا كان عدد معتقلي قطاع غزة المحرومين من الزيارة يقدر عددهم بـِقرابة ( 900 ) معتقل ، فان الآلاف من ذوي أسرى الضفة هم الآخرين ممنوعين من الزيارة بشكل فردي ، والإحصائيات تفيد بأن قرابة نصف الأسرى عموماً الذين يقدر عددهم بتسعة آلاف معتقل ، هم محرومين من الزيارة والجزء المتبقي يتزاورون بشكل غير منتظم وفي سياق رحلة معاناة طويلة تبدأ منذ لحظة الخروج من البيت في ساعات الصباح الباكر ، وحتى العودة له في ساعات المساء .
ولكن السؤال ماذا فعلنا ؟
حسب معرفتي فان وزارة الأسرى والمحررين قدمت خلال السنوات الماضية العديد من الشكاوي والمناشدات لمنظمة الصليب الأحمر باعتبارها الجهة المشرفة والمنظمة لبرنامج الزيارات ، وحاولت مراراً مع ادارة مصلحة السجون والجهات القانونية رفع المنع الأمني عن ذوي الأسرى ، ونجحت فعلياً بعودة الزيارات وانتظام الجدول أحياناً ، وبرفع المنع الأمني عن عدد من الأهالي والسماح لبعض الأسرى بزيارة ذويهم بعد سنوات من المنع ، إلا أن ذلك بقيّ في اطار معالجة الأمر كحالات فردية ، دون علاجها بشكل جذري .. وبالتالي بقيت المشكلة قائمة .
وأعتقد أنه آن الآوان لأن نقف أمام ذواتنا لنقيَّم دورنا .. وأن لا ننظر للقضية وكأنها حديثة ومقتصرة فقط على ” قطاع غزة ” ، ونحاول أن نقنع أنفسنا بتبريرات الإحتلال وذرائعه ، فالقضية كما قلت آنفاً قديمة جديدة وتعود للعام 1996 … ومنذ ذلك التاريخ لم نتحرك بشكل جدي ، لا مؤسسات رسمية ولا مؤسسات المجتمع المدني أو المؤسسات الدولية الفاعلة في فلسطين والتي تتغني بالديمقراطية وحقوق الإنسان وتعنى بالأسرى والمعتقلين ، وتمتلك الإمكانيات والقدرات الهائلة .
وأعتقد أن قصورنا هذا وعدم متابعتنا الجدية لهذا الملف أتاح المجال لسلطات الإحتلال لإتخاذ المزيد من الإجراءات القمعية والعقابية بحق الأسرى وذويهم وسلب حقهم في التزاور .
واذا بقيّ فعلنا على حاله ، فبتقديري الشخصي فان برنامج زيارات الأهل لن يعود الى الإنتظام ، وستبقى المعيقات ، ولن يرفع المنع الأمني عن كافة ذوي الأسرى ، حتى لو أزيلت الأسباب المعلنة من قبل سلطات الإحتلال .
ومن هنا أدعو كافة المؤسسات الحقوقية والإنسانية لا سيما تلك التي تحظى بامتدادات دولية وتربطها علاقات واسعة مع المؤسسات الحقوقية الدولية الى الإسراع في التحرك وبشكل جدي وفاعل لوضع حد لهذه الجريمة الإنسانية .. واذا كانت اسرائيل تتحجج باطلاً بشاليط في غزة وسيطرة حماس عليه واعتباره ” كيان معادي ” ! فلماذا تعاقب الآلاف من ذوي أسرى الضفة الغربية من زيارة أبنائهم ؟ واذا كان فتح المعابر مع غزة يشكل خطرًا على سلامة الجنود والمواطنين الإسرائيليين كما تدعي ظلماً ؟ فعليها أن تلتزم بما تقتضيه المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر نقل المعتقلين جبرياً من أراضي الدولة الواقعة تحت الإحتلال لأراضي دولة الإحتلال بشكل فردي أو جماعي ، ومن جانب آخر فليس هناك من معابر في الضفة الغربية فلماذا تضع العراقيل أمام وصول الآلاف من ذوي الأسرى لزيارة أبنائهم ؟
هذا كله يؤكد بما لا يدع مجالا للشك على أن اسرائيل تمارس سلب حق الأسرى في زيارات ذويهم منذ سنوات وبشكل ممنهج كعقاب جماعي للطرفين ، لأن سلبه من أي طرف يعني جدليا سلبه من الطرف الآخر ، وعلى وسائل الإعلام المختلفة ابراز هذه المعاناة المتفاقمة بكل أبعادها وحيثياتها ، وعدم الإنسياق وراء الذراع التي تسوقها سلطات الإحتلال بين الفينة والأخرى .