27/11/2008

*كتب / عبد الناصرعوني فروانة

محمد أبو هدوان .. أسير فلسطيني أمضى في سجون الإحتلال الإسرائيلي قرابة عشرين عاماً ، وبالرغم من طول سني الأسر وأمراضه العديدة وخطورتها ، و كبر سنه ، إلا أن سلطات الإحتلال أهملته طبياً ولم تقدم له العلاج المناسب ، وكبلت يديه وقدميه بالسلاسل الحديدية بالسرير الذي يرقد عليه في ما يسمى مستشفى سجن الرملة ، ورفضت الإفراج عنه كي لا تمنحه فرصة قضاء بضعة سنوات أو حتى بضعة شهور ، أوعدة أيام محدودة بين أهله وأسرته وأحفاده .. وفضلت الإستمرار في اعتقاله ومواصلة اعدامه ببطء شديد ، انطلاقاً من سياستها الإنتقامية منه ومن أمثاله ومن شعبه عامة والمقدسيين خاصة … ليلتحق في نوفمبر عام 2004 بقافلة شهداء الحركة الوطنية الأسيرة .. وبالرغم من رحيله ، فان ذكراه باقية فينا ، وسيبقى استشهاده شاهداً على سياسة الإهمال الطبي المتبعة داخل سجون الإحتلال الإسرائيلي .. وسيبقى أيضاً شاهداً على العصر .. عصر الجريمة المنظمة التي ترتكب خلف القضبان بحق أسرانا واسيراتنا … فمن هو الشهيد الأسير محمد أبو هدوان ..؟

وُلد الشهيد الأسير محمد حسن أبو هدوان عام 1945 في مدينة القدس المحتلّة وفيها سكن، ومنها أًسر ضمن مجموعة فدائية بتاريخ 3-10-1985 وحُكم عليه آنذاك بالسجن مدى الحياة ، أمضى منها عشرون عامًا متنقّلاً بين معتقل المسكوبية، وعسقلان، ونفحة ومستشفى الرملة، وتعرض خلالها لصنوف مختلفة من التعذيب والإنتهاكات والقمع والإجراءات التعسفية ، ونُقل خلالها إلى زنازين العزل عدة مرات ولمُدد طويلة، بالرّغم من وضعه الصحي الصعب، ممّا أدّى إلى تدهور حالته الصحيّة ، ويعتبر الأسير أبو هدوان آخر من استشهد من الأسرى المقدسيين بسبب الإهمال الطبي ، حيث استشهد في الرابع من نوفمبر عام 2004.

ومع مرور سني الإعتقال تدهور وضعه الصحي ، وثلاثة أرباع قلبه توقفت عن الخفقان ، ولم يعد سوى 25 % فقط منه تعمل ، وفقد الذاكرة جزئياً ، وشرعت الأمراض تنخر جسده دون رعاية تذكر ودون توفير العلاج اللازم له ، مما فاقم من معاناته بشكل خطير ، ويقول أبو هدوان في رسالة من سجنه قبل استشهاده ” أنا لا أدري كيف سينفع الدواء مع السجان… كيف يداوي الذئب الحمل ؟.. يقولون في الطب الراحة النفسية ضرورية للمريض، أنا لا أطالب براحة نفسية، لأن هذا يستحيل تحقيقه، وروح الأسير تحس بوخزات الأسلاك الشائكة كلما سافرت بأحلامها أو عادت من سفره “.‏

ولم يعد أبو هدوان يحتمل ظروف السجن وقساوته وفضل الموت مرة واحدة على أن يموت مرات ومرات ، إلا أن ادراة السجون فضلت الإنتقام منه ببطء شديد والإقدام على اعدامه عشرات المرات من خلال منظومة من الإجراءات التعسفية بحقه وبحق الكثير من الأسرى .

ويضيف الباحث المختص بشؤون الأسرى عبد الناصر فروانة في مقالته .. حاولت سلطات الإحتلال زيفاً وبطلاناً أن تبدو وكأنها حريصة على حياته فكانت تنقله تارة بعد إلحاحات كثيرة واجراءات بطيئة الى ما يسمى مستشفى الرملة وهو أبعد من أن يكون مستشفى ولا وجه تشابه بينهما ، وتارة أخرى تسمح بادخال أدوية له ، إلا أنها وفي كل الأحوال لم تقدم له العلاج المناسب في الوقت المناسب ، وبالتالي ساءت حالته الصحية إلى درجة ميؤوس منها ، وبدلاً من اطلاق سراحه عملاً بوصية الأطباء والإكتفاء بعشرين عاماً أمضاها في الأسر ، نقلته مكبل الأيدي والأرجل الى مستشفى ” اساف هروفيه ” الإسرائيلي في منطقة رحوفوت ، ليرقد هناك على أحد الأسرة مكبلاً الأيدي والأرجل بالأصفاد الحديدية رغم خطورة وضعه الصحي في ظل حراسة مشددة ، الى أن فارق الحياة في الرابع من نوفمبر عام 2004، في مشهد كشف عن الوجه الحقيقي للإحتلال وبشاعته واجرام ادارة السجون الإسرائيلية ، وتجاهلها للنداءات المتكرّرة للمؤسّسات الحقوقية والإنسانية بالإفراج عنه مراعاةً لوضعه الصحي الخطير، وعدم قدرته على تحمل ظروف الحياة في الأسر، وعملاً بوصية الأطباء بضرورة الإفراج الفوري عنه بسبب تردّي حالته الصحيّة.

والشهيد الأسير أبو الحسن متزوج وله خمس بنات وثلاثة أولاد، الأولاد تزوجوا، والبنات الا واحدة ، وذات مرة سؤل عن ذلك ” كلهم تزوجوا وأنت في السجن ؟ فأجاب بابتسامة مريرة .. ” نعم وأنا على برشي (سريري)، تصورت حفلاتهم في خيالي…”.‏

وتقول زوجته أم حسن : ” كانت لدينا آمال كبيرة بإمكانية الإفراج عنه، صرنا ننتظره يوماً تلو الآخر، نحلم بعودته سيراً على الأقدام ، ووراح أولاده وأحفاده يحلمون كل على طريقته بيوم الإفراج عنه، وحلمنا جميعاً أن نذهب وإياه للصلاة في المسجد الأقصى… لم نكن نتخيل أن كل ما اعتقدناه سيحدث يوماً ، سيأتينا كومة أحزان على شكل تابوت …”. ..

ولم تكن أحلام الشهيد أبوهدوان أبعد مما يرنو إليه أبناؤه وعائلته، وكان دائما يردد ” أريد أن أقتعد مكاناً بينهم ولو للحظة واحدة قبل أن يقتعد نعشي على أكتفاهم…”.‏

محمد أبو هدوان .. لم يتحقق حلمه ولم تشفع له سنوات سجنه الطويلة ولا أمراضه العديدة والخطيرة ، ولم ينعم بتلك اللحظة ، وفي الرابع من تشرين ثاني / نوفمبر 2004 ، و بعد عقدين من الأسر ، عاد مستشهداً محمولاً على الأكتاف .. ليرحل عنا جسداً … لكنه ساكناً فينا لم ولن يرحل أبداً وذكراه باقية في وجداننا .. فلك المجد ومنا العهد والوفاء .

* أسير سابق وباحث مختص بشؤون الأسرى وموقعه الشخصي ” فلسطين خلف القضبان ”
http://www.palestinebehindbars.org